حاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من خلال ظهور تلفزيوني مُطوّل الأسبوع الفائت التملص من المسؤولية، أي مسؤولية، لما آلت إليه الأوضاع النقدية والاقتصادية في البلد. في الشكل، جَهد سلامة لإبراز هيبة سلطته المالية والإدارية: مخاطبة الكاميرا من خلف مكتب نابوليوني بعرض الشاشة. عَلَما لبنان والمصرف – نعم للمصرف علم – يحيطان به من الجانبين. رزمة سميكة من الأوراق الغامضة على يساره سيضع عليها يده بلطف عند الإشارة إلى مراسلاته مع الحكومة لعلها تدفع عنه تهم الإرتجال والضبابية وتُسبغ على عمله ثوب العلمية والكفاءة والإحتراف. لا صحافة، لا مساءلة مباشرة. فالحاكم بأمر المال يمارس التواصل عن بُعد قبل الكورونا بعقود. هو لا يتواصل أصلا إلا ضمن شروطه: مؤتمرات إحتفالية ومقابلات تلفزيونية مرتبة مسبقا وكتب تذكارية تبجيلية. وإن كسر صمته اليوم، فالأرجح أنه لم يقم بذلك كي يصارح اللبنانيين بما آلت إليه الأوضاع، بل كي يرد الصاع صاعين لرئيس الحكومة بعد أن تجرّأ الأخير على توجيه أصابع الإتّهام له علانية.
فالصراع بالنسبة لسلامة هو صراع للبقاء، بقاؤه هو لا بقاء المجتمع. يهاجم من يهاجم حاكميته ويتستر على من يتستر عليها. والرأي العام ليس سوى أداة من تلك الأدوات. كذلك القانون ولغة الأرقام. لا ضير من الإستنسابية في ذكر الحسابات المالية والوقوع في مغالطات قانونية والبوح بأنصاف حقائق، والأخيرة – أي أنصاف الحقائق، أنجع أساليب التضليل، والتضليل أقصر الطرق إلى التملّص من المسؤولية.
يمكن وضع ما قاله سلامة – وما لم يقله – ضمن ثلاثة عناوين عريضة: التملص من مسؤوليته الشخصية، لوم الدولة، وتبرئة القطاع المصرفي. إن وضع التقنيات المالية والقانونية الواردة في كلامه في سياق تلك العناوين يُحصّن الرأي العام من الضياع في زواريب التفاصيل المجرّدة من موقف سياسي أو الموقف السياسي العام المجرد من التفصيل. فمجرد القول أن الكل مسؤول – حاكم وحكومة – لا يكفي لتحديد مسؤولية كل طرف، بل قد يصب في خانة تبرير بقاء الحاكم وتجهيل الفاعل وتسطيح خطاب معارضة المنظومة الحاكمة. إن خطاب معارضة المنظومة الحاكمة يجب أن يتحلّى بقدر عال من المسؤولية في حال أراد طرح بديل عن هذه السلطة حول مستقبل لبنان المالي والاقتصادي ودور كل من الحاكم، الدولة، والقطاع الخاص في بناء وإدارة هذا المستقبل. لقد طرح رياض سلامة نفسه كرجل دولة يلتزم بالقانون. فليكن الرد على مستوى الطرح وضمن منطقه وليتحمل الحاكم مسؤولية ما قاله للرأي العام أمام الرأي العام.
التملص من مسؤولية الحاكم
طوال ثلاثة عقود، لم يعترض سلامة على كل ما كُتب وقيل عن دوره الشخصي كحاكم في تأمين الإستقرار النقدي والمالي. ولم يسمع عامة اللبنانيين يوما عن دور المجلس المركزي داخل مصرف لبنان أو أسماء أعضائه. لكن سلامة اليوم، وبعد اهتزاز هذا الإستقرار، بات يعتبر أن المجلس المركزي داخل المصرف هو صاحب القرار. وقد كرر سلامة الإشارة الى القانون الناظم لعمل المصرف لتبرير ذلك. بحسب قانون النقد والتسليف، يتألف هذا المجلس من سبعة أعضاء هم الحاكم، أربعة نواب له، والمديرين العامين لوزارتي المالية والإقتصاد. قد يعطي ذلك انطباعين. الأول أن الحاكم مجرد عضو من سبعة، خاضع لديمقراطية التصويت. والثاني أن الحكومة تشارك في عمل المصرف اليومي من خلال مديريها العامين.
