بات إضراب المحامين الدّارسين بالمعهد الأعلى للمحاماة، خلال كل عامّ دراسيّ، حدثًا معتادًا بفعل استمرار عوامل الأزمة نفسها وغياب أي مسعى لتقديم حلول ناجعة. وما أن انطلقت الدراسة للمرسّمين بالسنة الثانية في منتصف شهر أكتوبر 2023 حتى ابتدأ إضرابٌ احتجاجيّ بشأن ملّفين أساسين: رزنامة التدريس والمنحة المالية. إضرابٌ لا زال مستمرًا في ظلّ تمسّك الدّارسين بمطالبهم التي يصفونها بالمشروعة، مقابل تمسّك إدارة المعهد ومجلسها العلمي برفض الاستجابة لأهمّها، رغم محاولات الهيئة الوطنية للمحامين وجمعية المحامين الشبان تقريب وجهات النظر. وضع يعجّل بطرح ملف إصلاح المعهد الأعلى للمحاماة على الطاولة.
تكوين تطبيقي مهدور
يحتّج المحامون الدّارسون على روزنامة التدريس في موضعيْن: أولًا تواصل فترة التكوين النظري إلى شهر أفريل والحال أن الدفعات السابقة أنهتْ امتحاناتها في شهر فيفري. وثانيًا تقليص فترة التكوين التطبيقي. وتطرح هذه المسألة نقطة جوهرية وهي جودة التكوين باعتبار أن مهمّة المعهد هي تأهيل الدّارسين الناجحين في مناظرة المحاماة وإعدادهم قبل الترسيم بجدول المهنة.
يحدّد قرار لوزير العدل[1] برنامج الدراسة بالمعهد القائم على تكوين نظري يشمل مواد قانونية عامة (مثل الإجراءات المدنية والجزائية والقانون العقاري) وأخرى مرتبطة بممارسة المحاماة (مثل المرافعة وأخلاقيات المهنية وتقنيات التحرير)، إضافة لتكوين تطبيقي يشمل تربصّيْن إعداديّين لدى مكتب محام وآخر بالمحكمة وتربّص تطبيقي بإحدى المؤسسات المرتبطة بمهنة المحاماة. ويضبط البرنامج نظام التدريس النظري بالساعات (72 ساعة للمواد السنوية و36 ساعة للمواد السداسية)، فيما يضبطه فيما يتعلّق بالتكوين التطبيقي بالأشهر (ثلاثة أشهر بمكتب محام وشهر بالمحكمة وشهر بمؤسسة مرتبطة بالمحاماة إضافة لزيارات ميدانية خلال العام الدراسي).
إلا أنه واقعًا، دائمًا ما يحدّد مديرو المعهد رزنامة التدريس بما لا يحترم مستلزمات القرار الوزاري أمام إكراه ضغط الوقت بسبب تأخر إعلان نتائج المناظرة كل عام، بما ينعكس على التكوين التطبيقي الذي يحدّد في العادة بثلاثة أشهر. ولكن خلال العام الدراسي الحالي، قلّصت الرزنامة المحدّدة فترة التكوين التطبيقي أكثر فأكثر إلى شهرين فقط (شهر ونصف بمكتب محام ونصف شهر بالمحكمة). هذا التقليص زاد من تهميش التكوين التطبيقي الذي يفترض أصلًا في القرار الوزاري تخصيصه بخمسة أشهر كاملة، وبالتالي فالرزنامة تقضم أكثر من نصف المدة الزمنية المخصصة له علما أن المحامين الدّارسين يعتقدون أن التكوين التطبيقي هو الأكثر نفعًا لهم على مستوى إعدادهم لممارسة المهنة. ففي معاهد المحاماة بفرنسا، تقتصر الدروس النظرية على ثلث مدة التكوين فقط فيما يحتكر التكوين التطبيقي على بقية المدة. المحامون الدّارسون اعتبروا، في عريضتهم المرفوعة لمدير المعهد، أنّ التقليص في فترة التربصات هو تعسّف يحرمهم من التكوين التطبيقي، مقترحين التقليص في فترة التكوين النظري وإنهاء الدروس في شهر فيفري على غرار زملائهم في الدفعات السابقة للقيام بتربصاتهم بالحد المعمول به.
