شهدت الساحة السياسية المصرية تطورا جديدا مع خروج قانون (تنظيم عمل الجمعيات الأهلية رقم 70 لعام 2017) للنور رسميًا عقب تصديق رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي عليه ونشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 24 من مايو 2017. وذلك بعد مرور ستة أشهر على بقاء مسودة القانون فوق مكتب الرئيس السيسي منذ إحالة القانون عقب إقراره بشكل نهائي من البرلمان في نوفمبر الماضي.
مخالفة الوعد الرئاسي بتعديل القانون.
فوجئ الجميع بقرار رئيس الجمهورية بالتصديق علي القانون ونشره بالجريدة الرسمية، وهو ما يعد وفق كثيرين مخالفة للوعد الرئاسي بمراجعة مشروع القانون قبل التصديق عليه، (بل وطلبه للبرلمان خلال مؤتمر الشباب في ديسمبر الماضي بإعادة النظر في القانون)، وذلك عقب تلقيه مناشدات بعدم التصديق عليه، إذ كانت نحو 6 أحزاب سياسية و22 منظمة حقوقية قد رفعت مذكرة للرئيس، وأصدرت بيانا أعربت عن رفضها لمشروع قانون الجمعيات، معتبرة أنه يقضي فعلياً على المجتمع المدني ويحيل أمر إدارته للحكومة والأجهزة الأمنية. كما أدان الموقعون تعامل البرلمان مع المجتمع المدني باعتباره عدواً تحاك الخطط والقوانين السرية للقضاء عليه.[1]
يمكن القول أن دخول هذا القانون إلى حيز النفاذ من المرجح أن تكون له تكلفة مرتفعة يتحمل تبعاتها مختلف الفاعلون السياسيون في مصر على المديين الطويل والمتوسط. ويمكن في هذا السياق التمييز ما بين تأثيرات ثلاثة أنواع من التكلفة.
التكلفة السياسية المترتبة على العمل بالقانون
يضع صدور القانون بهذا الشكل علامات استفهام حول حدود تجذر قيم الديمقراطية التشاركية في ممارسات النظام السياسي المصري وقناعته بأهمية مشاركة أصحاب المصلحة والأطراف المعنية في القضايا المختلفة. بعبارة أخرى، ترتبط هذه التكلفة بالمثالب التي تعتور عملية صناعة الرأي العام. فرغما عن الجدل الواسع الذي أثاره القانون منذ عرضه على البرلمان في 9 نوفمبر 2016 عندما تقدم به ائتلاف دعم مصر لتتم مناقشته والموافقة المبدئية عليه، ثم إرساله إلى قسم التشريع بمجلس الدولة لمراجعة مدى تطابقه مع الدستور وإعادته للبرلمان مرة أخرى، الأمر الذي انتهي بموافقة البرلمان على القانون وإقراراه بصفة نهائية في مدة لم تتجاوز 20 يوما.
ترتبط التكلفة السياسية كذلك بتكريس القانون لدور المؤسسات الأمنية في إدارة شئون المجتمع المدني، بصفة عامة حتى أن البعض يعتبر أن القانون الجديد يضع المجتمع المدني في قبضة الأمن، فبحسب المادة (72)، فإنه سيتم تشكيل ما سمي ب ـ"الجهاز القومي لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية" وهو المختص بعمل ومراقبة الجمعيات الأجنبية العاملة في مصر، ومن المفترض أن يتم تشكيله من ممثل لوزارة الدفاع وممثل لوزارة الداخلية وممثل لجهاز المخابرات العامة وممثل لوحدة غسيل الأموال بالداخلية وممثل لهيئة الرقابة الإدارية وممثل لوزارة العدل وممثل لوزارة الخارجية وممثل لوزارة التعاون الدولي وممثل للبنك المركزي. فضلا عن أن القانون يتجه لتغليظ العقوبات بشدة على من يخالف ما ورد به من محددات، إذ تتراوح العقوبة وفق القانون الحالي بين الحبس الذي يصل في بعض الأحيان إلى خمس سنوات، والغرامة التي تصل إلى نصف مليون جنيه، وهو ما يزيد من احتمالات ملاحقة كل العاملين في مجال جمعيات حقوق الإنسان والعمل الأهلي.
