“
لعل ما يميز بنغازي وما يجعلها مستوجبة لتسليط الضوء على إعمارها هو ما أصدره مجلس النواب “السلطة التشريعية شرق البلاد الليبية” في 15 نوفمبر 2014[1] معلناً إياها مدينة منكوبة، على خلفية الدمار الذي لحق بمبانيها العامة والخاصة ومعاناة أهلها. هذا الدمار حصل نتيجة للاشتباكات العسكرية التي وقعت في أحيائها بعد إطلاق عملية الكرامة بقيادة المشير خليفة حفتر ضد المجموعات المسلحة داخل المدينة والتي صنفت كمجموعات أرهابية.
بنغازي مدينة ساحلية من مدن ليبيا الهامة. ولا نجانب الصواب إذا قلنا أنها العاصمة الفعلية[2] للإقليم الشرقي “برقة”، وهي عاصمة دستورية للبلاد أسوة بمدينة طرابلس وفقاً لدستور1951[3]، كما أنها مدينة عرفت بالثورات والانتفاضات ضد أي حكم دكتاتوري إيديولوجي أم عسكري، مدينة يطلق عليها سكانها مصطلح العصية؛ فهي عصية على الغزاة “بني غازي”، وعصية على الانكسار والدمار، لكن هل هي عصية على الإعمار؟
من قبل الإعلان عن تحريرها بأكملها من المجموعات المسلحة وخضوعها لسيطرة الجيش التابع لمجلس النواب بطبرق في 5 يوليو2017 وسكانها يفكرون في إعادة إعمارها. كانت البداية مع تحرير كل منطقة على حدة. فسكان أي منطقة تنتهي فيها الاشتباكات، وبعد برهة من التريث حذراً من الألغام، يقومون بدخولها بسرعة، متغافلين عن شروط السلامة المثلى، ويرممون ما يجدون من بقايا مبان ولسان حالهم أنها أفضل من ذل الإيجار وسوء الحال.
كما بدأت غرفة التجارة والصناعة والزراعة بنغازي بالتعاون مع عديد الجهات العامة والخاصة، بعقد أولى ورش العمل المتعلقة بالإعمار في أبريل 2016. وقد كانت ذات حضور نوعي كبير، وحظيت بقبول واسع النطاق، وكان عمل الغرفة احترافياً. فقد قسمت، نوعياً، سلسلة الورش والندوات المهتمة بالإعمار. فجعلت إحداها للمسائل الاقتصادية أبريل 2016[4] والأخرى للقانونية أغسطس 2017[5] والثالثة للهندسية نوفمبر 2017[6]. وهكذا، رفعت توصيات تلك الورش والندوات إلى السلطات الرسمية في الدولة.
ومن هنا توالت الاهتمامات بملف الإعمار. وتبنت إحدى النواب عن المدينة بشكل شخصي ملف الإعمار وهي السيدة عائشة الطبلقي. وقد أسفر هذا الاهتمام المحمود والجهد المبذول عن ترأسها للجنة الرئيسة صحبة عدد من السادة النواب للمؤتمر الدولي لإعمار مدينة بنغازي في 5 مايو 2018[7]. وقد حظا المؤتمر بمشاركة أربع عشرة دولة، وقدمت فيه ورقات علمية منوعة، وصيغت من خلاله توصيات هامة رفعت لصناع القرار.
كما أن عميد البلدية حينها السيد عبدالرحمن العبار ومنذ توليه مهامه وضع إعمار المدينة من أولويات عمل البلدية. وفي أغسطس 2018، زار مبعوث الأمم المتحدة السيد غسان سلامة بنغازي واعدا بفتح مكتب للبعثة في المدينة[8]، وكان ملف إعمار المدينة من الملفات الرئيسة التي تم بحثها في سياق الزيارة.
ولعل من أهم القرارات التي اتخذت بشأن إعمار بنغازي هو قرار إنشاء لجنة إعادة استقرار بنغازي الصادر عن رئيس مجلس النواب السيد عقيلة صالح وقد خُصص مبلغ 415 مليون دينار، للجنة استقرار بنغازي البرلمانية المعنية بالبحث عن آلية لإعادة إعمار المدينة، عبر إقامة عدة مشاريع حيوية. وتشمل المشاريع المزمع إنشاؤها المرافق، والصرف الصحي، والكهرباء، والتعليم، بالإضافة إلى مشاريع الصحة ووزارة الداخلية. وتعاقدت اللجنة، التي يرأسها محافظ مصرف ليبيا المركزي في البيضاء علي الحبري، وعميد بلدية بنغازي، ورئيس الأركان الفريق عبدالرازق الناظوري، حتى الآن على 114 مشروعا بقيم مالية مختلفة.[9]
كل ذلك لم يفلح في تجنب واقع أليم وهو أن بنغازي لم يحدث فيها إعمار يتناسب مع كل هذه الجهود. ولم تؤتِ هذه المخصصات أكُلها. ولعل أصدق واقعة للتدليل على ذلك هو اضطرار بلدية بنغازي بالتنسيق مع وزير التعليم بالحكومة المؤقتة إلى إصدار قرار بتعليق الدراسة لمدة يومي 3/4 ديسمبر2018 بسبب هطول الأمطار على بنغازي مما أغرق شوارع المدينة الغارقة أصلاً في أكوام القمامة. وقد شلت المطر وآثاره الحركة المرورية المتعطلة عادة نتيجة ضيق الشوارع بالسيارات وعدم وجود أي استحداث لشبكة طرق جديدة أو حتى صيانة للقديمة منها[10].
وبالسؤال عن البيئة التشريعية التي تستند إليها هذه الإجراءات والقرارات المتعلقة بالإعمار، نؤكد خلو الإعلان الدستوري المؤقت وتعديلاته من أي إشارة إلى الإعمار. إلا أن مسودة الدستور الجديد قد ضمنت في مادتها 182 التزام الدولة بإعطاء الأولوية في برامجها لإعادة إعمار المدن والقرى المتضررة من العمليات الحربية وإن كان بعض المناهضين للمسودة يعيبون على المادة أنها تضيف شرطاً قد يعرقل تنفيذ الدولة لهذا الالتزام، ألا وهو شرط مراعاة مقتضيات التنمية في مختلف أنحاء البلاد.
وعلى صعيد الإطار القانوني لتأطير عملية إعادة الإعمار، نجد قوانين عدة أبرزها قانون رقم 59 لسنة 2012 بشأن الإدارة المحلية، أو قانون التخطيط العمراني رقم 3 لسنة 2001 ولائحة العقود الإدارية رقم 563 لسنة 2007، وقانون تشجيع الاستثمار رقم 9 لسنة 2010 ولائحته التنفيذية رقم 499 لسنة 2010.وغير ذلك من القوانين. إلا أن هذا الإطار يبقى قاصرا عن اجتذاب وتأطير الرساميل اللازمة لإعادة الإعمار. وقد يكون مفيدا التفكير بوضع قانون ناظم للشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو أيضاً قانون صندوق الإعمار لإعمار بنغازي والمدن المتضررة من الحرب والاشتباكات العسكرية.
كما أن قوانين الملكية العقارية في ليبيا[11] تحتاج إلى سياسة تشريعية رشيدة، إلغاءاً وتعديلاً وإصداراً. فهي قوانين مسيسة وتعبر عن نظريات اقتصادية متباينة، قد تكون سبباُ لحرب ليبية قادمة. هذا من دون الحديث عن أهمية وضع قوانين تمكننا من محاربة الفساد، بعد المستويات العالية التي وصل إليها في ليبيا، وفق منظمة الشفافية العالمية [12]وتقارير ديوان المحاسبة الليبي[13].
إلا أن الإعمار لا يكون بالقوانين فقط. فهو يحتاج إلى إرادة سياسية قوية وأيضاً لمنظومة كاملة من الآليات تسبقها رؤية واضحة، تنبثق عنها استراتيجية محددة. فعلى سبيل المثال يفترض أن يكون للمنظمات المدنية دور كبير في مجال الإعمار. فوجود عمل مجتمعي يتعلق بإعداد قواعد بيانات عن المتضررين يعد من لوازم الإعمار. كما أن الضغط الحقوقي على صناع القرار يحرجهم ويجعلهم مضطرين للوقوف في مواجهة مسؤولياتهم.
ولعل من التجارب المدنية الرائدة بشأن الإعمار في مدينة بنغازي هي بادرة الجمعية الليبية لدعم جامعة بنغازي. تلك الجمعية التي جندت خيرة متخصصي القانون لكتابة نظامها الأساسي، وخيرة رجال الاقتصاد ورجال الأعمال والأكاديميين من الجامعة ليكونوا من الجمعية العمومية لها وأعضاء مجلس إدارتها ولجانها الفرعية المتخصصة. تلك الجمعية التي بدأت بمبادرة فردية من د. فاخر بوفرنة، ثم توسعت حتى شملت محبي بنغازي وجامعتها من كل مدن الإقليم الليبي، بل ومن كافة بقاع العالم. وقد شكلت الجمعية دعما حقيقيا للجامعة في مواجهة الحكومات المختلفة وسهلت لها تلقي التبرعات المادية والعينية من أصحاب الأعمال وأصحاب الخير. وقد حظيت جمعية دعم جامعة بنغازي باهتمام دولي. فقد ذكرها السيد غسان سلامة في إحاطته عن ليبيا أمام مجلس الأمن في جلسة 31 مارس 2018 حيث قال: ومن بين الأمثلة على شعور المواطنين في بنغازي بالتفاؤل وتحشيد جهودهم لإعادة بناء المدينة هو وقوف أعضاء الهيئة التدريسية في جامعة بنغازي وقد أخذوا على عاتقهم إعادة بناء جامعتهم بأيديهم وهذه الروح تبعث أملا جديد علينا أن نحتضنه”[14].
