نشرت رئاسة الحكومة في 08 جانفي الماضي أمرًا حكوميًّا يتعلّق بإدماج المعلّمين والأساتذة النوّاب بالمدارس الابتدائيّة والمدارس الإعدادية والمعاهد التابعة لوزارة التربية. مثّل قرار الإدماج هذا فرصة للقطاعات الأخرى للمطالبة بتسوية وضعيات أعوانها وموظّفيها، وصلت في بعض الأحيان إلى حدّ الإضراب عن العمل للضغط على الحكومة من أجل الاستجابة إلى مطالبهم. فيما ذكرت وزيرة المالية السابقة سهام بوغديري نمصية في جلسة عامّة عُقدت بالبرلمان في 27 ديسمبر 2024 أنّ قانون المالية لسنة 2025 أقرّ انتداب حوالي 21376 عونًا جديدًا بالوظيفة العمومية، مع إدراج 12.000 عون بعنوان تسوية وضعية عمال الحضائر.
وجدت الحكومة نفسها في مأزق إزاء تفاقم المطالب الاجتماعية من مختلف القطاعات، في ظلّ ارتفاع نسبة البطالة إلى 16%، وصلت في الثلاثي الأول من سنة 2024 إلى 23.4% لدى حاملي الشهادات العليا وفق معطيات المعهد الوطني للإحصاء، مع بلوغ نسبة التضخم 6% في شهر جانفي من هذه السنة، وفق المصدر ذاته. ولكنّها أقرّت انتدابات جديدة في قانون المالية لهذه السنة، وشرعت في إدماج المعلّمين والأساتذة النواب، ممّا أثار غضب القطاعات الأخرى التي خاضت تحرّكات احتجاجيّة، ولكنّها دائمًا ما كانت تُمسك العصا من الوسط، إذ ترفع الشعارات الغاضبة ولكنّها لا تنفكّ تُردّد ثقتها في الرئيس قيس سعيد الذي وعد بالقطع مع كلّ أشكال التشغيل الهشّة.
الحضائر والآلية 20: سنوات من الانتظار
أمضت حكومة هشام المشيشي في 20 أكتوبر 2020 محضر اتّفاق مع الاتحاد العام التونسي للشّغل، تمّ بمقتضاه تقسيم عمال الحضائر إلى ثلاث فئات، تتعلّق الأولى بمن هم أقلّ من 45 سنة، فيما تهمّ الفئة الثانية من يتراوح سنّهم بين 45 و55 سنة، أمّا الفئة الثالثة فتشمل من تجاوزت أعمارهم الـ55 سنة. وقد صدر قانون في 07 جوان 2021 يشير إلى إجراءات تسوية وضعيات عمّال الحضائر، منها مثلا عدم اعتماد صيغة المناظرة الخارجية بالملفات والاختبارات على الانتداب المباشر لعملة الحضائر ممن تجاوز سنهم 45 سنة، و تسوية وضعياتهم عبر انتدابهم على دفعات سنوية، أو منح صك مغادرة لمن اختار منهم الخروج الطوعي. لكنّ الأمر الترتيبي المتعلّق بتطبيق هذه الإجراءات لم يصدر منذ ذلك الوقت، على عكس الفئة الأولى ممّن لم يتجاوز سنّهم الخامسة والأربعين، الّذين صدر في شأنهم في تلك الفترة أمر حكومي عدد 463 لسنة 2021، وهو ما دفع بمجمع التنسيقيات الجهوية لعمال الحضائر 45-55 إلى إصدار بيان يوم 07 فيفري، دعَوا السّلطة من خلاله إلى “إصدار الأمر الخاص بتحديد معايير الإدماج وإعطاء الإذن للمصالح المختصة بضبط القائمة بصفة نهائية وفتح منصة الدفعات والشروع في إدماج الدفعة الأولى وتدارك التأخير… والإذن بصرف الزيادات المتتالية في الأجر الأدنى بمفعولها الرجعي”.
