"عرس على حطام الديمقراطية"، هذا هو عنوان العدد الخاص عن انتخابات 2018 للمفكرة القانونية. وقد استدلت المفكرة على موقفها، ليس فقط من خلال الآليات التي أرساها قانون الانتخابات النيابية، بل بشكل خاص من طغيان صرف القوى السياسية المهيمنة لنفوذها في أشكاله المختلفة، على العملية الانتخابية.
عشية نشر عددها هذا، عرضت قناة "الجديد" فيلما مسربا جاء بمثابة "الدليل" القاطع على مدى انتشار أفعال صرف النفوذ هذه. فأمامنا الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري وعدد من النواب يحيطون بأحد مشايخ راشيا، بسام الطرّاس، الصادرة بحقه مذكرة توقيف عن محكمة التمييز. يظهر من الفيلم أن الطرّاس يشتكي من هذه المذكرة، ومن أنه مستدعى للمحاكمة أمام المحكمة العسكرية الدائمة بتاريخ 8/5/2018 وأن ثمة اشكالية في حال ذهابه (امكانية توقيفه) كما ثمة اشكالية في حال عدم ذهابه. الحريري يبدي تعاطفا مع حيرة الرجل، يتصل فورا بأحد القضاة (معاون مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية) الذي هو في الوقت نفسه مستشار لدى رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري. يضعه بالصورة ثم ينقل التلفون للطراس الذي يطلب منه إغلاق الملف. واللافت أن الطراس يدعم طلبه بأن قاضي التحقيق العسكري رياض أبو غيدا كان أصدر قرارا بحفظ الدعوى، علما أن هذا القرار تم نقضه من قبل محكمة التمييز (برئاسة القاضي جوزف سماحة) التي أكدت على اتهام الطراس، مصدرة مذكرة توقيف بحقه. لا نعلم ماذا كان موقف القاضي أو مدى تجاوبه أو قدرته على التجاوب مع طلب الطراس، ولا سيما أن القرار بتحديد مصير الملف بات اليوم بيد المحكمة العسكرية الدائمة، صاحبة الصلاحية للنظر في الاتهام الموجه إليه.
إلا أنه بمعزل عما سيسفر عنه هذا الاتصال أو محاكمة الشيخ في حال كتب لها أن تحصل، فإنه يستدعي ثلاث ملاحظات:
أولا، التطبيع مع التدخل في أعمال القضاء واستباحته في أوضح صوره
هنا نجد تعبيرا واضحا عما آلت ثقافة التدخل في القضاء. فالاتصال مع القاضي لمطالبته بإغلاق ملف، لا يحصل سرا إنما أمام جمهرة من الناس بعضهم يستلّ كاميرته ليصوره. كما أنه لا يحصل في غرفة مغلقة، إنما من خلال اتصال هاتفي بامكان أي من الأجهزة الأمنية التنصت إليه في واقع الممارسات الحاضرة. لا بل أن الحريري لا يجد حرجا في دعوة الشيخ الطراس لمتابعة المكالمة مع القاضي مباشرة من دون أي مقدمات.
ويجدر هنا لفت النظر إلى أن مجرد تواجد مقامات سياسية كهذه برفقة رجل مطلوب للعدالة أمر يستدعي أكثر من سؤال. فكيف يحلل هؤلاء لأنفسهم التحدث مع الشخص ومجاملته وربما التفاوض الانتخابي معه، فيما هو محل مذكرة توقيف؟ وألا يعكس ذلك إزدراء لأعمال القضاء وفضحا لتقاعس الأجهزة الأمنية عن تنفيذ قراراته، خاصة أن الحاضرين بدوا متحفزين لإسقاط هذه المذكرة من دون أن يكبد أي منهم نفسه عناء اقناع الشيخ بوجوب تسليم نفسه؟ وما يزيد المشهد كوميدية هو أن الشيخ عبّر من خلال الاتصال عن اشتياقه للقاضي، الذي هو المسؤول قانونا عن توقيفه!
