صورة تظهر انهيار السور التاريخي والمعصرة الأثرية الملاصقة له، وتدمير جزء من المقام
“الأرض بتعادل الروح” تقول الحاجة زُهرة مرعي، إبنة بلدة شمع القريبة من الناقورة على الحدود مع فلسطين المحتلة. لم تفارق السيدة الستينية قريتها في الماضي قط، حتى في عدوان تموز 2006. لكن العدوان الأخير الذي شنّه الإحتلال الإسرائيلي قلب حياتها رأسا على عقب. اضطّرت مرعي الى ترك “مسقط رأسها ومسكن روحها” والنّزوح إلى محلة الزراعة – صور، قبل أن تنزح مجدّداً بسبب توسّع العدوان إلى إحدى مدارس منطقة خلدة- بيروت، وتعود إلى محلّة الزراعة بعد حين.
تجلس مرعي في بيت النزوح في “الزراعة” وتستذكر دفء دارها المتواضع في شمع حيث كان يجمع الجيران والأحباب يومياً على فنجان القهوة، قبل أن تتبدل الأحوال. تؤمن زُهرة أن خبزها مباركاً، بحيث كانت كل “خَبزة” تكفيها مع شقيقتيها زينب وسلمى لمدة 15 يوماً، وما يبقى من فتاته يكون من نصيب دجاجاتها السبع وعشرون والذين اضطرت الى نقلهم إلى بلدة مطرية الشومر نتيجة القصف.
بعد دخول الجيش اللبناني إلى بلدة شمع بتاريخ 31/12/2024 تنفيذا لإتفاق وقف الأعمال العدائية، نقل شهود عيان استطاعوا الدّخول أن منزل مرعي استُهدف بقذيفة مدفعية واحترق بالكامل. لكن الأضرار لن تثني الحاجة عن قرارها بالعودة في اللحظة الأولى التي يأذن فيها الجيش اللبناني: “سأعود أنا ودجاجاتي إلى شمع ولو بدي انصب خيمة بأرضي وأقعد”.
أمّا حسين علي صفي الدين، هو شاب في الحادية والثلاثين من عمره، يتحدث عن شمع وكأنها قطعة من قلبه. بالنسبة له، شمع ليست مجرد بلدة، بل هي أكثر مكان يصفه بـ”الهدوء والسّكون والهواء النظيف”. يروي بحنين كيف كان يصعد إلى ساحة مقام النبي شمعون ليشاهد الغروب، حيث كانت مدينة صور والبحر وحتى النّاقورة تظهر أمامه كلوحةٍ واحدة. يضيف مبتسماً: “كنت أحياناً أؤذن أذان المغرب هناك. هذا شيء لن أنساه أبداً. كنت أشعر أني في مكان مقدس، وكأنه جزء منّي”.
ذكريات الحرب تطغى على حديثه أيضاً، خاصة خلال عدوان تمّوز 2006، حين اقتحم الإسرائيليون بيته وأقاموا فيه، قبل أن يدمروه بالكامل. أمّا هذه الحرب، يقول حسين، رغم أن البيت ما زال واقفاً، إلّا أنهم دمّروا داخله بالكامل. لكن الجرح الأكبر في قلبه وفي قلب والده كان فقدان سبع “دونمات” مشجرة زيتونًا، جرفتها إسرائيل. لم تكن مجرد شجر زيتون، بل إرث زرعته جدته بيديها العاريتين، رافضة، لسنينٍ طويلة، أن يساعدها أحد. كما يذكر حسين: “جدتي أصيبت بمرض في رأسِها من كثرة العمل تحت الشمس وهي تزرع هذه الزّيتونات، وبعدها توفّت بعد عذابها من المرض نفسه. كل شجرة من هذه الزيتونات تحمل قصة تعبٍ والكثير من الحب”.
اليوم، لم يتبقَ سوى ثلاث أو أربع أشجار من كرم هذه الدونمات، مما يترك حسرة في قلب حسين وأبيه. ويضيف: “حزن أبي كبير على أشجار الزيتون أكثر من البيت. كانت هذه الزيتونات ترتبط بحياته، لأنها ذكرى من أمه”.