فيما يخص الإنطباع الأول، لا يَدَعْ القانون مجالا للشك في هرمية السلطة الإدارية داخل المصرف والمجلس المركزي نفسه الذي يتربع الحاكم على رأسها. فقد خص القانون الحاكم ونوابه بمواد منفصلة عن تلك للمجلس، من ضمنها القول صراحة أن نواب الحاكم "يمارسون الوظائف التي يعينها لهم الحاكم" أي أنهم خاضعون لإدارته (المادة 18) ويقالون بناء على اقتراحه أو بعد استطلاع رأيه (المادة 19)كما يتم اخذ موافقته قبل تعيينهم في لجان حكومية أو أعضاء مجلس إدارة في صندوق النقد الدولي أو تمثيل لبنان في هيئات وبعثات دولية أخرى (المادة 21). وإن كان القانون قد أناط بالمجلس المركزي دورا محوريا في تحديد سياسة المصرف النقدية والتسليفية بما فيها معدلات الفائدة، ووضع أنظمة تطبيق القانون (المادة 33)، فالمجلس لا ينعقد إلا بحضور الحاكم أو من ينوب عنه (المادة 30) وفق الشروط التي يحدّدها الحاكم (المادة 27) و يتخذ قراراته بالأكثرية لكن صوت الحاكم يكون مرجحا في حال تعادل الأصوات (المادة 31). . كما تجدر الإشارة إلى الشغور الحاصل منذ نيسان 2019 في مراكز نواب الحاكم، مما جعل انعقاد المجلس متعذرا لعدم توفر النصاب المطلوب (4 من أعضائه) ونقل عمليا مجمل صلاحياته للحاكم الذي أصبح يمارسها منفردا منذ ذلك التاريخ.
وعلاوة على ذلك، فقد منح القانون الحاكم "أوسع الصلاحيات لإدارة المصرف العامة وتسيير أعماله" خارج نطاق عمل المجلس المركزي بما فيها تعيين وإقالة الموظفين من جميع الرتب والتعاقد مع فنيين واستشاريين وإقامة الدعاوى القضائية وتطبيق قرارات المجلس المركزي نفسها، أي أنه الذراع التنفيذية لهذا المجلس، وهو بالمحصلة وبحسب القانون "ممثل المصرف الشرعي" (المادة 26).
أما فيما يخص الإنطباع الثاني حول دور الحكومة في إدارة المصرف من خلال المديرين العامين، فقد نص القانون صراحة أن "ليس لهذين العضوين الأخيرين أن يتصرفا في المجلس كمندوبين عن الحكومة. وهما لا يمارسان لدى المصرف سوى المهام الملتصقة بصفتهما عضوين في المجلس المركزي" (المادة 28). هذا لا يعني تملص هذين العضوين من مسؤوليتهما في رسم السياسة النقدية، لكنها – أقله بحسب القانون – مسؤولية فردية يحاسبان عليها من خلال سجلهما في التصويت على القرارات داخل المجلس المركزي. إن كان من تمثيل مباشر للحكومة، فهو عبر مفوضها. لكن مهمة الأخير تكاد تنحصر بالاطلاع على السجلات وإبلاغ الحكومة بالمقررات بدلا من الرقابة المؤثرة. فليس للمفوض التدخل "بأية صورة في تسيير أعمال المصرف" (المادة 44) وفي حال لم يُبت في اعتراضه على أحد الأنظمة بعد استشارته لوزير المال خلال خمسة أيام، "يمكن وضع القرار في التنفيذ" (المادة 43). وبأية حال، فمركز مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان شاغر اليوم مما يزيد تفرد الحاكم والمصرف باتخاذ القرارات.
لوم الدولة
لم يكتفِ سلامة بالتلميح إلى دور الحكومة في اتخاذ القرارات المتعلقة بإدارة المصرف، بل اعتبر أنه عبد المأمور، لا حول له ولا قوة فيما يخص إقراض الدولة. لكن قانون النقد والتسليف يضع شروطا قاسية ومحافظة في هذا المجال. لا يجب أن تتعدى تسهيلات المصرف الممنوحة إلى الدولة في الظروف العادية 10% من متوسط واردات موازنة الدولة في السنوات الثلاث الأخيرة، ولا يمكن أن تتجاوز مدة التسهيلات أربعة أشهر ومرة واحدة في السنة (المادتين 88 و89). وفي "ظروف استثنائية الخطورة"، يضع القانون العراقيل في وجه الإقراض، فيُلزم المصرف في درس أي طلب وطرح وسائل تمويل أخرى كإصدار قرض داخلي أو خارجي أو إيجاد موارد ضرائب جديدة. وفي حال لا يوجد حل آخر، "يمكن" للمصرف أن يمنح القرض المطلوب، أي أنه غر مجبر على الإقراض (المادة 91).