ثانيا، التدخل في القضايا الأكثر خطورة بما يستبيح أمن المواطنين والدولة
أن الحريري عبر من خلال الفيديو المسرب عن اعتقاده أن بامكانه التدخل في القضاء، ليس فقط في قضايا بسيطة كتخفيض غرامة سير أو تسريع الحكم بنفقة عائلية، إنما أيضا في قضايا جد خطيرة كقضية إرهاب.
ومن شأن هذا الأمر أن يظهر جليا مدى الخطورة التي وصلت إليها ممارسات التدخل في القضاء (بعدما تم التطبيع معها) وخصوصا لجهة تأثيراتها على أمن الدولة (وهي القيمة التي طالما قمعت حريات المواطنين بحجة الحفاظ عليها). فأمام ممارسات كهذه، تتلاشى القوة الرادعة للقانون والقضاء، وتتعزز قناعة الأشخاص الذين لديهم وزن سياسي معين بقدرتهم على الإفلات من العقاب، كل ذلك في مقابل إضعاف مشاعر الطنأنينة والتمتع بالحماية القضائية لدى سائر المواطنين. ومن البيّن أن الحريري عمل من خلال هذا الاتصال على استرضاء الإسلاميين بعد فشل تيار المستقبل من تحقيق مطلبهم باستصدار قانون عفو شامل عن جميع التهم المنسوبة إلى فئات منهم. فإذ اصطدم هذا المسعى بخطوط حمراء فرضها رئيس الجمهورية ميشال عون وقوامها عدم جواز العفو عمّن تورط في جرائم قتل، جاء التدخل في القضاء لإغلاق ملف الطراس بمثابة مدخل بديل عن قانون العفو، يختلف عنه في الشكل لكن يتشابه معه تماما في النتيجة: الافلات من المحاكمة وأو العقاب.
ثالثا، أن التدخل في القضاء يشكل حكما إحدى أبرز وسائل صرف النفوذ والرشى الانتخابية
فضلا عما تقدم، تؤشر هذه الحادثة على أن أحد أبرز أشكال استغلال النفوذ الذي اعتمدته القوى السياسية في حملاتها الانتخابية هو صرف النفوذ في الملفات القضائية. بهذا المعنى، يتبدى أن التحضيرات للحملة الانتخابية بدأـت منذ بدء المساومات حول التشكيلات القضائية، حيث ذهب كل فريق إلى وضع يده على المراكز القضائية "المحسوبة عليه" في مناطق نفوذه. وهذا ما عكسه مرسوم التشكيلات القضائية في 2017 والذي جاء تكريسا لقوائم تعيينات وضعتها ثلاثة أحزاب "تمثل" القوى الطائفية المهيمنة على زمام الحكم. وليس خافيا أن التعيينات "السياسية" في القضاء اتصلت بشكل خاص بالمراكز القضائية الحساسة، وبالأخصّ مراكز النيابة العامة وقضاء التحقيق، وهي المراكز التي تتولى عموما توقيف الأفراد أو الإفراج عنهم. وعليه، بفعل هذه التعيينات، بات لهذه القوى يد طولى على حريات المواطنين. وهذا ما شكل الاتصال المسرّب شاهدا بليغا عليه.
ومن هذا المنظار، تكون هيئة الاشراف على الانتخابات ومعها الهيئات غير الحكومية المراقبة للانتخابات مدعوة لإجراء تحقيقات موسعة تحت عنوان آليات صرف النفوذ القضائي. فمجمل المؤشرات السابقة واللاحقة لبدء الحملة الانتخابية، تؤكد أن ما فعله الحريري ليس عملا منعزلا، بل جزءا من ممارسات رائجة باتت القوى السياسية تسوّغها لنفسها بأريحية تامة. ممارسات هي في عمقها دليل ساطع على أن نتائج الصناديق تعبر في جزء كبير منهاـ عن محصول ما تم منحه من منافع ورشى على حساب الناس جميعا، وتاليا على حساب القيم الديمقراطية.