ساحة البلدة القديمةالحي الأثري القديم أصبح أكوامًا من الحجارة
تدمير البنى التحتية للبلدة
إلى جانب استهداف المصالح التجارية للمدنيين في شمع وحقولهم الزراعية، أحرق الجيش الإسرائيلي العديد من بيوت البلدة بحسب بلديّة شَمَع. يُقدّر نائب رئيس بلدية شمع حسين سرور نسبة البيوت المُدَمّرة بـ 60% من إجمالي بيوت البلدة، وتم حرق الجزء الأكبر منها، وجرف الطرقات العامة بهدف تدمير البنى التحتية. فأدّت هذه الإعتداءات إلى تضرر شبكات المياه والصرف الصحي، والكهرباء. كما عمد الاحتلال إلى جرف وتدمير ألواح محطة الطاقة الشمسية التي بلغ عددها 230 لوحاً، وهي تشغّل محركاً بقدرة 100 حصان، يضخ بدوره المياه إلى خزان البلدة الرئيسي (الحاووز) المُثبّت أعلى تلة شمع. وقد إستُهدف الحاووز بقذيفة مدفعية أحدثت فيه ضرراً بالغاً وأخرجته عن الخدمة. ويستغرب سرور جرف ألواح الطاقة الشمسية وتدميرها، أثناء هذه الحرب، كونها منشأة مدنية عامة.
وعن الخسائر المادية في شمع يقول سرور أن عدد البيوت المدمّرة قابل للتصاعد كون البيوت التي أحرقت آيلة للهدم بسبب “احترار” (تَسخُّن) الحديد وتمدده، مما قد يؤدي إلى تشقق الجدران والسقوف وبالتالي تهديد سلامة بناء الهيكل الأساسي. وسيعاين اختصاصيون مستقبلاً المنازل المتضررة لتقرير مستقبلها. ووفق سرور دمّر الاحتلال مسجد البلدة السفلي وحسينية النساء وسوّاهما بالأرض، “كما أحرق حسينية الرجال وخرب معالمها ضمن مسلسل التدمير الممنهج وحقده على البشر والشجر والحجر”.
ويرى سرور أن اسرائيل تهدف من وراء كل هذا التدمير إلى منع أي تعافٍ سريع بعد النزاع، فضلاً عن أنه وسيلة للانتقام الجماعي من السكان، ومنع عودتهم وإضعاف معنوياتهم.
كان حسين يحلم ببناء بيت بجانب بيت أهله في شمع، لكنه يقول بأسف: “كل شيء أصبح صعباً الآن. الطرقات مدمرة، وكل شيء يحتاج وقتاً طويلاً حتى يعود كما كان. لا يمكن التفكير ببناء بيت في ظل هذه الظروف”.
ذكرياته في مقام النبي شمعون تبقى الأقرب إلى قلبه. يقول إنه كان يسهر في باحة المقام بجانب المقابر، ويشعر وكأنه في بيته “كنا نسهر هناك للصباح أنا وأقربائي، نصلي وننام داخل المقام. بالنسبة لي، المقام هو أكبر خسارة”.
يتحدث علي سرور، “أبو قاسم”، المعروف في شمع بـ “جار النبي” كونه كان يسكن بجوار مقام النبي شمعون مباشرة، عن شمع قبل الحرب. يصفها طبيعتها بالخلابة، ويحكي عن هدوئها، وأمانها: “كانت مطلة على البحر، والناس قريبة من بعضها وقلوبها طيبة”، يقول وهو يتذكر الأيام التي كانت فيها شمع مكاناً يعج بالحياة.
مع بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان تزامنًا مع حرب الإبادة الجماعيّة على غزّة في 7 تشرين الأول 2023، أجبرت عائلة أبو قاسم على التهجّر إلى بيروت وبقي هو في شمع. منزله، الذي كان ملاصقاً للمقام، تعرض للقصف ودُمّر بالكامل خلال التصعيد الإسرائيلي وبدء الحرب الشاملة في أيلول 2024، حاله حال جميع منازل الساحة المحيطة بالمقام. يتحدث بألم عن تلك اللحظات، خصوصاً عندما عاد إلى شمع في أول يوم من الهدنة: “كان شعوراً لا يوصف. دمار شامل، كأن القرية كلها اختفت. حتى البيوت الواقفة متضرّرة جداً أو محروقة، والباقي مجرد أنقاض”.