ومن النقاط اللافتة أيضا في هذا السياق ما يفرضه القانون من تقييدات واضحة على حرية تداول المعلومات في المجال العام. فقد حظر القانون إجراء استطلاعات الرأي أو نشر أو إتاحة نتائجها أو إجراء الأبحاث الميدانية أو عرض نتائجها قبل عرضها على الجهاز للتأكد من سلامتها وحيادها. كما حذر القانون من إبرام اتفاق بأي صيغة كانت مع جهة أجنبية داخل أو خارج البلاد قبل موافقة الجهاز به وكذلك أي تعديل يطرأ عليه. تضييق الخناق بهذه الصورة يحصر منافذ المعلومات في منفذ واحد فقط وهو الدولة، ويجعلها المتحكم الوحيد في نشر المعلومة بالكيفية والصورة التي تريدها، ويحول بين المواطنين والمعلومات الموضوعية التي تعكس الواقع بصورة كاملة.
التكلفة الاجتماعية المترتبة على العمل بالقانون
وهي التكلفة المرتبطة بالآثار الاجتماعية المحتملة للقانون على الفقراء الذين يعتمدون بشكل كبير على المنظمات الأهلية التي تقوم بدور اجتماعي كبير، لاسيما في صعيد مصر وخاصة مع غياب نظام ضمان اجتماعي قوي ومع الإرتفاع المتواصل في الأسعار.
فعلى مدار سنوات عوضت تلك الجمعيات غياب دور الدولة في تقديم الخدمات المجتمعية للفقراء، من علاج وتعليم وتنمية مجتمعية ودعم مادي، إلى غير ذلك من تلك الخدمات التي تفوقت فيها تلك الجمعيات ونجحت من خلالها في تحمل الجزء الأكبر من أعباء الحكومة.
لكن اليوم وبعد التصديق على القانون الجديد لا مجال للحديث عن العمل الخيري مرة أخرى، وهو ما تجسد خلال الفترة الماضية التي استبقت مناقشة القانون عبر غلق المئات من الجمعيات الخيرية بدعوى تجفيف منابع التطرف والإرهاب، ما نجم عنه سد نوافذ العلاج والدعم أمام الملايين من الفقراء ممن كانوا يعتمدون في المقام الأول على هذه المنافذ. فبحسب القانون لا يجوز للجمعية تلقي التبرعات إلا بعد موافقة الجهات المختصة. كما لا يجوز التصرف فيها إلا بموافقة تلك الجهات أيضًا، وفي مدة زمنية محددة تقدر ب ـ60 يومًا، إن مرت دون أن يتم الرد على تلك الجمعيات تصبح لاغيه ولا يجوز التصرف فيها، مما يعني تعرض حياة الملايين للخطر خاصة فيما يتعلق بعلاج الأطفال والحالات الحرجة.
التكلفة المتعلقة بالانتقادات الدولية:
إصدار القانون بتلك الصيغة يشكل مخالفة للوعد الذي قطعته الحكومة المصرية أمام الأمم المتحدة خلال جلسة المراجعة الدورية في المجلس الدولي لحقوق الإنسان بجنيف في عام 2014 والتي تعهدت خلالها والتزمت بتوصيات تحرير المجتمع المدني في القانون الجديد. ولعل ردود الأفعال الدولية حتى الآن تؤشر على أن المجتمع الدولي يميل إلى تبني هذه الرؤية، ما يعني أنه ربما تكون هناك تكلفة مباشرة وغير مباشرة في هذا السياق، لاسيما إذا ما وضعنا في الاعتبار أن هناك كثيرين يرون أن سبب تأخر الرئيس السيسي في توقيع القانون منذ نهاية نوفمبر الماضي هو الانتقادات الغربية، لا سيّما من طرف السيناتور جون ماكين والسيناتور لندسي جراهام، اللذين هددا بقطع المساعدات عن مصر إذا ما جرى تمرير القانون. وأن تمريره للقانون حاليا يأتي نتيجة زيارته إلى واشنطن في أبريل الماضي والتي حصل الرئيس السيسي خلالها على دعم كبير من الرئيس ترامب الذي أكّد أنّ مسألة حقوق الإنسان لن تعكر العلاقات بينهما. [2]
بيد أن هناك العديد من المؤشرات التي ربما تعني أن المجتمع الدولي لن يكون متسامحا مع ذلك القانون مثلما يراهن البعض. فعلى سبيل المثال انتقد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان زيد رعد الحسين، قانون الجمعيات الأهلية الجديد بمصر، وحذر من "القيود التي سيفرضها على المجتمع المدني" مؤكدا أنه سيكون له ضرر بليغ على التمتع بحقوق الإنسان، وسيترك المدافعين عن تلك الحقوق أكثر عرضة للجزاءات والانتقام. ورأى رعد الحسين أن "القانون الجديد ينتهك التزامات مصر في مجال حقوق الإنسان بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية".[3]
أما البرلمان الأوروبي فقد أصدر بيانا اعتبر فيه أن القانون يخاطر بفرض صعوبات على مساهمة المجتمع المدني في التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأشار إلى أن بعض مواد القانون، مثل تلك المتعلقة بعملية التسجيل وإجراءات الحصول على التمويل المحلي والأجنبي، من المرجح أن تؤثر على أنشطة الجمعيات غير الحكومية. كما أنها تؤثر أيضا وبشكل مباشر على المساعدات والدعم الأوروبي لمصر، مشيرا إن جزءا كبيرا من تعاونه مع مصر يعتمد على المنظمات غير الحكومية بوصفها شركاء منفذين مهمين.[4]
فيما أصدر بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي بيانا اعتبروا فيه أن القانون يعتبر بداية لحملة كبيرة يقوم بها النظام المصري للحد من حقوق الإنسان في مصر خلال الفترة القادمة. وتطرق البيان إلى المعونات التي يتم تقديمها من جانب الولايات المتحدة الأمريكية إلى مصر، حيث أكد أنه يجب أن يكون هناك معايير ديمقراطية تضمن عدم إصدار مثل تلك القوانين التي تؤثر علة حقوق الإنسان في مصر، مع التأكيد علي أن هذا القانون سوف يؤثر علي العلاقة المصرية الأمريكية وسيكون عقبة في طريقة تحقيق الإصلاحات المرجوة. [5]
جدير بالذكر أن المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية المستشار أحمد أبو زيد حاول طمأنة المجتمع الدولي بالتأكيد على أن مجلس النواب المصري مارس حقه الدستوري الأصيل في عملية صياغة واعتماد القانون بأغلبية كبيرة، وأن المجلس حرص في صياغته للقانون على تحديث الإطار التشريعي المنظم لعمل الجمعيات الأهلية بما يتسق ومبادئ الدستور. مستشهدًا بأن القانون أكد على تسجيل الجمعيات الأهلية المصرية بالإخطار وفقا لما جاء بنص الدستور. [6]
ختاما وفي مقابل الفجوة بين رؤى المنظمات الحقوقية وفحوى هذا القانون والمثالب الدستورية العديدة الموجودة به، لم يعد متبقي من سبل الاعتراض عليه سوى الطعن بعدم دستورية مواده أمام المحكمة الدستورية العليا، باعتباره مخالفا لعدد من نصوص الدستور على رأسها نص المادة 75 من الدستور المصري المقر في يناير 2014 والتي نصت على أن «للمواطنين حق تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية على أساس ديمقراطي، وتكون لها الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار. وتمارس نشاطها بحرية، ولا يجوز للجهات الإدارية التدخل في شؤونها، أو حلها أو حل مجالس إداراتها أو مجالس أمنائها إلا بحكم قضائي."[7]
[1] حقوقيون: قانون الجمعيات الأهلية مخالف للمعايير الدولية والدستور المصري، الميديا توداي، 31 مايو 2017
[2] ساسة بوست، 30 مايو,2017
[3] حاتم الصكلي ، "المفوض الأممي لحقوق الإنسان ينتقد قانون الجمعيات الأهلية بمصر"، الأناضول، 1 يونيو 2017.
[4] سلافة قنديل وهاجر رضا، "البرلمان الأوروبي: قانون الجمعيات الأهلية عبء على المجتمع المدني"، بوابة يناير، 31مايو، 2017
[5] عبد الله مصطفى ، "بروكسيل تأسف لاعتماد قانون الجمعيات الأهلية وحجب مواقع صحفية في مصر"، المصري اليوم ،01-06-2017
[6] ربيع شاهين، "مصر ترد على الانتقادات الدولية بشأن قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية"، الاهرام، 1-6-2017
[7] ايهاب كاسب، الطعون" تنتظر قانون "الجمعيات الأهلية" أمام "الدستورية العليا"، البوابة نيوز،03-06-2017