فيما أعلن مجموعة من الأعوان والإطارات العاملين وفق الآلية 20 والمتعاقدين مع المركز الدولي للأشخاص ذوي الإعاقة بولايتي القصرين وسيدي بوزيد، دخولهم في إضراب جوع مفتوح داخل مقر الإدارة الجهوية للشؤون الاجتماعية بسيدي بوزيد، يوم الأربعاء 22 جانفي 2024، احتجاجًا على ما يُسمّونه “سياسات الابتزاز والتجويع التي تمارسها سلطة الإشراف ضدّهم”، وفق نصّ البيان الّذي نُشر في 21 جانفي 2025. “تمّ انتدابنا في ديسمبر 2023 في المركز الدّولي للأشخاص ذوي الإعاقة، ورغم مرور أكثر من سنة على ذلك إلا أنّنا مازلنا نناضل من أجل الترسيم والتغطية الاجتماعية والأجر الحقيقي”، تقول آمنة الزويدي المنسّقة الوطنية على أعوان الآلية 20 للمفكرة القانونية. كما يُطالب الأعوان والإطارات وفق البيان بإدراجهم ضمن ميزانية المركز الدولي للأشخاص ذوي الإعاقة كمشغل رسمي، عوضًا عن صرف منحهم من صندوق التضامن الاجتماعي.
خرّيجو الجامعات ممّن طالت بطالتهم: غضب تُقابله ثقة في السّلطة
“خرجت من الرديّف (الواقعة في الجنوب الغربي لتونس) في العاشرة ليلا ووصلت إلى هنا (ساحة القصبة بالعاصمة تونس) في حدود الرابعة والنصف صباحًا، واستعرت بعض النّقود لتأمين مصاريف تنقّلي هنا، وأنا لا أكاد أُفوّت حراكًا للمطالبة بالتشغيل. لا طاقة لي اليوم بتحمّل هذه البطالة التي أعيشها، وأريد فقط أن أعيش وأؤمّن حياة هانئة لابنتي”، تقول إحدى السيدات التي طالت بطالتها على امتداد عشرين سنة، للمفكرة القانونية، خلال التحرّك الّذي نظّمته التنسيقية الوطنية لخرّيجي الجامعات ممّن طالت بطالتهم، يوم 06 فيفري الفارط.
أصرّ المحتجّون خلال ذلك التحرّك على الحصول على إجابة واضحة ونهائيّة من الحكومة، في اتّجاه تشغيلهم ومراعاة وضعياتهم الاجتماعية الهشّة، حيث يتقدّم بهم العمر دون الحصول على وظيفة تؤمّن لهم عيشًا كريمًا، وتخطَّوا الحواجز الأمنيّة متقدّمين نحو مقرّ رئاسة الحكومة، وسط حضور أمني مكثّف. “ذقنا الأمرَّيْن من البطالة. أنا متحصّل على ماجستير في الإعلامية ولم أشتغل، وأنا معطّل عن العمل منذ ستّ عشرة سنة. كلّ الأبواب مغلقة. نطالب بقرار رئاسي يضمن لنا التشغيل على أساس قاعدة تكافؤ الفرص مثلما حصل مع الأساتذة النوّاب”، يقول مفتاح غريسي، أحد المعطّلين عن العمل، للمفكرة القانونية. فيما يشير علاء الشخاري المنسّق الجهوي لخرّيجي الجامعات ممّن طالت بطالتهم في ولاية أريانة، إلى أن المطلب الأساسي للمعطّلين عن العمل هو إصدار أمر رئاسي وإحداث تطبيقة إلكترونية تُدرَج فيها أسماء خرّيجي الجامعات، يتمّ من خلالها ضمان مواطن شغل لفائدتهم باعتماد معيارَي السنّ وسنة التخرّج دون الارتباط بأي شكل من أشكال التناظر. “مطلبنا هو الانتداب الفوري دون الخضوع إلى التناظر أو أيّ شرط آخر”، يقول علاء للمفكرة القانونية.