رغم ألمه، يعبر علي عن رغبته في العودة إلى شمع، لكنه يدرك أن الأمر لن يكون قريباً. “كل شي بده وقت وشغل. الدولة لازم تشتغل على البنى التحتية قبل ما نرجع. لو الأمر بيدي كنت برجع من بكرا، حتى لو ما في مقومات للعيش. بس أنا مش لوحدي، عندي عيلة ومسؤوليات”. كما يعبر عن خوفه من أن شمع لن تعود كما كانت: “قد ما رجع ناس، ما رح تصير متل قبل. صارت موحشة كتير”.
بقي علي في شمع طوال فترة حرب المساندة رغم القصف والخطر، قبل أن يضطر إلى النزح إلى بيروت نتيجة توسّع الحرب. وخلال فترة بقائه في شمع، لم يكن لوحده، فقد شعر بمسؤولية تجاه الحيوانات الأليفة التي تركها أصحابها في القرى المجاورة والتي نزحت إلى شمع من قرى الخط الأول نتيجة الغارات والقصف بالفسفور الأبيض وانحسار المراعي. كان يطعم القطط والكلاب الشاردة الأكل المخصص للحيوانات الذي يشتريه من صور، وكان يوزعهم حيث تتجمع الحيوانات قرب بيوت أبناء بلدته، ومنهم بيتي أبو ربيع وزُهرة مرعي.
أما ظاهرة الحمير النازحة والجديدة، التي كانت تتجول جماعات وقطعان، كان الأهالي يحرصون على تقديم المياه لها بشكل يومي.
ورأى أبو قاسم، عند زيارته القصيرة لشمع أول يوم في الهدنة الكلب (بطّاح) لا يزال جاثياً على أنقاض منزل أبو ربيع المدمر، منتظراً من كان يطعمه ويحنو عليه.
النسبة لـ علي إن مقام النبي شمعون ليس مجرد بناء أثري، بل رمز لكل ما تمثله شمع. “تمنيت لو راحت شمع كلها، بس ولا حجر من القلعة أو المقام يروح. هذا أكثر شي جارحني”.
صورة تظهر تدمير أو تفخيخ الجزء العلوي من مئذنة المقام التاريخيةالمقام الديني يتوسّط الركام والدمارالحريق وآثار التدمير الذي تعرّض له المقام الديني من الداخل
استهداف المواقع المدنية والثقافية
لم تمنع الحماية المعززة التي منحتها لجنة حماية الممتلكات الثقافية التابعة لمنظمة اليونسكو الدولية، يوم الاثنين 18 تشرين الثاني 2024 لقلعة شمع الجيش الإسرائيلي من انتهاك حرمة المكان. فقد استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي تلّة شمع التاريخية ودمرت الحي السكني التراثي بالكامل. وألحقت أضرارا بالقلعة الأثرية وسورها التاريخي ودمر اثنين من أبراج القلعة الصليبية الناجية من عدوان تموز 2006 و سوّاهما بالأرض.
ويتحدث حسين صفي الدين عن شعوره عندما رأى الجنود الإسرائيليين على سطح المقام في أحد الفيديوهات، وكيف تمنّى لو كان في شمع حينها ليدافع عنه: “هذا المقام هو حياتي. أكبر خسارة بالنسبة لي هي هذا المكان الذي يحمل ذكريات عمري كله”.
خسرت شمع كذلك معصرة الزيتون التاريخية فيها، ودُمّر جزء مهم من مقامها الديني العريق، الذي يُقدّر عمره بحوالي ألف سنة، فضلا عن تدمير مئذنته الحجرية وتكسير وتخريب شواهد القبور المجاورة.
نتيجة هذا التدمير، تم الكشف عرضيّا عن قبو أثري جديد في الباحة الداخلية لمقام النبي شمعون. ووفقًا لإبراهيم صفيّ الدّين، أدى انهيار المعصرة التاريخية وأجزاء من المقام إلى تضرر أرضيّة الباحة الملاصقة له، والتي كانت تعلوها القبور، مما أسفر عن اكتشاف صهريج مياه أثري.
