من الظواهر النادرة في تاريخ لبنان الحديث: نائب (حاليا سابق) في البرلمان يحتضن ملفاً يُعد من أخطر القضايا التي تمس بكرامة المواطن وتنسف حقوقه، وهو ملف الصحة العامّة والدواء، فيفصله عن السياسة والمصالح والمحسوبيات. في العقد الأول الذي تلا انتهاء الحرب الأهلية، بدأت مسيرة الدكتور إسماعيل سكرية، بعد ترشحه للانتخابات النيابية للمرة الأولى في العام 1992، وفوزه لدورتين متتالتين في العامين 1992 و1996 عن منطقة بعلبك – الهرمل في محافظة البقاع. فقد كانت دورة العام 1996 هي الأهم بالنسبة اليه، حيث بدأ عمله الدؤوب والمتواصل حاملاً لواء الصحة العامّة، التي هي أساس الحفاظ على كرامة المواطن، بحسب قوله. وهو ما زال يحتضن ملف الصحة والدواء حتى يومنا هذا خارج البرلمان، فاضحاً عمليات الفساد والتزوير والاحتكار التي تسيطر على حقوق الناس.
يقول الدكتور سكرية، في مقابلة مع "المفكرة القانونية"، إن ملف الدواء الذي انطلق منذ 18 عاماً (في العام 1997) من داخل مجلس النواب، وهو الأخطر بكل أبعاده ومعانيه، يشكّل العامود الفقري للملف الصحي في لبنان. ويعتبر أن مسيرة هذا الملف أكدت أهميته بمعنيين: الأول علمي يتعلق بعمليات استيراد وتصنيع الدواء وما يترافق معها من احتكار وتزوير، أما الثاني فهو "مدى مصداقية المسؤولين في ترجمة الشعارات السياسية والاجتماعية التي يرفعونها، والسؤال الأبرز هنا هو كيفية التعاطي مع صحة الناس"، مشدداً على أن "المقياس الأدقّ لمصداقية شعاراتنا، من حيث ما أتت ومهما علا شأنها، هي كيفية تعاطينا إزاء صحة المواطنين".
ويرى سكرية أن التعاطي مع هذا الملف شكّل أنموذجاً لمقاربة إصلاحية لا يجد بديلاً لها، حيث يشرح أن هذه المقاربة قامت على بذل جهد متواصل بإرادة مستمرة وإصرار على استنهاض ثقافة مواطَنة في المجتمع اللبناني، أقلّه في القطاع الصحي، لتحفيز المواطنين على حماية حقوقهم وكرامتهم، خصوصاً عندما نرى الكثير من الأحداث حيث تُهان كرامتهم على أبواب المستشفيات وداخلها. ويشدد سكرية على أن الهدف الأساسي من هذا الملف، الذي أُنشأت على أساسه "الهيئة الوطنية الصحية"، هو "توحيد الناس حول القضايا المعيشية التي تخلو من أي لون عصبي أو طائفي أو سياسي"، متسائلاً "لماذا لم نبذل بعد أي جهد على تثقيف المواطنين وتدريبهم على الفصل بين كرامتهم وقضاياهم المعيشية من جهة وحقهم في الانتماء السياسي من جهة أخرى؟".
مراحل التجربة في مواجهة فساد حقل الصحة
أمام الفساد المستشري في سوق الدواء، من تزوير واحتكار تجاري وغلاء أسعار، الذي طالما غضت الطبقة السياسية الحاكمة النظر عنه، بدأ سكرية مسيرته من داخل مجلس النواب في 27 أيار 1997، عندما توجه باستجواب لحكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري عن المكتب الوطني للدواء، أهميته ودوره في تخفيض تسعيرة الدواء ومصيره بعد منعه من إبصار النور، واختتمه بعبارة كانت مقدمة لإشعال الملف، قائلاً "لا يليق بالشعب الذي أوصلنا إلى هذه القاعة أن نتعاطى بصحته كزفت وزارة الأشغال". وما يلفت الانتباه في تلك المرحلة، أنه في دورة العام 1996 كان قد ترشح وفاز في الانتخابات النيابية منفرداً، وليس ضمن أي لائحة انتخابية، على الرغم من أنه كان مقرّباً من لائحة "حزب الله". وقد يكون سكرية نجح في خوض هذه المعركة من داخل المجلس النيابي، كونه كان مرشحاً منفرداً غير مرتهنٍ لأي طرف من الطبقة الحاكمة التي يعتبرها متحالفة مع محتكري سوق الدواء. وهو يؤكد أنه كان مستقلاً، قائلاً "لو كان هناك أي طرف سياسي يحميني ويدعمني لما كان بمقدوري أن أحقق ما وصلت إليه، وكان سيمنعني من فتح هذا الملف منذ البداية". والجدير بالذكر، أنه على الرغم من تأكيده على ثبات مواقفه في الخط السياسي الذي يؤيّده، فإن أغلب المعارك التي خاضها في هذا الملف كانت في مواجهة بعض وزارة الصحة من الخط السياسي ذاته الذي انتمى إليه والذي عاد وترشح معه في دورة العام 2005 من الانتخابات النيابية. ويعتبر سكرية أنه "دخل عكس المناخ المُتداول في لبنان، حيث يسود تحفّظ النواب على مواجهة، مساءلة واستجواب وزراء حلفاء لهم"، مضيفاً "شاء القدر أن تكون أغلب المواجهات التي خضتها سابقاً مع حلفاء لي، لأنه لا يمكن المسايرة في ملف حساس كملف الصحة".