في هذا الجانب، يقدّر اليوم لفيف من المحامين ممّن مرّوا على مقاعد المعهد أن الدروس النظرية في المواد القانونية ليست إلا اجترارًا في المجمل لما تلقوه على مقاعد الكلية، وأنه من الأجدى تعويضها إما بمواد نظرية تتعلق بممارسة المحاماة أو بإضافة زمنها لفترة التكوين التطبيقي. هي وضعية تعزّز المطالبة بتعديل نظام الدراسة بالمعهد في اتجاه تحفيز التكوين التطبيقي، ومن ثمّ المطابقة بين مستلزمات النصّ القانوني من جهة والواقع من جهة أخرى، لضمان المنظورية والاستقرار بما يمنع من إعادة إنتاج الأزمة كل عام.
منحة مالية: الاحتجاج الدائم
تناولت العريضة المرفوعة لإدارة المعهد أيضًا مسألة المنحة المالية التي دائمًا ما تكون عنوانًا احتجاجيّا للمحامين الدارسين مع الدفعات السابقة كل عام، بسبب قيمتها الزهيدة (200 دينار شهريًا) وتأخّر صرفها. إذ أكد المحامون الدارسون في عريضتهم أن المنحة “لا تلبّي أبسط متطلبات الحياة اليومية”، خاصة وأن الدّارس ملتزم بعقود تسويغ ومصاريف يومية إضافة لحرمانه من حقه في المبيت. ظروف تزيد من تردي الوضع الاجتماعي للدّارسين، خصوصا لمن هم قادمون من خارج العاصمة.
تُسند هذه المنحة المستحدثة منذ العام الدراسي 2015/2016 على موارد الصندوق الوطني للتشغيل في إطار برامج دعم الحياة المهنية. ويُنظر إلى أن ارتفاع الكلفة المعيشية يفترض ترفيعًا في قيمتها. والمعضلة المضاعفة هو التأخر الدوري في صرفها، في ظل غياب أي جدولة واضحة لها. هو وضع يزيد في تأزيم أجواء الاحتقان في المعهد كل عام.
فشل الوساطة وتواصل التصعيد
بعد انطلاق إضراب المحامين الدّارسين، سرعان ما جاءتْ الإجابة سلبيّة من إدارة المعهد في بلاغ بتاريخ 31 أكتوبر 2023، أكّد رفض المجلس العلمي تعديل الرزنامة مع مطالبة الدارسين بالالتحاق بمقاعد الدراسة. في اليوم ذاته، اجتمع العميد حاتم مزيو وعدد من أعضاء الهيئة بممثّلي للمحامين الدّارسين مؤكدًا “مساندته لبعض مطالبهم المشروعة في نطاق احترام القانون والتراتيب المنظمة للمعهد”. وهي صيغة تدعو ضمنيًا إدارة المعهد للتفاعل مع المطالب. فيما كان موقف جمعية المحامين الشبان، في بلاغها، أكثر حسمًا في اتجاه تأكيدها التبني الكلّي لمطالب المحامين الدارسين، بل في اعتبار أن إدارة المعهد وجزء من الإطار التدريسي “فشلوا في أول امتحان يعترضهم”.
إدارة المعهد تفاعلت بعد ذلك بدعوة ممثلي الدّارسين لاجتماع لدراسة مقترحاتهم بشأن الرزنامة، ثمّ أكّدت في بلاغ بتاريخ 3 نوفمبر 2023، أنه بعد استشارة الأساتذة المكونين تقرّر بالإجماع الحفاظ على الرزنامة كما هي.
تمسّك المحامين الدارسين بالسقف الزمني للدروس النظرية على نحو الدفعات السابقة، عملا بمبدأ المعاملة بالمثل، يعزّز مشروعية موقفهم في مواجهة الإدارة. إذ يصعب للإدارة أو لغيرها التمسك بنصّ القانون المتعلق بنظام الدراسة والامتحانات لفرض موقفها، باعتبار أنّ إدارات المعهد المتعاقبة لم تلتزم بمقتضياته خصوصا فيما يتعلق بمدة التكوين التطبيقي. تجاوز النص يدفع للبحث عن صيغة وسط توازن بين تقدير المجلس العلمي والإدارة من جهة وتقدير المحامين الدارسين من جهة أخرى، في انتظار إصلاح بيداغوجي شامل. في خضمّ ذلك، تظلّ مؤشرات حلّ الأزمة غائبة وما يعنيه من مخاطر استمرار الإضراب على مستوى التأثير على التكوين في نهاية المطاف، وذلك في ظل تمسك كل جهة بموقفها: الإدارة في مواجهة المحامين الدّارسين الذي يلقون إسنادًا علنيًا من جمعية المحامين الشبان.