دخل إبراهيم صفي الدين، الذي يعتبر نفسه “حارس ذاكرة شمع”، إلى بلدته بإذن خاص من مديرية التوجيه في الجيش اللبناني، خلال النصف الثاني من هدنة الستين يوماً. ومع وصوله إلى مشارف البلدة شخص ببصره إلى أعلى التلة التاريخية فقط. وعندما لاحت له قبب المقام الذهبية من بعيد شعر ببعض السكينة. ولكن مئذنة المقام الفارعة غابت عن الصورة نتيجة انهيارها. كان دخوله إلى قريته الحبيبة غريباً ومؤثراً إذ عاين ما كان قد رآه في الصور الجوية على أرض الواقع، رأى القصف في بلدته، والبيوت المدمرة على كل جانب، والحفر في الطرقات المجروفة بشكل كامل.
أول ما قام به كان زيارة قبر جدته، “الحجة” التي ربته ونشأ في كنفها. شعر بالراحة عند دخول المقبرة لأن قبر الجدة كان سليماً ولم تطله أيادي العدوان، وقال لها عندما جلس بجانب قبرها: “مسّيكِ بالخير يا حجة، الحمد لله إنك بخير”. بالنسبة له، قبرها هو بعض صلة الوصل بينه وبين شمع، هو الحنين وحب الأرض وسر الانتماء. ويستعير أبيات أبي الطيب في رثاء جدته: أحن إلى الكأس التي شرِبَت بها، وأهوى لمثواها التراب وما ضمّا. ويختم قائلاً “الحمد الله، جدتي ترقد آمنة في مثواها الأخير”.
بعد ذلك، توجه إبراهيم إلى منزله الصغير المشظى والمدمر جزئيا، أما قسم المطبخ والحمام لا زال سليماً، توجه أولا ليطمئن على شجيراته وعلى حديقته التي دنسها الاحتلال ولا تزال آثار الدبابات موجودة في التراب، أما أشجاره: الصنوبر (الجوّي)، الليمون والتوتة البيضا العسلية، وشجرة الزنزلخت الكبيرة فقد اقتلعت من جذورها. كانت بعض الأشجار مجروفة، والناجي منها يعاني من العطش. ولكن ما أسعده أن زيتونته المعمرة لا زالت سليمة، “الزيتونة المعمرة التي “تشبّه تجاعيدها بتجاعيد يدي جدتي”.
يخطط إبراهيم للعودة إلى منزله وترميمه بأسرع وقت، وتأمين مقومات البقاء من مياه وكهرباء، بحيث سيشتري مولداً صغيرا للكهرباء (موتير شنطة)، وبالنسبة للمياه اللازمة للاستعمالات اليومية سيستعين بآليات نقل المياه بالصهاريج مقابل بدل مالي من أقرب بلدة مجاورة. وسيبدأ بإصلاح المطبخ والحمام، فيصبح لديه قسماً صالحاً للسكن الفوري.
منزل إبراهيم وحديقته الخارجيةالدمار داخل منزل إبراهيم
محو تاريخ الأرض
عندما زار ابراهيم تلة شمع الأثرية، حيث القلعة ومقام النبي شمعون، شعر برهبة مضاعفة: “لم يبق شيء من معالم البلدة القديمة، ساحتها والحي التراثي والمعصرة والغرف الأثرية مُسحوا بالكامل، لم يتبق سوى أكوام من الركام والحجارة”. ولكن ما لفته هو أن المقام بجزئه الأكبر لا يزال ينتصب هناك صامداً وشاهداً يتوسط الموت والدمار كيف لا وهو قلب شمع النابض بالحياة والخلود.
ينتظر إبراهيم انتهاء هدنة الستين يوماً، ليعود مجددًا إلى شمع، حاملًا معه الماء، الخبز، القهوة وجرّة الغاز الصّغيرة. يتخيل اليوم الذي يجتمع فيه مع كل أبناء البلدة في “ساحة النّبي”، ليتناقشوا كيف سيعيدون بناء شمع، خطوة بخطوة، ويُعيدون الحياة إلى هذه البقعة من الأرض، التي تحمل جبالاً من الأبناء الذين برغم كل حزنهم، يعودون إليها.
