“ونبقى صوتًا حُرًّا في خدمة الحرية”، تُطالعكم هذه الجملة، ولكن باللّغة الإنكليزية، عندما تفتحون موقع قناة “أم تي في” اللبنانية لمعرفة تفاصيل عنها. القناة نفسها التي أقدمت إدارتها يوم الجمعة الماضي على طرد الصحافية إلسي مفرّج الموظفة لديها، لرفضها الاختيار بين عملها النقابي كمنسّقة لتجمّع نقابة الصحافة البديلة، وبين عملها في المحطة الذي يشكّل مصدر رزق لها. وبذلك وظّفت القناة “صوتها الحرّ” لخدمة قمع وإسكات الصحافيين والصحافيات في لبنان الذين يخوضون معركة الحقوق والحريات، ضاربةً الدستور والقوانين والاتفاقيات والمعاهدات الدولية عرض الحائط تحت شعار “الوفاء للمؤسّسات”.
وبحسب البيانالصادر عن تجمّع نقابة الصحافة البديلة، فإنّ هذا الإجراء أتى كردة فعل على البيان الذي أصدرته النقابة البديلة في تاريخ 16 كانون الأول 2024، رفضًا للإجراءات القضائية التي اتّخذت في الشكاوى المقدّمة من قبل MTV ضدّ عددٍ من الصحافيين والناشطات على وسائل التواصل الاجتماعي بتهمة التحريض عليها. وذكّر بيان النقابة بأنّ الصحافيين لا يمثلون للتحقيق إلّا أمام قاضي تحقيق وليس أمام الضابطة العدلية، واعتبر بأنّ توقيف الناشطات يخالف مبادئ حرّية التعبير. وقد وضعت إدارة قناة MTV الزميلة مفرّج أمام خيارين للمحافظة على عملها، وهما إمّا تراجع النقابة عن البيان أو استقالتها من النقابة، “وإلا أعتبر نفسي خارج القناة”، تقول إلسي. وبرّرت الإدارة قرارها بأنّ البيان – الذي لم يأتِ على ذكرها – “مسيء لها” وبأنّه يجدر بالعامل لديها أن يكون وفيًّا لها. ومع تخيير صحافية ما بين عملها ونشاطها النقابيّ أي مساومتها على حرّيتها، ترسّخ MTV نفسها وجهًا من أوجه السلطة التي تقمع من لا يتوافق مع آرائها. والمفارقة أنّ إلسي كان سبق أن اعتُقلت بسبب مشاركتها في تظاهرات ضدّ قمع القناة نفسها وقرار إقفالها من السلطة عام 2002.
“أنا بعدني على مبادئي، ما تغيّرت. رح دافع عن حرّية التعبير للآخر، متل ما كنت قبل، ومتل ما بعدني، ورح ضلّ”، تقول إلسي في حديث مع “المفكرة”، تعليقًا على اعتقالها في العام 2002 من أجل حرية MTV وعلى موقفها اليوم. ففي ذلك الحين، وبعد ترشّح رئيس مجلس إدارة القناة، غابريال المرّ، للانتخابات النيابية الفرعية في دائرة المتن الشمالي في جبل لبنان، صدر قرار بإقفال القناة على اعتبار وجود خروقات انتخابية من ضمنها خروقات تتعلّق بتغطية القناة للانتخابات، وتمّ تنظيم اعتصام مفتوح وكانت إلسي من المشاركات فيه الذين رفعوا الصوت ضدّ القمع، حيث تقول “كنت لا أزال طالبة جامعية وناشطة في التيار الوطني الحرّ الذي بدوره دعم المرّ في ترشّحه وكان له دور أساسي في فوزه في الانتخابات، وشاركت في الاعتصام الذي امتدّ أسبوعًا تقريبًا، وتلى ذلك تظاهرات في وسط بيروت، وكان وجهي ظاهرًا بوضوح في الفيديوهات، وبعدها شاركت في اعتصام ثانٍ أمام كلية العلوم في الجامعة اللبنانية عندما صدر القرار النهائي بالإقفال، وحينها تمّ اعتقالي”. واليوم، بعد ما يزيد عن عشرين سنة، دخلت إلسي معركة الحرّيات في وجه القناة نفسها التي دافعت سابقًا عن حرّيتها.
