
لم يكن عسيرًا على مُتتبعي الحياة السياسية في تونس توقع تنحي رئيس الحكومة كمال المدوري بعد سلسلة من الإشاعات حول استقالته منذ بداية شهر مارس. ولكن ما لم يكُن متوقعا حقًا أن يتمّ إعفاؤه بشكل دراماتيكي عقب مجلس للأمن القومي عُقد مساء 20 مارس المتزامن مع ذكرى عيد الاستقلال، وفي خطاب رئاسي مفعم بعبارات التهديد والوعيد. وعلى الرغم من ذلك، بقي الرئيس قيس سعيّد وفيًّا لعادته في الاستعانة بالإداريين على رأس الحكومة، حيث تولّت سارة الزعفراني الزنزري وزيرة التجهيز المنصب، وهي من صلب الجهاز البيروقراطي للدولة، حيث تدرّجت قبل تسلّمها وزارة التجهيز في المناصب الإدارية داخلها وصولًا إلى منصب المديرة العامة لوحدة متابعة مشاريع الطرقات السيارة وتحرير حوزة الطرقات المهيكلة بالمدن منذ سنة 2014. وبفعل هذا التعيين، يترسّخ التوجه الرئاسي العام باحتكار “الخيارات السياسية” داخل قصر قرطاج وإبعاد رئاسة الحكومة عنهُ ما أمكن، وهو نموذج أثبت فشله مرارًا سابقًا، وليست تجربة المدوري نفسها إلا شاهدًا عنه. فقد حال ضعفُ الهامش السياسي رئيس الحكومة دون قدرته على تنفيذ برنامجه الحكومي وذلك باعتراف بعض أنصار النظام نفسه، لتكون فترة رئاسة المدوري للحكومة الأقصر عمرا منذ انقلاب 25 جويلية بواقع سبعة أشهر منذ تعيينه في المنصب في 7 أوت الماضي.
البيروقراطية: محاولات الاحتواء ومرمى للنيران في الآن نفسه
شهدت الفترة الأخيرة من حكومة أحمد الحشاني تصفية لآخر الوزراء المُتبقين من ذوي الخلفية السياسية بداية من وزير التربية الأسبق محمد علي البوغديري في أفريل 2024، وصولا إلى وزيري الداخلية كمال الفقيه ووزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي في 25 ماي من نفس السنة. وقد كان القرار الأخير مفاجئا لأنّه مسّ بشخصيّتين من أركان النظام ومن مهندسي مشروع البناء القاعدي نفسه. ولم يكُن خليفة مالك الزاهي حينذاك على رأس وزارة الشؤون الإجتماعيّة سوى الإداري كمال المدوري، الذي سبق للزاهي أن أقاله من منصب المدير العام للصندوق الوطني للتأمين على المرض CNAM في 3 ديسمبر 2023، بعد جملة من الخلافات. وأتى تسلّم المدوري لهذا المنصب في ظلّ تنوّع التكتيكات التي اتبعتها الرئاسة بالخصوص لاحتواء الإدارة، بين رفع شعارات “تطهيرها” أولا، عبر عدد من الإجراءات وأهمها الأمر عدد 591 لسنة 2023 المتعلّق بإجراء “تدقيق شامل لعمليات الانتداب والإدماج بكلّ الهياكل العموميّة من 14 جانفي 2011 إلى 25 جويلية 2021، أو عبر محاولات اختراقها ثانيا، عبر تعيين إداريين يُمكن ضمان ولائهم للسلطة السياسية في المناصب الوزارية من جهة، كما يُمكن أن تتيح خبرتهم في العمل الإداري تجاوز بعض العراقيل في التعامل مع تعقيدات الواقع الإداري من جهة أخرى. وعليه، أصبح التوجه الثاني هو المُهيمن بعد ظهور بوادر عجز الخيار الأول. وتواصلا مع هذا التمشي، تمّ تعيين كمال المدوري في منصب رئيس الحكومة خلفا لأحمد الحشاني الذي شهدت عُهدته بداية ما عُرف بمشروع “تطهير الإدارة”. ليكون هذا التعيين فاصلا كذلك بين مُقاربتين سياسيّتين في احتواء الجهاز البيروقراطي، الذي لم يكُف سعيّد من اتّهامه دائمًا بعرقلة “الإنجاز”. ولئن تنوّعت المُقاربتان في الشكل، فإنّ هدفها كان دائمًا الحدّ من أيّة استقلاليّة إداريّة في وجه سعي متزايد للهيمنة الرئاسية على كلّ مفاصل الحكم.