القيّمون والمرشدون التربويون: “نرفض عقود العبودية”
تقول صابرين الغزواني، الناطقة باسم تنسيقية القيمين والمرشدين المتعاقدين صلب وزارة التربية في حديثها للمفكرة القانونية: “قاطعنا العمل بشكل فعلي يوم 08 جانفي إثر صدور الأمر المتعلق بترسيم الأساتذة والمعلمين النواب تنديدًا بالإقصاء المُمنهَج الّذي يُمارَس علينا، والحال أنّ القيّمين والأساتذة كلّهم يخضعون لإشراف وزارة التربية”.
يبلغ عدد المرشدين التربويين والقيّمين 1228، يشتغلون بعقود هشّة في المؤسسات التربوية ويتقاضَوْن مِنَحًا خاضعة لضريبة ولا يتمتّعون بالتغطية الصحيّة والاجتماعية. تقول صابرين الغزواني إنّ القيّمين والمرشدين تمّ توظيفهم في 2019 بمقتضى الأمر الحكومي عدد 1046 لسنة 2018 المتعلّق بضبط أحكام خاصّة بعقود تسديد الشغورات الظرفية بالمؤسسات التربوية الراجعة بالنظر إلى وزارة التربية، هذه العقود مدتها تسعة أشهر، متزامنة مع انطلاق السنة الدراسية ونهايتها، حدّدها الأمر الحكومي من 01 أكتوبر إلى 30 جوان، وهو ما يعني أنّ الأشهر الثلاثة المتبقيّة من السنة تكون غير مدفوعة الأجر، وفق صابرين الغزواني، التي تضيف بأن هذا الأمر دفع القيّمين والمرشدين التربويين إلى الاحتجاج منذ سنة 2020، لكنّ الاحتجاجات لم تُفضِ إلى نتائج، نظرًا لتجميد الانتدابات والإجراءات الّتي فرضتها الوضعية الوبائية آنذاك. وفي سنة 2023، صدر الأمر عدد 54 لسنة 2023 المتعلّق بضبط أحكام استثنائية لترسيم الأعوان والعملة الوقتيين والمتعاقدين للدولة والجماعات المحليّة. “كنّا نعتقد أنّ هذا الأمر سيُفضي إلى ترسيم الأعوان الوقتيين والأعوان الّذين يشتغلون بعُقود مُنظَّرة، ولكنّنا فوجئنا بصدور مُذكّرة تستثني القيّمين والمرشدين التربويين المشمولين بالأمر الحكومي عدد 1046، على اعتبار أنّ الأساتذة والمعلّمين النوّاب لهم الأولوية في التسوية لأنهم أكثر منَّا عددًا. مع تعاقُب الحكومات والوزراء لم نتوصّل إلى اتّفاق نهائي حول تسوية وضعياتنا رغم الترفيع في المنحة المُسداة من 750 دينار إلى 1250 دينار في عهد الوزير محمّد البوغديري، فيما وعدتنا سلوى العبّاسي الوزيرة التي تمّ تعيينها بدلًا عنه بتسوية وضعياتنا بحلول يوم 14 سبتمبر 2024، ولكن بقيت الأمور على حالها وعُدنا إلى الشارع نطالب بحقنا في التشغيل ورفضا لهذا الإقصاء المُمنهج، ولعُقود العبوديّة”، تقول صابرين الغزواني.