“بعد استدعاء ثلاث ناشطات على سوشيل ميديا للتحقيق في مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، وإصدار خبر يتعلّق بتوقيفهنّ، إضافة لتسريب خبر عن توجّه لاستدعاء صحافيين وصحافيات أمام المكتب، أصدر التجمّع موقفًا لا يتعارض مع حقّ “أم تي في” في التقاضي طالما ترى في تصريحاتهنّ وكتاباتهنّ تعرّضًا لها وتحريضًا عليها”، تقول إلسي، موضحة أنّ “موقف التجمّع جاء ليذكّر بأمر مكرّر لدينا، وهو أولًا إلزامية عدم حصول تحقيق مع أيّ صحافي إلّا أمام قاضي تحقيق، وثانيًا التذكير بأنّ قضايا النشر لا يحصل فيها توقيف احتياطي”. ومع تخييرها بين عملها النقابي وعملها في القناة، قرّرت إلسي أن تختار “المبادئ”. وانطلاقًا من هنا، والتزامًا بقانون العمل الذي يمنع أن يكون هناك أيّ تخيير بين العمل والعمل النقابي واعتبار أنّ أيّ صرف من هذا النوع هو صرف تعسّفي، فأنا اعتبرت أنّه قد تمّ صرفي تعسّفيًا وقدّمت دعوى صرف تعسّفي ضدّ قناة MTV”.
لم ترضَ هذه الأخيرة إلّا أن تردّ على المسار القضائيّ الذي اختارت مفرّج أن تسلكه، وذلك في تقرير شديد اللهجة بث في نشرة الأخبار، ذكر أنّ الصحافية “تدّعي المظلومية”، و”أنّ القناة لم تطردها أوّلًا، وهي تعمل في المؤسّسة بدوام حر ليوم واحد في الأسبوع بصفة متعاقدة ضمن برنامج صار الوقت”، في حين تؤكّد إلسي أنّ كلّ مسارها المهنيّ معهم واضح وصِفته واضحة بحسب القوانين والقضاء له وحده الكلمة الفصل.
من برنامج “كلام الناس” (على اللبنانية للإرسال) إلى “صار الوقت”، ودّعت إلسي 10 سنوات من العمل مع الإعلاميّ مارسيل غانم في منشور على حسابها على “إنستغرام”، معلنة أنّها باتت خارج MTV بعد 5 سنوات من انضمامها إليها. رحلة كان فيها الكثير من المحطّات الاستثنائية في عملها الصحافي، حيث قامت إلسي بتغطية غزو تنظيم داعش لقضاء سنجار في محافظة نينوى في العراق، وكانت من ضمن الفرق الأولى التي وصلت للمكان في اليوم نفسه، ولم تغب عن أيّ من الأحداث في لبنان، وأبرزها وجودها ضمن آخر فريق إعلامي يدخل إلى عرسال قبل خطف الجنود اللبنانيين، إضافة إلى مواكبتها لقضايا المفقودين، والملفات الطبية في قضايا الطفلتين إيلا طنوس وصوفي مشلب، وغيرها. وفي بداية مشوارها مع MTV كان فريقها الوحيد الذي دخل إلى سوريا في فترة حكم الأسد، وختمت مشوارها مع القناة بتقرير عن المفقودين اللبنانيين في سوريا ما بعد سقوط النظام. إضافة إلى عملها في تحليل الأرقام، وتدريب أكثر من 500 طالب وطالبة على تقنيات المناظرة.
وتميّزت تقارير إلسي في “صار الوقت” بالمهنيّة العالية واستندت إلى مقاربة علمية بعيدًا عن التحريض، وشكّلت في الكثير من الأحيان محاولة لتصويب النقاش في قضايا مثيرة للجدل، بينها موضوع اللجوء السوري الذي انتشر حوله الكثير من المعلومات المغلوطة التي استخدمت للتحريض.
أمام وزارة الداخلية بعد سحل الصحافيين أمام ثكنة الحلو ٢٠٢٠
MTV تخالف القانون
واعتبرت “المفكرة القانونية”، في موقف تعليقًا على القضية أنّ “التصرّف السلطويّ الذي عبّرت عنه MTV في التعامل مع الزميلة إلسي، يشكّل في عمقه وسيلة إكراهية لمنع صحافية لبنانية من التمتّع بحقها المدني في ما يشكّل جرمًا جزائيًا عملًا بالمادة 329 من قانون العقوبات (اجتهاد نقابيي سبينس). وهو إنْ دلّ على شيء، فعلى أولويّة تنظيم وسائل الإعلام على نحو يحمي حرّيات الإعلاميين ويضمن احترام أخلاقيات المهنة”.
وبهدف وضع حدّ للجدل القائم عمّا إذا كانت القناة قد طردت إلسي أم لا، أوضح المستشار القانوني لتجمّع نقابة الصحابة البديلة، فاروق المغربي، في اتصال مع “المفكرة”، أنّ مفرّج قد صرفت تعسّفيًا، مستندًا إلى أنّ “المادة 74 من قانون العمل حدّدت على أيّ أساس يتمّ الصّرف ولا يكون تعسّفيًا، فيما حدّدت المادة 50 متى يكون الصرف تعسّفيًا ومنها في حال طرد العامل لأسباب تتعلق بممارسة عمله النقابي، وهو ما ينطبق على قضية إلسي، حيث تمّ تخييرها بين تراجع التجمّع عن بيانه أو ترك التجمّع، وإلّا اعتبار نفسها خارج المؤسسة”. ويتابع “هذا صرف تعسّفيّ، ويتضمّن فعل ابتزاز لمنع شخص من ممارسة حقّه في التعبير وممارسة حريّته المدنية، وانتهاك هذه الحرية”.
إضافة إلى ما سبق، يؤكّد المغربي أنّ قرار قناة MTV هو مخالف للدستور اللبناني (الفقرتين ب وج، والمادة 13)، حيث تكفل المادة 13 “حرّية إبداء الرأي قولًا وكتابة وحرّیة الطباعة وحرّیة الاجتماع وحرّیة تألیف الجمعیات كلّها مكفولة ضمن دائرة القانون”. كما يخالف حرية تكوين الجمعيات والنقابات وفق المواد 19 و22 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والمادة 8 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبناءً على ما سبق تقدّمت إلسي عبر محاميها المغربي بدعوى صرف تعسّفي، إضافة إلى دعوى بسبب صرف أعضاء مجلس نقابي من عملهم.
من تحرّك للتجمّع تضامنا مع المصور حسن شعبان امام وزارتي الداخلية والاعلام
التضييق على حقّ العمل النقابي
التضييق على الحرّيات ومن ضمنها حقّ العمل النقابي، كما في قضية الزميلة إلسي مفرّج لا يعدّ سابقة، فعلى سبيل المثال، سبق أن قرّر وزير التربية عباس الحلبي عدم تجديد عقد المدرّسة نسرينشاهين كمتعاقدة منذ أكثر من عشر سنوات. وفي حين ورد في قرار الوزير “انتفاء الحاجة لخدمات” هذه المدرّسة كمبرر للقرار، وضعت حينها شاهين وعددٌ من الأساتذة إجراء الوزير في خانة العقاب والكيديّة، وذلك لأنّها وهي رئيسة اللجنة الفاعلة للأساتذة المتعاقدين في التعليم الرسمي الأساسي، أي شاهين، لطالما “رفعت الصوت بوجه سياسات السلطة التي قضت على التعليم بسبب الفساد” حسب تعبير إحدى المعلّمات.
ومع اتّساع هامش الضغط على الصحافيين والصحافيات، يزداد الخطر عليهم بشكل يهدّد وظائفهم ولقمة عيشهم، حيث تشير الصحافية دجى داود، وهي من مؤسّسات التجمّع، إلى أنّ “كل من يعمل في المجال النقابي هو عرضة للخطر لأنّ النقابات بطبيعتها ضدّ السلطة”، مؤكّدة أنّ التجمّع سيبقى إلى جانب كلّ من تنتهك حقوقه أو حرّيته، فالحرّيات لا تتجزّأ”. وتلفت دجى إلى أنّ “الكثير من الصحافيين والصحافيات تعرّضوا لانتقادات بسبب انضمامهم للتجمّع، ومنهم من اضطرّ إلى تركه، بخاصّة في المراحل المبكرة لانطلاقته”، مشدّدة على أنّ المواجهة تتطلّب جرأة وقدرة على خوض معركة المبادئ.
وإذ تعرب عن تفهّم من قد يتجنّبون التطرّق إلى قضية إلسي مع MTV خوفًا على مصالحهم أو وظائفهم، تشيد بـ”القرار الجريء” الذي اتخذته إلسي، وتضيف “من المهمّ جدًا التشبّث بالعمل النقابي عند التعرّض للابتزاز، وحجم التضامن الواسع مع قضية إلسي والتجمّع من ورائها يشجّع بدوره الآخرين على التمسّك بحقوقهم، وهذا ما تمّ تأسيس التجمّع على أساسه”.
التجمّع يكرّس مكانته كحامي لحرّيات الصحافيين
“التجمّع اليوم يكرّس مكانته أكثر كنقابة بديلة”، تقول إلسي، مع التماس الأثر الذي يحدثه والتضامن الكبير من قبل الزميلات، وهذا ما دفعها إلى التمسّك برسالتها إلى كل الصحافيين والصحافيات “لا تخافوا من المطالبة بحقوقكم عند الانتقاص منها، ولا تخافوا من اللجوء للعمل النقابي، لأنّ هذه النقابة ستقف إلى جانبكم. طالبوا بحقّكم وانضمّوا إلى النقابات لأنّ العمل النقابي هو الوحيد القادر على حماية حقوقكم وتحصيلها عندما يتمّ انتهاكها”.
وكانت فكرة إنشاء التجمّع قد انطلقت مع بداية ثورة 17 تشرين، بعدما وجد الصحافيون والصحافيات أنفسهم خارج نقابة المحرّرين، وبعيدًا عن مجلسها كلّ البعد، وذلك يعود في مكان ما إلى “المزاجية في إدخال الصحافيين إلى هذه النقابة، وفي أكثر من مكان أصبحت هذه النقابة لا تحميهم كما يجب في حقوقهم المهنية ولا المالية ولا في حقّهم في التعبير والوجود كصحافيين”، تقول أليسار قبيسي، إحدى أعضاء لجنة التنسيق في التجمّع، لـ” المفكرة”. وقد برز دور النقابة البديلة بشكل لافت مع موجة الصرف التعسفيّ لصحافيين وصحافيات من مؤسسات إعلامية في وقت سابق بحجّة الأزمة الاقتصادية في لبنان، حيث قامت النقابة بدعمهم قانونيًا لرفع دعاوى وتحصيل حقوقهم، وتزامن ذلك مع حملات وممارسة ضغط على عدة مستويات لتحقيق هذه المطالب. ومن قضايا الصرف التعسّفي إلى استدعاء الصحافيين، حيث شهدنا على حملة ممنهجة لإعادة تفعيل مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في قضايا الصحافيين، وشكّل ذلك جزءًا أساسيًا من المعارك التي خاضتها النقابة البديلة. “ومع ازدياد مشاكل الصحافيين، ومعها تخاذل نقابة المحررين عن القيام بدورها الفعلي، باتت هذه النقابة بحكم الأمر الواقع المرجع الفعليّ للصحافيين، وتمكّنت من رفع سقف الحرية إلى الحدّ الذي تمكّنت عبره من رفع الصوت عاليًا والمطالبة بحماية حرّيات وحقوق الصحافيين والصحافيات”، بحسب أليسار.
وتشير أليسار إلى أنّ ما حصل مع الزميلة إلسي بشكل أساسيّ، وقيام مؤسسة إعلامية بصرفها بهذه السهولة ومخالفة القوانين، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تمثّله بصفتها منسّقة التجمّع، “جعلنا أمام معركة أساسية لإعادة التشديد على أنّه لا مساومة على الحقّ في التعبير، فحرية التعبير لا تتجزّأ”. وتتابع “اليوم نؤكّد على أهمية عدم إسكات الصحافيين تحت شعار “الوفاء للمؤسسات”، فنحن في نهاية الأمر موظفون نتلقّى أجرًا، وهذا الشعار لا وجود له، والوفاء لا يعني التزام الصّمت عن القناعات والمبادئ التي نتشاركها”.
تحرّك للتجمّع في 2023 ضدّ مثول الصحافيين أمام مكتب الجرائم المعلوماتية
وعن رفض إلسي الخضوع للابتزاز ومحاولة الإسكات التي تعرّضت لها، تؤكّد أليسار أنّ “التجمّع اليوم قد رفع الصوت عاليًا ووضع النواب والفاعلين والناشطين والمجتمع المدني أمام مسؤولية الاختيار ما بين: إمّا التغطية على ما حصل خوفًا على مساحة ما في مكان ما، أو خوض المعركة لإثبات أنّ هذا حقّ ويجب الدفاع عنه بالقانون ليكون نموذجًا يُبنى عليه بأنّ المؤسسات لا يحقّ لها ابتزاز الموظّفين ولا يحقّ لها استغلالهم بهذه الطريقة”.
وقد حازتْ قضية إلسي على تضامن واسع من صحافيين وصحافيات وناشطين وناشطات ومؤسسات حقوقية وعددمنالنوّاب.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.