أسابيع قليلة بعد تعيين المدوري، تمّ استكمال نفس المنهجية التي اعتُمدت سابقا في الوزارات عبر التعيينات الجديدة على مُستوى الولاّة، والتي عصفت هي الأخرى بأبناء المشروع داخل هذا السلك ومن أهمّهم عز الدين شلبي وسمير عبد اللاوي. وبذلك تمّ تهيئة المجال ظاهريّا أمام مدّ النفوذ السياسي المُباشر من قصر قرطاج إلى الإدارة دون الالتجاء إلى أنصار المشروع كوسيط، والذين لم يبقَ لهم ممثلون بارزون سوى في “الوظيفة التشريعية” التي أُضعفت كل وجه من أوجه التأثير. غير أن ذلك لم يمنع تواصل انتقاد سعيّد بشكل متكرر للعمل الحكومي، وهو انتقاد بلغ ذروته في كلمته أمام مجلس الأمن القومي ليل 20 مارس الذي أعقبه الإعلان المُباشر عن إقالة كمال المدوري.
إعفاء من دُون تقييم
ظهر رئيس الحكومة السابق إلى جانب رئيس مجلس نواب الشعب الذي تقدّمه على طاولة اجتماع مجلس الأمن القومي بترتيب مقصود، يوحي مُسبقا بقرار الإقالة. وكان القرار قد اتُّخذ بعد رواج أصداء من القصبة بطلب المدوري الاستقالة في أوائل شهر مارس، بسبب جملة من الخلافات في وجهات النظر مع رئاسة الجمهورية. وكانت كلمة الرئيس سعيّد في مجلس الأمن القومي معبّرة بوضوح عن هذا الخلاف بحديثه عن أن البعض “مازال يحنّ إلى دستور 2014” في إشارة إلى صلاحيات رئيس الحكومة ضمن هذا الدستور، وتلميحه بمحاولة استعادة رئيس الحكومة السابق لهذا الدور. وفي ظل عدم وجود توضيح رسمي حول الأمر، يبدو أن المقصود هنا بعض المعلومات المتعلقة بتعيينات في ديوان رئاسة الحكومة، وهي تعيينات يظهرُ أنها لم تنل الرضا الكامل من مركز القرار السياسي في رئاسة الجمهوريّة. ويمكن تبيّن هذا السبب من خلال إشارة سعيّد في نفس الكلمة إلى أنّ “لوبيات الفساد وأعوانهم قد حوّلوا طريقهم نحو القصبة حتى تكون مرتعًا لهم مُتناسين أن الحكومة أو الوزارة الأولى أو كتابة الدّولة للرئاسة كما كانت تسمّى مهمّتها هي مساعدة رئيس الدولة على القيام بوظيفته التنفيذية”، في تهميش مُتعمّد ومعتاد لدور رئاسة الحكومة وحصرها في تنفيذ التعليمات الرئاسيّة. وهناك سبب آخر يمكن استنتاجه هنا في علاقة ببعض الإجراءات مؤخّرا، ومن بينها مشروع تنقيح مجلة الشغل وإلغاء آلية المناولة. إذ يبدو أن رئيس الحكومة السابق لم يكن موافقا عليها بصيغتها الحاليّة، خصوصا وأنّه يُدرك أكثر من غيره صعوبة تحقيق هذه الإجراءات وهو المُلمّ بشكل عميق بتعقيدات السياسات الاجتماعية، بل وأحد المساهمين في صياغة هذه السياسات من خلال المناصب التي تولاّها في وزارة الشؤون الاجتماعية سابقا.