الدّكاترة والأعوان المُنتدبون دون مستوى شهائدهم العلميّة
كانت ساحة القصبة يوم الخميس 30 جانفي الفائت منقسمة إلى تجمُّعَين: تجمّع أوّل للمتحصّلين على شهادات الدكتوراه الّذين يسعون إلى إنهاء “أشكال التشغيل الهشّ وعقود الاستغلال”، وتجمّع ثان ينظّمه الأعوان المُنتدَبون دون مستوى شهاداتهم، للمطالبة بتسوية وضعياتهم المهنيّة. القاسم المشترك بين الحاضرين والحاضرات في كلا التجمّعين؛ هو من ناحية هشاشة الوضعيات الاجتماعية وتدنّي الأجور، ومن ناحية أخرى الثقة في مؤسسة رئاسة الجمهورية في تسوية وضعياتهم الشّغليّة، تماهيًا مع الخطاب الرسمي الّذي تروّج له السّلطة فيما يتعلّق بالقضاء على كلّ أشكال التشغيل الهشّ.
وقد أصدر حراك الدكاترة الباحثين المقصيّين عن العمل بيانًا في 30 جانفي، طالبوا فيه بإدماجهم في القطاع العامّ وتنقيح القوانين لتسوية وضعياتهم المهنية، إلى جانب تحويل الساعات العرضيّة إلى خطط قارّة، “حيث تشير الإحصائيات التقريبية إلى وجود 360 ألف ساعة تدريس عَرَضيّة وإضافية في الجامعات التونسيّة، ما يُعادل 1150 خطّة قارّة “، وفق نصّ البيان. كما يُطالب الحاصلون على شهادة الدكتوراه مراجعة آليات الإلحاق في الجامعات في اتّجاه إيلاء الأولوية في سدّ الشغورات للأساتذة الباحثين. إذ أنّ أكثر من 2147 أستاذ تعليم ثانوي ملحق بالجامعات، وفق ما ورد بالبيان. كما يُطالب “الدّكاترة” بإحداث قانون خاصّ بمخابر البحث العلمي، التي تشمل 572 مخبرا تابعًا لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، و110 مراكز بحث في باقي الوزارات والمنشآت. “منذ أكتوبر 2023 ونحن نطالب بتسوية وضعياتنا وبإدماجنا في الجامعات بما يُحسّن وضعيتنا ويردّ الاعتبار للدكاترة. في بعض الأحيان، تصل أجور الدكاترة إلى 170 دينارًا شهريًّا، تُصرف على دفعات”، تقول مريم الدزيري، إحدى المشاركات في تحرّك الدكاترة العاطلين عن العمل، للمفكرة القانونية.
فيما يُطالب الأعوان المنتدَبون دون مستوى شهاداتهم بتسوية وضعياتهم الشغلية بما يتلاءم مع تحصيلهم العلمي، عوضا عن لجوء الإدارات إلى انتدابات جديدة. تقول إحدى الحاضرات في الوقفة الاحتجاجية، إنّ تسوية الوضعيات كلفتها أقلّ من انتداب موظّفين وأعوان جدد، فيما تشتكي زميلتها وتقول إنّها حاصلة على ماجستير في التصرّف ولكنّها تشتغل برُتبة عاملة. ويتساءل الفاهم، وهو عون حالة مدنيّة بإحدى البلديات: “هل يُعقل أن أكون أنا متحصّلًا على شهادة تقني سامي، وأن يكون رئيسي في العمل متحصلا فقط على شهادة ختم الدروس الابتدائية؟ هذا غير منطقي. أنا شخصيا رفضت العمل. ومن سيدفع الضريبة في المقابل؟ المواطن، ولا أحد غيره”. فيما يقول سامي الخذري، الناطق باسم الأعوان المنتدبين دون مستوى شهاداتهم للمفكرة القانونية: “إنّ كلّ الحاضرين في هذه الوقفة حاصلون على شهادات علميّة، من الباكالوريا إلى الماجستير. أنا متحصّل على شهادة ماجستير، وأشتغل برتبة عامل”، داعيًا إلى تطبيق الأمر المتعلق بترسيم الأعوان والعملة الوقتيين والمتعاقدين للدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية، المؤرّخ في 31 جانفي 2023.