إن كان هناك من قيود على عمليات المصرف تفرضها الحكومة، فهي فيما يخص استقرار سعر الصرف، بحيث يضع المصرف سياسته النقدية بالتعاون مع وزير المالية (المادة 75). ويتوجّب على المصرف الاتفاق مع وزير المالية حول عمليات شراء وبيع الذهب أو العملات الأجنبية. وبالمناسبة، يُلزم القانون المصرف بتقييد هذه العمليات في حساب خاص (المادة 75)، وهو ما لم يذكره الحاكم كي يُعلمنا كم كانت كلفة تثبيت سعر الليرة طيلة هذه السنوات. وقد غاب أيضا عن الحاكم دور المصرف المركزي تجاه القطاع المصرفي الخاص، وهو دور يقع في صلب الأزمة الحالية.
تبرئة القطاع المصرفي الخاص
بخلاف لهجة سلامة اللائمة تجاه الحكومة، غابت عن الحاكم بشكل شبه تام دور المصارف الخاصة في الأزمة. وعندما أشار إليها بشكل عابر، كان "يأمل" لا "يأمر"، بالرغم من الصلاحيات المعطاة لمصرف لبنان في تنظيم ومراقبة المصارف الخاصة على مستوى التأسيس والتسليف والتنقية. يحق لمجلس "المصرف المركزي" الترخيص [لتأسيس مصرف خاص] بقدر ما يرى أنه يخدم المصلحة العامة" ويتمتع المجلس بسلطة استنسابية في منح الترخيص أو رفضه" (المادة 130). أي لدى مصرف لبنان سلطة شبه مطلقة في قرار تأسيس المصارف وأي تعديل في نظامها يخضع أيضا لموفقته (المادة 128). وقد وضع القانون ضوابط شديدة على تعاون المصرف المركزي مع المصارف. فودائع المصارف الخاصة عند المصرف المركزي "لا تنتج…فوائد" (المادة 98). والأخير ليس مجبرا على منح قروض للمصارف. وفي حال ارتأى ذلك، يجب أن يصبّ هذا التسليف في خدمة "المصلحة العامة" (المادة 99). وفي "ظروف استثنائية الخطورة"، يمكن أن يمنح تسليفات تهدف "لتلبية الحاجات الاقتصاد الملحة للحفاظ على استقرار التسليف ومقابل ضمانات عينية من الصرف المعني أو عضاء مجلس إدارته أو زبائنه (المادة 102). فهل خضعت الهندسات المالية لهذه الضوابط؟
ولعل أكثر البنود أهمية اليوم هي المتعلقة بقدرة المصرف المركزي على التدقيق بحسابات المصارف من أجل التأكد من سلامتها. فالمصرف المركزي يستطيع أن "يفرض على كل مصرف أن يثبت أن موجوداته تفوق بالفعل المطلوبات المتوجبة عليه". وعلى المصرف الذي أصيب بخسائر إعادة تكوين رأسماله في مهلة سنة على الأكثر أو سنتين بعد موافقة مصرف لبنان ويعود أمر تحديد الخسارة إلى المجلس المركزي لمصرف لبنان ولا يقبل قراره أي مراجعة إدارية أو قضائية (المادة 134). فماذا ينتظر الحاكم لكي يطبق هذه الشروط على المصارف لقطع الشك باليقين حول أوضاع المصارف الخاصة؟
حاكم من دون ملابس وحكومة من دون أنياب
يُعرّي قانون النقد والتسليف الحاكم من أي حجج ساقها في سبيل دفع التهم عنه بالتقصير. لقد كان رياض سلامة شريكا أساسيا في إفلاس البلد. وكان بمقدوره، وهذا أضعف الإيمان، الاعتراض بشكل علني وحازم على تلك السياسات أو التنحي جانبا. هذا لا يعفي الحكومة، ووزارة المال بالدرجة الأولى، من مسؤوليتها هي في مراقبة ومحاسبة الحاكم من جهة وتصويب السياسية النقدية من جهة ثانية بغض النظر عن شخص الحاكم. فالسياسات هي التي تحدد المواقف من الأشخاص لا العكس. لكن ما طرحه دياب من احتمال مساءلته ما لبث أن بدده تصريح وزيرة الإعلام منال عبد الصمد بعد يومين من ظهور سلامة الإعلامي. فقد أعلنت عبد الصمد أنه "ليس هناك من تحميل للمسؤولية" فيما يخص المصرف المركزي، وأن التنسيق بين وزارة المالية والمصرف المركزي "يكمّلان بعضهما". بأية حال، فإن أي سجال بين الحاكم والحكومة حول السياسة المالية بات أقرب إلى سجال بيزنطي في ضوء توجه الحكومة إلى صندوق النقد الدولي للمساعدة، بما يعني ذلك من وضع لبنان تحت الوصاية المالية الدولية، وفي ذلك تقع المسؤولية، كاملة، على عاتق الحكومة، لا الحاكم.