وتضمنت كلمة سعيّد في مجلس الأمن القومي عددا من النقاط الأخرى التي يُمكن أن تكون في علاقة بإقالة المدوري، حيث لم يتوانَ عن الالتجاء لخطاب المؤامرة كالمُعتاد باتّهامه “عناصر إجرامية تعمل في عديد المرافق العمومية عن طريق وكلاء لها” و”تحميل كلّ مسؤول المسؤوليّة كاملة مهما كان موقعه ومهما كانت طبيعة تواطئه أو تقصيره”. هذا الخطاب الرئاسيّ يوحي كذلك بنيّة القيام بتحويرٍ وزاري، إما كاملًا او مجزّأً على مراحل كما تمّ في السابق مع تولي كلّ رئيس حكومة جديد، خصوصًا مع وجود بعض الوزراء من المحسوبين على رئيس الحكومة السابق (مثل وزير الشؤون الاجتماعية على سبيل المثال). ولا يخفى كذلك تركيز سعيّد على الخطاب السيادوي في كلمته باعتباره أن “الاستقلال الحقيقي ليس فقط معاهدة تبرم بل أن تكون سيدًا كامل السيادة في وطنك”، في ما يبدو أنه امتعاض من تهنئة وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في رسالته بعيد الاستقلال لكل من الشعب التونسي والحكومة، مع استثناء ذكر الرئيس سعيّد صراحة من الرسالة.
وبهذا المعنى، كان تعيين سارة الزعفراني الزنزري كرئيسة جديدة للحكومة من دون تقييم موضوعي للعمل الحكومي بناء على مؤشرات واضحة ومحددة تكرارا لنفس أسلوب الشماعة التي يُعلّق عليها فشل الأداء الحكومي وأزمة الانسداد السياسي التي تواصلُ رئاسة الجمهورية التملّص من مسؤوليتها الرئيسية فيها. وقد بلغت هذه الأزمة حدّ التوجّس من بعض الظواهر الاجتماعيّة والزجّ بها ضمن التفسير المؤامراتي للأحداث، مثل الانتحار حرقًا الذي تمّ تسييسهُ مؤخّرا في الخطاب الرئاسي بعد أن تمّ التمهيد لنفس التفسير في بعض الصفحات المناصرة لسعيد في وسائل التواصل الاجتماعي. ومن جهة أخرى تُعد رئيسة الحكومة الجديدة إحدى أقدم الشخصيات حضورا في التشكيلات الوزارية المختلفة بعد انقلاب 25 جويلية، كما شغلت منصب وزير النقل بالنيابة، إضافة إلى حقيبة التجهيز في الصائفة الماضية قبيل إقالة رئيس الحكومة الأسبق أحمد الحشاني، مما يعكس الرضا الرئاسي على أدائها، ثم عادت لتولي وزارة التجهيز بشكل منفرد في حكومة كمال المدوري. ويعكس خيار الزعفراني على رأس الحكومة تغليب الشخصية التكنوقراطية المُنشغلة عن لعب أي دور سياسي، مع الهوس بالبحث عن “إنجاز” يسترُ الحصيلة الرئاسية خالية الوفاض من المشاريع الكبرى. كما يُبين هذا الاختيار عن تخوّف من بروز أيّ رئيس حكومة يسعى للتمكّن من دورٍ فاعل في إطار ممارسته لمهامّه مثلما كان الشأن مع المدوري سابقا. وبالتالي يبقى الرهان الرئاسي على رئيسة الحكومة الجديدة على محكّ تطوّرات سياسية أخرى قادمة. كما تعكسُ تطوّرات أزمة التعامل الحكومي مع أزمة الهجرة غير النظامية، التي كانت أحد أهم محاور الاجتماع الأخير لمجلس الأمن القومي وإن لم تكن ضمن الكلمة المنشورة على صفحة الرئاسة، أحد الهواجس الرئيسية لأزمة نظام الحكم حاليا، والتي ربّما كان إعفاء رئيس الحكومة أحد الأهداف في تهميش الاهتمام بها ولو إلى حين.
متوفر من خلال: