“يجب إيجاد حل نهائي لـ”الفوسفوجيبس” في قابس”؛ كانت هذه أبرز توجيهات رئيس الجمهورية قيس سعيّد لوزيرة الصناعة والمناجم، فاطمة ثابت شيبوب، خلال اجتماعه بها مساء 4 مارس الفائت. صباح اليوم الموالي أشرف رئيس الحكومة السابق كمال المدّوري على مجلس وزاري مضيّق بهدف تدارس البرنامج المستقبلي لتطوير إنتاج ونقل وتحويل الفسفاط خلال الفترة 2025-2030. وكان القرار الأبرز للمجلس “حذف الفوسفوجيبس من قائمة النفايات الخطرة وإدراجه كمادة منتجة واستعمالها في مجالات متعددة بشروط مضبوطة” ليُنهي تصنيفا قائما منذ سنة 2000، ويتسبب في غضب وإحباط كثير من متساكني المناطق المعنية بإنتاج الفوسفوجيبس، ومعهم عموم المهتمين بالشأن البيئي الذين يطالبون منذ سنوات طويلة بالتوقف عن إنتاج هذه المادة لما قد تتسبب فيه من أضرار صحية وبيئية.
لكن بعد أيام قليلة أتى الخبر اليقين من وزيرة الصناعة والمناجم عند حضورها، في 13 مارس الفائت، جلسة عامة في البرلمان، وردّها على أسئلة بعض النواب بخصوص الفوسفوجيبس ومخاطره، إذ أكدت أن هذه المادة غير مشعة ولا تُمثّل خطرا على صحة المواطنين مشيرة إلى أن القرار الوزاري استند إلى تقرير علمي صاغته لجنة من الباحثين والخبراء التونسيين. هكذا وبجرة قلم وبعض التطمينات “العلمية” تم تمرير قرار يَراه كثيرون نتاجًا لحسابات سياسية واقتصادية غَلَبت على المحاذير البيئية والصحية.
ونظرا لما يكتسيه القرار من أهمية، ونظرا لتداعياته المحتملة سيكون من المفيد تقديم بعض المعطيات العلمية والإحصائية والقانونية والتاريخية حول إنتاج مادة الفوسفوجيبس في تونس، وكذلك تتبع مسار تصنيفها وإعادة تصنيفها وما تخلل القرارين من نضالات و”مناورات”. كما سنسعى إلى تحليل الدوافع المحتملة لقرار السحب من قائمة النفايات الخطرة.
معطيات عامة
مادة الفسفوجيبس أو الجبس الفوسفاتي هي فضلات المعالجة الصناعية للفوسفات الطبيعي بهدف إنتاج الحامض الفوسفوري والأسمدة الفوسفاتية، وتَخرج في شكل رواسب رطبة بعد معالجة الفوسفات بحمض الكبريتيك. وتحتوي هذه المادة على عدة عناصر كيميائية ومعادن ثقيلة مثل الجبس وحمض الهيدروفلوريك والحمض الفوسفوري والزنك والكادميوم، والزئبق، بالإضافة إلى عنصر مشع وهو الراديوم 226 الذي ينبعث منه الرادون 222، وهو غاز مشع لا لون له ولا رائحة.
وبَلغ معدل إنتاج تونس السنوي من الفوسفوجيبس حوالي 4،5 مليون طن في السنوات الأخيرة، وكانت الكمية حوالي الضعف وأحيانا أكثر في السنوات السابقة لثورة 2011. وتُقدّر الكمية المتراكمة من الفوسفوجيبس منذ سنة 1952 حوالي 130 مليون طن دون احتساب الكميات المُلقَاة مباشرة في البحر (وهي تمثل حوالي 55 في المئة من مجمل الإنتاج)، في حين يَبلغ مجمل الإنتاج العالمي حوالي 4 إلى 5 مليارات طن.