ولا نهمل دور الأحزاب السياسية. فملف الإعمار يجب أن يكون في قائمة البرنامج الانتخابي لأي حزب يرغب الحصول على أصوات سكان المدينة أي كانت المجالس المستهدفة، محلية أم تشريعية. ولعل حزب “التكتل المدني الديمقراطي” يعُد نموذجاً إيجابياً، فهو حزب جديد ولد في بنغازي، ويدرج إعمارها في رؤيته الشاملة التي قدمها بعنوان “ليبيا الواعدة”.
وأخيراً لا نغفل عن الجامعات والمراكز البحثية التي يفترض أن تستهدف ملف الإعمار بدراسات ومشاريع بحثية مثمرة تستغل فيها الخبرات الاقتصادية والهندسية والقانونية للوصول إلى أبحاث ودراسات تفيد في إعمار المدينة، بأقل تكاليف، وضمن أقصر المهل، وبجودة أعلى، وأقل إضرار بمعالم المدينة القديمة، وبأكثر حرص للمحافظة على آثار المدينة ومعالمها الأثرية.
وفي هذا الصدد، ننوه إلى دور جامعة بنغازي التي كانت مع الإعمار على موعد بما أقامته حول إعادة إعمار الجامعة في يوليو 2016[15] وما نظمته كلية التقنية الكهربائية والإلكترونية حول إعادة إعمار بنغازي في فبراير 2018[16]. وتجدر الإشادة بمركز البحوث والاستشارات التابع للجامعة حيث ناقش مبكراً وبشمولية إعادة الإعمار في مؤتمر علمي رصين حول إعادة إعمار ليبيا ديسمبر 2012[17].
وقبل أن نختتم حديثنا، نؤكد على أن إعمار البشر أهم من إعمار الحجر ولذلك وجب ألا يقتصر الاهتمام على الإعمار المادي لمباني والمنشآت المهدمة، بل يجب أن يتعدى إلى إيلاء الاهتمام بالإعمار المعنوي، سواء منه الاجتماعي أم النفسي للموارد البشرية للمدينة المنكوبة وهم سكانها. فمن الضروري إعمار النسيج الاجتماعي الذي تفسخ من جراء تبعات النزاع السياسي والعسكري وانتماءات الناس لأطراف سياسية ودينية مختلفة ومتصارعة، وإعمار البنيان النفسي للأطفال والشيوخ والنساء من ويلات خوض تجربة الحرب وصوت المدافع واضطرار النزوح.
- نشر هذا المقال في العدد | 13 | ديسمبر 2018، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
العمران في تونس: أسئلة منسية في زمن البناء الفوضوي
[2] مدينة البيضاء تُعد العاصمة الشرقية أيضاً لأن بها مقر الحكومة المؤقتة ووزراتها، أما مدينة طبرق السلام فهي مقر السلطة التشريعية، ومدينة المرج من المدن الهامة أيضاً في الشرق الليبي حيث بها منطقة الرجمة مقر القيادة العامة للجيش الليبي، وكذا مدينة إجدابيا من عواصم الشرق حيث اتخذها الملك إدريس السنوسي عاصمة في 1920م.
[3] وذلك وفقاً لنص المادة 188 منه “للملكة الليبية المتحدة عاصمتان هما طرابلس وبنغازي.”
[11] قانون رقم 4 لسنة 78ميلادي الذي صدر تطبيقاً لمقولة البيت لساكنه التي تضمنها الكتاب الأخضر وغيره من القوانين الشبيهة له في عهد النظام السابق ، ثم قانون إلغائه رقم 16 لسنة 2015م في عهد المؤتمر الوطني بعد انتهاء مدة ولايته الأولى. لمزيد من التفصيل يرجى قراءة مجموعة اعمال المشروع البحثي الليبي الهولندي عن علاج منازعات الملكية العقارية في ليبيا ما بعد القذافي http://uob.edu.ly/assets/uploads/pagebooks/471e7-reportpapers-arabic-digital-pages.pdf
“