ويشير سكريّة إلى أن الأحداث "تطوّرت بالصدفة"، موضحاً أنه بعد بضعة أيام تلت الاستجواب الذي طرحه في أيار 1997، أحد الموظفين السابقين في وزارة الصحة، كانت قد تمت إزاحته بعد أن أحال إحدى زوجات السياسيين على النيابة العامة، أحضر إلى عيادته ملفاً كبيراً يوثق فيه فساد وزارة الصحة. وبعد أيام، اتصلت فتاة قالت إنها تعمل في المختبر المركزي، وفضحت المخالفات والمحسوبيات والإغراءات المادية التي كانت تقدمها بعض الشركات لتمرير أدوية من دون إجراء الفحوصات اللازمة. كما اتصل صيدلي بعد فترة وأحضر كيساً ممتلئا بأدوية مزورة، شرح له طرق التزوير واللعب بالتواريخ ومصدر الصناعة. كل هذه الأحداث ساعدت سكريّة وشجعته على اكمال مسيرته.
يقسّم سكرية تجربته إلى ثلاث مراحل، مشيراً إلى أنه عندما بدأت المعركة، في المرحلة الأولى، بدأ التشكيك والتسخيف، حيث أتت ردود الأفعال "من وحي ما كان متعوداً عليه الشعب اللبناني". يضيف: "منهم من قال أن لدي حسابات سياسية ومادية ومصالح وطموحات، وبعضهم قال أنني سأملّ بعد فترة أو سأحصل على مبلغ مادي يسكتني أو يهددني". ويلفت الانتباه إلى أنه في المرحلة الثانية بدأ التأييد الشعبي يظهر، في التعاطف الكلامي والتشجيع والترحيب في الندوات واللقاءات، بسبب استمراره في محاكاة الوقائع العلمية والموضوعية ووجدان الناس، مشيراً إلى أن "الموجة بدأت تنقلب لأول خطوة عملية" خلال توقيع كتابه (الدواء… مافيا أم أزمة نظام) في قصر الأونيسكو والحشد الذي حضر، حيث أسمتها صحيفة "السفير" حينها (تظاهرة وطنية). ويقول: "تجربتي تؤكد أنه يمكننا فعل أي شيء للدفاع عن حق المواطن وكرامته، على الرغم من أن هذه الجولة كانت تُقابل بالتصفيق والتشجيع والدعم المعنوي والدعوات بالتوفيق، إلا أنه تمكنا من بناء وعي ونهج يمكننا من الاستنهاض به لمواجهة الفساد وبناء ثقافة مواطنة متكاملة لنشقّ طريق إصلاح صحيح حتى لو قال البعض أنه حلم، لكن لا بديل لنا إلا مواجهة الفساد أو الاستلام إلى الطبقة السياسية الفاسدة، على الرغم من أنه ساذج من ينتظر إصلاحاً في ظل هذا المناخ السياسي والتركيبة الطائفية". أما الحقبة الثالثة فقد بدأت، بحسب سكرية، مع تفجير إحدى أزمات الدواء الكبيرة في البلد خلال العام 2009، حيث "بدأ الكثير من الأشخاص يعرضون إمكانية تعاونهم واستعدادهم لتحمّل المسؤولية".
في سياق متصل، يذكّر سكرية بأنهبعد الاستجوابات التي قدمها في مجلس النواب، اتُّخذ القرار بمحاصرته في انتخابات العام 2000 وإسقاطه. ويوضح أن أزمة أخرى بدأت في العام 1998 مع استجواب عن أسعار الدواء ومصير المختبر المركزي، وتوسعت التحقيقات فشملت المستشفيات والشركات، كما طال التحقيق سياسيين ونافذين، حين تم تحويل الملف إلى القضاء في 2 أيار 1999، وبعدها ببضعة أسابيع، تم اقتحام قصر العدل مساء وسُرق الملف، لكن التحقيق كان منتهياً وكشف الكثير من قضايا الفساد في المستشفيات والتغطيات الصحية. ويشدد سكرية على أنه نتائج هذا التحقيق أدت إلى إبعاده عن مجلس النواب.
ويشير سكرية إلى أن متابعة الملف خارج مجلس النواب تمّت من خلال الإعلام وتكثيف المحاضرات والندوات، ومن خلال "الهيئة الوطنية الصحية"، وهي بحسب سكرية، "تجربة فريدة شملت كل المذاهب والطوائف والتباينات السياسية". ويلفت الانتباه إلى أن الهيئة الوطنية خُلِقت "بالتنادي" من قِبل أصدقاء وصحافيين متحمسين للمشاركة والمساعدة، علماً أنه يفضل العمل الفردي. وبدأ العمل من خلال الندوات المؤتمرات قبل اغتيال الحريري بفترة. ويقول سكرية إنه بعد اغتيال الحريري والأوضاع الصعبة التي مرّ فيها لبنان، مروراً بحرب تموز 2006، تضاءل نشاط الهيئة، موضحاً "لأنني مسيّس وأتأثر بالمناخ السياسي كما يتأثر به هذا الملف الحساس". ويضيف: "عاد نشاطنا بعد فضيحة تزوير الدواء من قبل شركة يملكها أخ النائب (في كتلة "الوفاء للمقاومة") محمد فنيش في العام 2009"، مؤكداً أن "ردود الأفعال على تحركنا في العام 2009 من قِبل الفريق السياسي الذي أنتمي إليه كانت متقبلة للموضوع"، علماً أنه كان سكرية حينها نائباً عن كتلة "الوفاء للمقاومة" في دورة 2005 – 2009.
ويلفت سكرية الانتباه إلى أن المرة الوحيدة التي حصل فيها تدخّل سياسيّ مطالباً إياه بالتوقف عن الخوض في الملف هي عندما فضح قضية حقن الماء التي تعالج مرض السرطان، مشيراً إلى أنه حينها تم اعتقال بعض الأشخاص المتورطين إلا أن جهات سياسية تدخّلت، ما أدى إلى الإفراج عنهم. ويعترف سكرية أنه واجه محطات خطيرة شعر فيها بالخوف من التهديدات، موضحاً أن بعض التهديدات كانت تصله عبر الهاتف، حيث يعطيه أحدهم مهلة زمنية "ليسكت أو يدفع الثمن"، أو من قِبل بعض الأصدقاء الذين ينقلون اليه التهديدات بشكل غير مباشر، قائلين: "نحن نحبك ونحترمك لكننا نخاف عليك وأنت أصبحت بدائرة الخطر، ونحن لا نتكلم باسمنا لكن نتمنى عليك أن تنهي الخوض في الملف!".
مفهوم الكرامة والحق في الصحة
يتخذ الدكتور سكرية من عبارة "الصحة حق وكرامة" شعاراً له، ويعتبر أن "بعضنا يفتقد مفهوم الكرامة، لأن مشهداً كاملاً أمام التلفاز للحديث عن فساد الغذاء والدواء لا يحرك أحداً للدفاع عن كرامته، إلا أنهم يتحركون للدفاع عن عصبياتهم السياسية والطائفية". ويشدد على أن "طريق الإصلاح يبدأ من خلال استنهاض وعي الناس، وأن نشرح لهم كيف أن الصحة حقّ لهم ولسيت منّة من أحد ومحسوبيات، وكيف أن على الدواء أن يكون شافياً، مراقباً علمياً، ومقبولاً مادياً ومنطقياً"، مضيفاُ "يجب أن نعلّم المواطن كيف يدافع عن حقه في الصحة ويسترجع هذا الحق لأن كرامته تضيع عندما لا يتمكن من الدفاع عن حقه. ويقول: "هذا هو دوري بالتحديد، وهذا هو الطريق الوحيد ليفهم المواطن ضرورة فصل العصبية السياسية والطائفية عن حقه في الصحة"، موضحاً "كنت مرشحاً إلى الانتخابات النيابية مع فريق سياسي محدد، إلا أن هاجس الصحّة ينفصل عن السياسة، فأنا ضمن هذا المناخ السياسي وترشحت مع فريق ضد آخر ولي التزاماتي السياسية، لكنني نجحت في الفصل بين السياسة والعمل الحقوقي الذي يتعلق بكرامة المواطن لأن التعصب يقتل حقوقنا وكرامتنا". ويؤكد أن "بعض الناس لا تحترم حقوقها لأنها معمية بعصبيتها".
ويلفت سكرية الانتباه إلى أن "مسلسلاً من المؤتمرات الدولية المتعاقبة منذ منتصف القرن الماضي حتى يومنا هذا، وتعريفها من خلال الحق في الصحة في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، يؤكد أن الصحة حق وليست عمل منّة من أحد، مشيراً إلى أن "هناك تركيز دائم ومتكرر في التأكيد على أن الصحة حق وليست عملاً خيرياً، وعلى أن يعطى اهتمام أكبر لكلمة كرامة، كحق حفظ كرامة المريض أثناء العلاج وعدم إحساسه بالضعف. فعلى سبيل المثال، لا يجب استغلال المرضى في المستشفيات، كإدخال مريض إلى المستشفى أو العناية الفائقة وهو لا يحتاج إلى ذلك فقط للكسب المادي من وزارة الصحة". ويوضح سكرية أنه "لا يمكن مواجهة هذه التصرفات بالمفرّق، فالخطوة يجب أن تبدأ من وزارة الصحة (القيادة) وتتبعها النقابات، لكن القيادة تغرق بالفساد كمغارة علي بابا والعمل النقابي تآكل بالفيروس السياسي الذي أمسك بمفاصل النقابات". ومن هنا، بحسب سكرية، "يبقى النهج الأوحد، حتى لو قيل إنه حلم، عدم القبول بالتسليم المُطلق للفاسدين"، مشيراً إلى أن "عدداً كبيراً من المسؤولين والمواطنين يكثرون باستخدام الشعارات السياسية والطائفية، وعند الوصول إلى صحة الناس يسود الصمت".
ويعتبر سكرية أن "الفساد السياسي في البلد هو الأساس. ومن خلاله، تنطلق عمليات الفساد في باقي القطاعات"، مشدداً على أنه "إذا كنا نريد الإصلاح يجب البدء من الأساس (الوزارة) مروراً بالصيدليات وعملية استيراد الدواء وتسويقه والمستشفيات ومهنة الطب وعملية المحاسبة". ويقول "في حال وصولي إلى وزارة الصحة، أطلب إعطائي صلاحيات استثنائية وتغطية سياسية وقراراً وطنياً لأتصرف وأضع الأمور في نصابها، أما إذا لم تتوفر هذه الأمور فأقدم استقالتي".
وفي تقييمه لعمل وزارة الصحة الحالي، يرى سكرية أن "ما يحصل اليوم لا يمكن أن يكون نتيجة العمل السابق في ملاحقة الفساد المستشري في هذا الملف"، معتبراً أن "ما يحصل مدروس الغايات السياسية والمحسوبيات المادية، كمصلحة سياسية من هنا ومصلحة مادية وبناء مصنع أدوية من هناك، وليس كرم أخلاق أو صحوة إصلاحية". ويتساءل: "من يراكم أعمال فساد كبيرة ويكون من أركانها على مدى عقدين من الزمن، كيف يمكن أن نصدق جدية إصلاحه، خصوصاً أننا نرى ما يثبت محسوبياته ومصالحه"، مشدداً على أنه "ليترجم أي إصلاح العمل الذي قمنا به يستحيل إتمام أي إصلاح من دون البدء بإصلاح إداري، لأن الإصلاح الجدي يبدأ بالعنصر البشري"، متسائلاً: "كيف نبدأ بإصلاح من قِبل مفسدين ومن يستبيح كل شيء في الصحة؟". ويشرح سكرية أنه يتم التعاطي مع الدواء في لبنان "بخلفية سياسية متخلفة وخلفية تجارية، قضت على المختبر المركزي وتحالفت مع الشركات التي تحتكر سوق الدواء وتسيطر عليه بفسادها"، موضحاً أنه "أول من أيّد اعتماد أدوية الجنيريك، بشرط اعتماد مختبر مركزي يراقب فعالية هذه الأدوية".
لعل فوز الدكتور إسماعيل سكرية في دورة العام 2005 من انتخابات مجلس النواب بأعلى نسبة أصوات عن مقعد بعلبك – الهرمل في محافظة البقاع، ضمن كتلة "حزب الله" – "الوفاء للمقاومة"، كان دليلاً كافياً على إرادة الناس في اختياره لخوض معركة حقوقهم وكرامتهم، لكنه اختار العزوف عن خوض المعترك السياسي في دورة العام 2009، فترشح مكانه شقيقه النائب الوليد سكرية. وعلى الرغم من تأكيده على علاقته الجيدة مع الفريق السياسي الذي ينتمي إليه، إلا أنه يؤكد عدم نيته بالترشح مرة جديدة على أساس القانون الانتخابي الحالي، معتبراً أن "بعد كل هذا النهج الذي اتبعته يصعب علي الترشح ضمن كتلة معينة على الرغم من أننا نتفق سياسياً". ويصر سكرية على أن "هذا الملف غير قابل للتطييف أو التسييس أو التمذهب أو التصنيف الطبقي والمناطقي الذي يستفيد منه المحتكر".