المعهد وهياكل المحاماة: علاقة ملتبسة
في الأثناء، دائمًا ما يُنظر إلى مواقف جمعية المحامين الشبان تجاه الملفات المرتبطة بمعهد المحاماة أنها مشوبة بسعي لاستمالة المحامين الدارسين في سياق التحشيد لخزان انتخابي مستقبلي. إلاّ أنّ موقفها الحادّ، في الأزمة الراهنة، قد يؤشر بالخصوص لتقدير سلبي غير راهن من مدير المعهد المعيّن في شهر فيفري الفارط، الذي يشرف لأول مرة على افتتاح سنة دراسية منذ تنصيبه في عهدة من المنتظر أن تمتد ثلاث سنوات قابلة للتجديد.
في ذات السياق، رفضتْ إدارة المعهد التفاعل مع وساطة الهيئة لإيجاد مخرج للأزمة قد لا يؤشر على خلاف مؤسساتي محض. وطالما ظلّت العلاقة بين إدارة المعهد وهيئة المحامين ملتبسة، إذ اٌنشئ المعهد عام 2006 تتويجًا لمطلب توحيد المدخل للمهنة، لكن أمّنت السلطة التنفيذية سيطرتها تعيينًا وتسييرًا مع حضور هامشي لهيئة المحامين عبر الاكتفاء بتعيين محامييْن اثنين في تركيبة المجلس العلمي المكون من عشرة أعضاء على خلاف المثال الفرنسي حيث تعيّن الهيئة مديري المعاهد الجهوية لتكوين المحامين (CRFPA). في تونس، يُعيّن مدير المعهد بأمر رئاسي باقتراح من وزارة العدل، ولكن جرى العرف على تبنّي الوزارة لمقترح يقدّمه عميد المحامين بعد استشارة مجلس الهيئة. هو عرفٌ لتفادي ارتياب العلاقة بين الهيئة والإدارة، ولكنّه لا يخفي شبهات محاباة التعيين. وضعٌ يدفع لإرساء آلية شفافة وفق معايير علمية لتسمية مدير المعهد، باعتبار التعيين تكليفًا يتعلق بمسؤولية تأمين تكوين ناجع للمحامين المستقبليين، وليس هدية تشريف تُمنح لأحد شيوخ المهنة في الغرف المغلقة.
من جهتها، تدفع الهيئة دائما نحو تقنين نفوذها على المعهد على النحو الذي عكسته مسودة المشروع الذي أعدته لقانون المهنة عام 2021 بتأكيد تعيين مديره باقتراح منها وليس من وزارة العدل، مع إضافة مجلس الهيئة كجهة ثالثة للإشراف على المؤسسة مع وزارتيْ التعليم العالي والعدل. كما اقترح تغيير تركيبة المجلس العلمي في اتجاه ضمان أغلبية مطلقة من المحامين بإقصاء تمثيلية القضاة وتقليص تمثيلية ممثلي وزارتيْ الإشراف، وذلك على خلاف الوضع الحالي.
معهد المحاماة.. ورشة إصلاح مؤجلة
يحفّز إضراب المحامين الدّارسين لإطلاق ورشة إصلاح المعهد الأعلى المحاماة أساسًا فيما يتعلق بالتكوين البيداغوجي بمراجعة نظام الدراسة والامتحانات، بما يضمن الحدّ الأدنى من الاستقرار للقطع مع التغييرات في تاريخ بدء العام الدراسي ونظام التدريس ومدته بين عام وآخر. كما يُطرح، في ذات السياق، ملفّ تكليف طاقم التدريس سواء من المحامين أو القضاة، في ظل عدم شفافية معيار الاختيار والشكوك حول موقع عنصر الكفاءة لحساب المحاباة، وهو ما يدفع لإرساء نظام شفاف يقوم على فتح باب الترشح عبر الملفات والمفاضلة على أساس معايير موضوعية وقابلة للقياس. استحقاق الشفافية يبدو أيضا ملحّا في علاقة بمناظرة الالتحاق بالمعهد.
[1] قرار من وزير العدل وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية ووزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكنولوجيا المعلومات والاتصال مؤرخ في 9 سبتمبر 2014 يتعلق بضبط برنامج الدراسة ونظام الامتحانات بالمعهد الأعلى للمحاماة.