يتركز إنتاج الفوسفوجيبس في أربع مناطق رئيسية: المنطقة الصناعية في ولاية قابس حيث يتركّز أكثر من نصف الإنتاج، ومدينة المظيلة في ولاية قفصة ومدينة الصخيرة، ومدينة صفاقس (انطلق انتاج الفسفوجيبس في مدينة صفاقس في سنة 1952 وتوقَّف منذ سنة 2016). في ولاية قابس يتم التخلص من كميات الفوسفوجيبس عبر ضخها مباشرة في بحر “خليج قابس” (12500 طن يوميا حسب الأرقام الرسمية)، أما في بقية المواقع فيتم الاعتماد على تقنية ضخ الفضلات في أنابيب من وحدات إنتاج الحَمض الفسفوري نحو مصبّات في الهواء الطلق لتُكدَّس وتُكوّن عبر السنوات “مرتفعات” تسمى بـ”الطابية”.
وكانت الدولة التونسية قد أقرّت عبر الأمر عدد 2339-2000 المؤرخ في 10 أكتوبر 2000 إدراج الفوسفوجيبس ضمن قائمة النفايات الخطرة لتصبح مشمولة بأحكام القانون 37-1997 المؤرخ في 2 جوان 1997 والمتعلق بنقل المواد الخطرة عبر الطرقات. لا يمنع الأمر عدد 2339 ولا بقية النصوص القانونية المتعلقة بالمواد والنفايات الخطرة “تثمين” الفسفوجيبس لكنها تَفرض جملة من التراخيص وتضع جملة من الشروط الصارمة لنقل وتحويل مثل هذه المواد.
استخفاف بالمطالب والنضالات البيئية
حرّرت ثورة 2011 الألسن والإرادات أيضا، وفتحت الأبواب أمام تعبيرات وتحركات لم تكن ممكنة في ظل نظام ديكتاتوري. لم يتوقف الأمر عند المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل شملَت مسائل أخرى مثل حماية الموارد الطبيعية والحق في بيئة سليمة. في مختلف مناطق البلاد وُلدَت حملات وتحركات وائتلافات احتجاجا على مظالم بيئية متعددة: مصبات الفضلات، التلوث الصناعي، استنزاف الموارد الطبيعية، ومخلّفات الأنشطة الاستخراجية، إلخ.
تباينت هذه التحركات من حيث الامتداد الجغرافي والأساليب النضالية وطول النَّفَس ودرجة التنظم، وللأسف فوّتت فرصة تشبيك الحملات والنضالات لبناء حراك بيئي وطني منظم وشامل يمكن أن يشكل ثقلا مضادا للسياسات الحكومية والمؤسسات الاقتصادية الخاصة المضرة بالبيئة والموارد الطبيعية. والملاحظ أن “أشرس” هذه الحركات وأطولها عمرا وأكثرها تنظّما كانت تلك المتركزة في “مثلث” الفوسفات ومشتقاته الكيميائية: ولايات قفصة وصفاقس وقابس. نستذكر هنا حملات “نحب نعيش” و”أوقفوا التلوث” (STOP Pollution) في ولاية قابس و”أغلقوا السياب” (الشركة الصناعية للحامض الفوسفوري والأسمدة SIAPE) في صفاقس. وكان الفوسفوجيبس وآثاره الصحية والبيئية في القلب من هذه التحركات.
حَاولَ الناشطون في هذه الحملات الضّغط على الحكومات المتعاقبة بمختلف الوسائل من وقفات احتجاجية واعتصامات وجَمع توقيعات وتنظيم تظاهرات علمية وفنية والتواصل مع البرلمانيين ووسائل الإعلام والتشبيك مع المنظمات الوطنية ذات الثقل الاعتباري والشعبي، وذلك لإبراز الضرر البيئي الناتج عن إلقاء الفوسفوجيبس في البحر أو تخزينه برًّا في الهواء الطلق: تهديد التنوع الإحيائي في خليج قابس، تسرب المعادن الثقيلة والعناصر المشعة إلى التربة والمائدة المائية، تردي جودة الهواء في المناطق المحاذية لوحدات الإنتاج والمصبات، إلخ. لم يكتفي الناشطون بالشعارات والخطابات، وسعوا إلى إثبات الأضرار وتوثيق مظاهرها وقدّموا ورقات بحثية ودراسات. ونجحت هذه الحركات نسبيا في استقطاب شرائح وفئات متعددة من المجتمعات المحلية مما زادها مشروعية وقوة، واستطاعت أن تضغط بشكل أكثر نجاعة على السلطات الجهوية والمركزية. أثمرت هذه الضغوط بعض المكاسب مثل قرار غلق “السياب” في ولاية صفاقس في جانفي 2016 وتعهد الحكومة في جوان 2017 لسكان ولاية قابس بالتوقف عن إلقاء الفوسفوجيبس في البحر وتوفير تكنولوجيات وتجهيزات للتخفيف من وطأة التلوث الناتج عن أنشطة المجمع الكيميائي التونسي وبناء مدينة صناعية جديدة “صديقة للبيئة”.
صحيح أن حكومات ما قبل “25 جويلية” تلكأت لسنوات قبل غلق وحدات إنتاج “السياب” بشكل نهائي ونَقلَت بعض الأنشطة الملوثة إلى مناطق أخرى ك”الصخيرة” و”المظيلة”، ولم تتوقف فعليا عن إلقاء الفوسفوجيبس في “خليج قابس”، لكنّها كانت تُفاوض وتُناور وتَحسب حسابا لغضب الشارع وصلابة الحركات البيئية وقدرتها على تحريك المجتمعات المحلية والتأثير فيها. كل هذا يبدو اليوم بعيدا جدا.
تتويج لمسار قديم
منذ مطلع الألفية الثالثة بدأ التفكير جديا في سبل التصرف في كميات الفسفوجيبس المتراكمة وخُصِّصَت بحوث جامعية وتجارب للغرض، تركزت بالأساس حول إمكانية استغلال هذه المادة كمكون مضاف للإسمنت أو الآجر (الطوب) لكن لا يبدو أن النتائج كانت مشجعة كثيرا. بعيد الثورة عادت مسألة الفوسفوجيبس إلى الواجهة مع تنامي الحراك البيئي في الولايات الثلاث المعنية بالإنتاج، وتعهدت كل الائتلافات والأحزاب الحاكمة التي تعاقبت على قيادة السلطة بإيجاد حل جذري لهذه النفايات الخطيرة، لكن تَجدَّدَ أيضا الخطاب المنادي بتثمين هذه “الثروة” سيئة السمعة. في ماي 2017 نظمت وزارة الطاقة في حكومة يوسف الشاهد ملتقى دوليا في ولاية قابس حَضرَه خبراء من الولايات المتحدة وكندا وفرنسا والصين للتعرف أكثر على سبل وتجارب تثمين الفوسفوجيبس. وحَاولَت حكومة الشاهد آنذاك الترويج لثورة “خضراء” قادمة في قطاع الفوسفات، وسعت إلى إقناع الحركات البيئية والرأي العام أنه باستعمال التكنولوجيات المتطورة بالإمكان إنتاج مشتقات فوسفاتية “صديقة للبيئة”. لم تَحدث “الثورة” وبقيت أغلب ملامح القطاع كما هي، وظلت مسألة الفوسفوجيبس تُراوح مكانها تقريبا، فالسلطة آنذاك كانت ما تزال تُقِيم حسابا للشارع والحركات الاجتماعية وتتحاشى في كثير من الأحيان الصدام المباشر.
غاب الموضوع بشكل كبير عن التداول الإعلامي والخطاب الحكومي لمدة سنوات (الأزمة الوبائية ثم تبعات “25 جويلية 2021”) قبل أن يعود تدريجيا في السنتين الأخيرتين. في 11 أفريل انعقد مجلس وزاري مضيق تحت عنوان “واقع قطاع الفوسفات وآفاق تطويره”، ومن بين مخرجاته إنشاء فريق عمل مشترك يتكون من ممثلين عن وزارات البيئة، والصناعة والطاقة والمناجم، لـ”وضع مخطط لإدارة مصبات الفوسفوجيبس وصياغة برنامج لتثمينه واستعماله في ميادين الصناعة والتجهيز”. وتم بعد مدة قصيرة من انعقاد المجلس الوزاري إنشاء لجنة مشتركة بين عدة وزارات كالبيئة والفلاحة والتعليم العالي والصناعة والطاقة وأملاك الدولة والشؤون الاجتماعية، كُلِّفَت بثلاث مهام رئيسية: إعداد مشروع لمراجعة الأمر عدد 2339 لسنة 2000 بهدف سحب الفسفوجيبس من قائمة النفايات الخطرة، ومتابعة وتسريع إنجاز التحاليل والتقارير التقنية، والتنسيق مع الأطراف المعنية والسلط الجهوية من أجل “إدارة عقلانية” لملف الفسفوجيبس بما في ذلك تثمينه واستعماله في مختلف المجالات الممكنة. كما تمّ تكليف “هيئة علمية” بصياغة تقرير يهدف إلى إنارة اللجنة المشتركة في موضوع إعادة تصنيف الفوسفوجيبس. قدَّمَت الهيئة تقريرها النهائي في مارس 2024 وأوصت بمراجعة الإطار التشريعي وإعادة تصنيف الفسفوجيبس كمادة منتجة co-produit بدلا من اعتبارها “نفايات خطيرة”، وصادقت عليه اللجنة المشتركة بالإجماع في مقر وزارة الصناعة والمناجم لتتبناه رئاسة الحكومة فيما بعد ويصبح أساسا للقرار المتخذ خلال المجلس الوزاري المضيق الذي انعقد في 5 مارس الفائت. جرت الأمور بـ”سلاسة” مدهشة بعد أن عجزت عدة حكومات على تمرير مثل هذه السياسات خلال فترة 2011 – 2021، وهذا ما يعكس موازين القوة القائمة في البلاد اليوم وانفراد السلطة التنفيذية بالقرار بدون أي حساب للغضب الشعبي أو تحركات الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
قليل من العلم، كثير من السياسة
ركَّزت الدعاية الرسمية المبررة لقرار إعادة تصنيف الفسفوجيبس على استناده إلى تقرير علمي ودراسات معمقة، وهذا كلام ينقصه كثير من الدقة. التقرير العلمي الذي يتكرر الحديث عنه صدر في مارس 2024 “تثمين الفوسفوجيبس: فرص للتنمية الاقتصادية الجهوية”. وبعيدا عن تقييم المحتوى العلمي للتقرير، فإن هناك جملة من الملاحظات المنهجية والشكلية يمكن أن نشير إليها. أولا هناك ما يشبه المغالطة الرائجة في الإعلام عند الحديث عن مهمة الباحثين والخبراء الذين صاغوا التقرير، فهم لم يُكلّفوا بدراسة مخاطر الفوسفوجيبس وتقييمها بل بمقارنة المعطيات المحلية بمواصفات وتجارب منظمات ودول أخرى وإثبات إمكانية تثمينه وتحديد المجالات التي يمكن استخدامه فيها. حتى عنوان التقرير موجَّه وجذاب، يربط بين استغلال الفوسفوجيبس وخلق الثروة والرخاء، وهذا لا يخلو من الدعاية السياسية.
لم يستند التقرير إلى أبحاث ميدانية حديثة العهد أجراها الخبراء والباحثون في تونس في مواقع إنتاج الفوسفوجيبس أو شهادات مخابر مستقلة. كل ما في الأمر أن الهيئة العلمية قامت بتجميع حوالي 170 وثيقة ودراسة نشرت في مناطق مختلفة من العالم ما بين سنتي 1995 و2023، واطلعت على نتائجها وقارنتها بمعطيات حول خصائص الفوسفوجيبس التونسي، ثم أقرَّت بعد ذلك بعدم خطورة مادة الفسفوجيبس المحلية وقدَّمَت جملة من التوصيات والمقترحات لتثمنيها مستأنسة ببحوث نظرية وتجارب عملية من مناطق أخرى في العالم. وقامَت بكل هذا العمل الكثيف في وقت قياسي، إذ لم يتطلب الأمر أكثر من ستة أو سبعة أشهر (ما بين جويلية 2023 وفيفري 2024). وحتى قبل ان تنهي أشغالها وتقدم تقريرها شاركت الهيئة العلمية في يوم دراسي تم تنظيمه في جامعة قفصة بتاريخ 14 ديسمبر 2023 وتَمحوَرَ حول حول تثمين الفوسفوجيبس وكانت أبرز توصياته: ضرورة مراجعة الإطار التشريعي واعتبار الفوسفوجيبس مادة منتجة co-produit بدلا من نفايات خطرة، والسّعي إلى تَحسيس مختلف الأطراف المعنية بأهمية تثمين الفوسفوجيبس.
ومن خلال مختلف صفحات وأقسام التقرير نجد تكرارا منهجيا وأسلوبيا هدفه الأساسي تأكيد وجاهة قرار إعادة التصنيف وعلميته عبر اقتطاع بعض الفقرات من منشورات لمنظمات دولية أو وكالات محلية من عدة دول، والتركيز على بعض المعطيات لبيان تطابق الخصائص الكيميائية الفوسفوجيبس في تونس مع معايير السلامة في “الدول المتقدمة” وانسجام القرار التونسي مع التوصيات الدولية.
على مستوى تركيبة الهيئة العلمية المتكوّنة من 14 عضوا نلاحظ وجود ثلاثة موظفين كبار من وزارة الصناعة والمناجم، وأربعة “خبراء في البيئة والتنمية المستدامة” دون تحديد دقيق مجال خبرتهم والجهات التي تَعتمدهم كخبراء، و7 أساتذة-باحثين جامعيين يُشاركون في صياغة التقرير بصفتهم الشخصية لا كممثلين عن الجامعات أو مخابر ووحدات البحث التي ينتمون إليها. ويشار إلى أن تمويل التقرير تم من قبل سفارة المملكة المتحدة في تونس والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD).
وتجاهل التقرير بشكل جلي التقارير والدراسات التي اشتغلت على تبيان مخاطر الفسفوجيبس الصحية والبيئية و/أو محدودية نجاعة تثمينه في قطاعات اقتصادية أخرى.[1]
وحتى في صورة عدم علمهم بوجود مثل هذه الدراسات والتقارير المضادة كان يمكن للمسؤولين السياسيين والباحثين العلميين التنقل إلى مواقع إنتاج الفوسفوجيبس في “طينة” و”الصخيرة” (صفاقس) و”شط السلام” (قابس) والمظيلة (قفصة) واستكشاف تلك الأمكنة بالعين المجردة والأنوف والأجهزة التنفسية حتى يتأكدوا أكثر من أن الفوسفوجيبس –والأنشطة المتعلقة بالفوسفات عموما- لا تمثل خطرا على صحة المتساكنين ومحيطهم. وربما كان من المفيد أن يتسائلوا لماذا قررت الدولة إغلاق مؤسسة الـNPK في صفاقس سنة 1992 وأقرت تصنيف الفوسفوجيبس كمادة خطرة في سنة 2000 وشرَعَت في تفكيك وحدات الإنتاج التابعة للـ”سياب” منذ سنة 2008، ولماذا مَنعَت السباحة لسنوات طويلة في الشواطئ القريبة من مواقع الإنتاج.
“المنافع” المحتملة لقرار إعادة التصنيف
فضلا عن “المكاسب” السياسية التي قد تحققها السلطة من خلال الإيحاء بأنها استطاعت أن “تحل” بشكل حازم ملف عالق منذ سنوات طويلة، وأنها ستخلق “الثروة” من فضلات ملوثة فإن هناك حسابات اقتصادية في الميزان.
“تحرير” الفوسفوجيبس من قائمة “النفايات الخطرة” يُخفّف أولا من كلفة وشروط وتراخيص نقله واستعماله. ثانيا، سيُساعد الدولة على التملص من المسؤولية البيئية تحت عناوين براقة مثل “التثمين” و”تكنولوجيات خضراء” و”وحدات إنتاج غير ملوثة”، وبدلا من الاضطرار إلى وقف إنتاج هذه المادة ستزيد من الكميات المنتجة. خلال نفس الاجتماع الوزاري المضيق الذي اتّخِذ خلاله قرار إعادة تصنيف الفوسفوجيبس أوضحت الحكومة تعويل تونس في المدة القادمة على الفوسفات كدعامة اقتصادية أساسية وعبرت عن سعيها إلى “تحقيق النّقلة المرجوّة لهذا القطاع خاصّة من خلال التّرفيع في الطّاقة الإنتاجيّة والتّحويل والتّصدير مع العمل على الاستثمار في التّكنولوجيا الحديثة لزيادة الإنتاجيّة والبحث عن أسواق جديدة للتصدير.” وتأمل الدولة في زيادة إنتاج الفوسفات إلى 14 مليون طن سنويا مع حلول سنة 2030، علما وأن أقصى طاقة إنتاجية بلغتها تونس كانت في حدود 8 ملايين طن سنويا قبيل ثورة 2011 قبل أن يتهاوى الإنتاج ويبلغ أقل من 3 مليون طن في بعض السنوات. كما أعلنَت وزيرة الصّناعة والمناجم والطّاقة خلال نفس الاجتماع عن جملة من الإجراءات المتعلقة بإنتاج الحامض الفسفوري (الذي يتطلب إنتاج كل طن منه إنتاج حوالي 5 أطنان من الفوسفوجيبس)، وأهمها:
-“إنشاء وحدة صناعية لإنتاج الحامض الفسفوري المنقّى بالصخيرة، بطاقة إنتاج سنوية تقدر بـ 60 ألف طن.
-إنشاء وحدة لتنقية الحامض الفسفوري من الكدميوم بالمظيلة، بطاقة إنتاج سنوية تقدر بـ 180 ألف طن
-إنشاء وحدات نموذجيّة لإنتاج الأمونيا الخضراء بقابس وإنتاج الحمض الفسفوري بالصّخيرة والأسمدة الفسفاطيّة المحبّبة بالمظيلة.
-إنشاء وحدات لتثمين إفرازات الفليور على مستوى وحدات إنتاج الحامض الفسفوري بقابس والصخيرة والمظيلة
-تركيز محطات لمعالجة الإفرازات المنبعثة من وحدات إنتاج الحامض الفسفوري بقابس والصخيرة والمظيلة بهدف تحسين الوضع البيئي.
هذه الإجراءات تعني أنه سيتم الترفيع في نسق وحجم انتاج الحامض الفسفوري ومعه كميات الفوسفوجيبس، لكن مع السعي إلى “تخفيف” الأثر البيئي بجملة من تجهيزات “معالجة الإفرازات” و”الوحدات النموذجية”. لكن إلى أين ستذهب كل هذه الكميات الجديدة من الفوسفوجيبس –دون أن ننسى المخزون القديم- وكيف سيقع تثمينها؟
هناك مجالات محدودة يُمكن استغلال الفوسفوجيبس فيها، وهي أولا الأسمدة الفوسفاتية واستصلاح الأراضي الحية، وقد يُمكّن ذلك من زيادة الإنتاج الفلاحي (بغض النظر عن المخاطر الصحية والبيئية)، وثانيا مواد البناء والأشغال العامة، فالفوسفوجيبس حسب بعض الدراسات والتجارب المحدودة يُمكن استعماله كمدخل في تركيبة الاسمنت (بدلا من الجبس الطبيعي) وألواح الجبس في المباني وحتى الطوب، كما جرى تجريبه في بعض الدول في إنجاز الطرقات.
تتحدث السلطات عن أفق تنموية وتشغيلية وخَلق الثروة، لكن دون تقديم معطيات واضحة أو تقديرات لحجم المكاسب المفترضة. كما أن الشروع في تثمين الفوسفوجيبس قد يتطلب سنوات، إذ يحتاج دراسات يمكن أن تمتد لسنوات، وتجهيزات وتقنيات لا نعرف إن كانت متوفرة محليا أم سيتم استجلابها من الخارج. وليس من الواضح أيضا هل سيكون “التثمين” بإشراف من الدولة والمؤسسات العمومية أم سيُفتَح أمام تنافس القطاع الخاص المحلي والأجنبي. بالنسبة للاستثمار الأجنبي فقد تكون الصين –أكبر منتج للفوسفات في العالم- أول المعنيين، فهي من جهة تسعى في المدة الأخيرة إلى الهيمنة تدريجيا على قطاع إنتاج الاسمنت في تونس (اشترت ثلاث وحدات إنتاج منذ صائفة 2024)، ومن جهة أخرى مهتمة بالاستثمار في قطاع الفوسفات التونسي، إذ وقَعَت في سبتمبر الفائت اتفاقية مع الدولة التونسية لبناء مصنع “ثلاثي الفسفاط الرفيع” في “المظيلة” في ولاية ڨفصة وأعلنت أكثر من مرة رغبتها في استغلال منجم الفوسفات في “سراورتان” (ولاية الكاف). دون أن ننسى أن الصين في طريقها لأن تصبح “المقاول” الأكبر في تونس بعد اتفاقها –أو تفاوضها- مع الدولة التونسية لبناء عدة منشآت وشبكة طرقات وسكك حديدية.
مهما كانت حسابات السلطة و”المنافع” التي قد يَدرّها تثمين الفوسفوجيبس فإن الفاتورة البيئية قد تصبح ثقيلة جدا بشكل يجعل سدادها شبه مستحيل، وقد تكون الضريبة السياسية والاجتماعية أعلى بكثير من “الأرباح”.
تستمر السلطة التنفيذية، بقيادة رئيس الجمهورية، منذ سنوات في تسطير سياسات شاملة في قطاعات الطاقة والمناجم والثروات الطبيعية سيكون لها تأثير أكيد على مستقبل البلاد بيئيا واجتماعيا وحتى اقتصاديا، متفردة بالقرار ومتجاهلة ضرورة وجود حوار وتوافق مجتمعيين في مسائل بمثل هذه الأهمية، ومستغلة ضعف صلاحيات السلطة التشريعية وانحسار العمل السياسي المعارض والنشاط المدني وإحجام جزء متزايد من التونسيين –لأسباب متعددة- عن المشاركة في الحياة العامة والتعبير عن مواقف من سياسات السلطة أو انشغالهم بمسائل أكثر خطورة واستعجالية مثل “تغيير التركيبة الديمغرافية للبلاد” و”مؤامرات” الشرق والغرب ضد تونس. وفي ظل تأزم الوضع الاقتصادي وعجز السلطة عن اجتراح حلول مبتكرة وناجعَة للخروج من الأزمة فيبدو أنها اختارت إعادة تدوير سياسات قديمة مستنزفة للموارد الطبيعية قائمة على العقلية الاستخراجية والصناعات الملوثة الرخيصة وخلق مواطن شغل بأجور وظروف عمل متدنية وجلب عملات صعبة واستثمارات بأي ثمن.
[1] ومنها على سبيل الذكر لا الحصر:
-Impacts environnementaux du stockage du phosphogypse à Sfax (Tunisie) : https://www.ifsttar.fr/collections/BLPCpdfs/blpc__219_29-40.pdf
-Etude d’impact de la pollution industrielle sur l’économie de la région de Gabés : http://www.ods.nat.tn/upload/Rapport_Final.pdf
-Assessment of heavy metals contamination/pollution of phosphogypsum waste of the Mdhilla region (Gafsa, southern Tunisia) : https://www.researchgate.net/publication/385893712_Assessment_of_heavy_metals_contaminationpollution_of_phosphogypsum_waste_of_the_Mdhilla_region_Gafsa_southern_Tunisia