إن محو التاريخ لا يقتصر على طمس الآثار أو تزوير الروايات، كما يشير أستاذ التاريخ هشام صفي الدين: “تجيير علم الآثار لخدمة مشاريع الاستعمار سياسة أتقنتها القوى الغربية وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وباتت ركنا من أركان المشروع الصهيوني” يقول. ويرى أن “هدف التدمير هو زرع قطيعة بين الإنسان وأرضه، بين الماضي والحاضر، حتى يفقد الشعب إحساسه بالانتماء والهوية. ومع ذلك، فإن فشل هذه المحاولات في شمع يؤكد أن التاريخ ليس مجرد حجارة أو روايات مكتوبة، بل هو جزء حي من وجدان الناس، يحميه صمودهم وإيمانهم بحقّ وجودهم، وبحقّ الحفاظ على تُراثهم”.
تدمير القبور القديمة
العودة إلى المزراب
سليمان جابر (أبو ربيع) من أبناء شمع الذين لم يفقدوا الأمل رغم كل ما حل بقريتهم من دمار وخراب. قرر أن يعود إلى أرضه حتى وإن كانت خالية تمامًا من مقومات الحياة. وفي خطوة تحمل الكثير من التحدي، ينوي أبو ربيع، كغيره من أبناء بلدته شراء بيت جاهز مسبق الصنع لينصبه في شمع.
تعتبر تكاليف بناء المنازل الجاهزة اقتصادية للغاية مقارنة بالمباني الخرسانية وغيرها من المباني الأخرى. حيث تقدر تكلفتها بحوالي 7000$ لمنزل مكون من غرفتين وحمام بحسب أبو ربيع. كما أن مدة تصنيع هذه المنازل وتركيبها قصيرة للغاية. إضافة إلى تزويدها بألواح الطاقة الشمسية اللازمة لتأمين الكهرباء.
أما بالنسبة للمياه وبظل تضرر الشبكات العامة وتدمير ألواح الطاقة الشمسية التي تضخ المياه لبيوت البلدة، لن ينتظر أبو ربيع إستصلاح الشبكات الذي قد تطول مدته. بل سيعتمد على أساليب الأجداد التقليدية في جمع المياه، وهي العودة إلى المزراب. وهو عبارة عن أنابيب على سطوح المنازل أو قنوات في الأرض لجمع مياه الأمطار وتوجيهها إلى الآبار قرب البيوت، مما يخفف، ولو جزئيًا، من أزمة المياه المستجدة.
عن الإصرار على التكيف مع الظروف الصعبة ومواجهة تحديات إعادة البناء، يؤكد أبو ربيع رغم بساطة خطواته، أن ما يقوم به ليس مجرد قرار شخصي، بل هو فعل مقاومة جماعية مع أبناء بلدته. ويستذكر كلبه “بطّاح” الذي بحسب شهودٍ عيان، لا يزال يجول على رُكام منزل أبو ربيع منتظراً عودته. فلذلك العودة إلى شمع، بالنسبة له، حتى في ظل غياب مقومات الحياة، هي تأكيد على أن ارتباط الإنسان بأرضه أعمق من كل الدمار الذي يحاول الاحتلال فرضه.
ويؤكد سرور، نائب رئيس البلديّة، بأنّ مؤسسة جهاد البناء بدأت بصرف شيكات مالية لأهالي شمع في المرحلة الأولى، وتستكمل العمل بعد عودة أبناء البلدة إليها. ويضيف قائلاً “إنّها حرب الإرادات، وإرادتنا وإيماننا أقوى من إجرامهم. ما دمر سنعاود بناءه، وما تضرر سيرمم بالتعاون مع الجهات المانحة وأبناء البلدة والممولين. ولكن من سيرمم فجيعة أم ثكلى وجراح الذين فقدوا أحبة، ومن سيعيد أطراف من أصيبوا بإعاقات مختلفة؟”، مؤكدًا “سنعود إلى أرضنا وستزهر من جديد أملاً وعملاً وسيكون لنا غدا مشرقاً”.
تقف اليوم بلدة شمع، كغيرها من القرى الحدودية، على أعتاب مرحلة جديدة بعد إنسحاب الجيش الإسرائيلي منها. ينتظر أهالي البلدة اليوم الذي يسمَحُ لَهم الجيش اللبناني العودة فيه. ورغم كل ما تعرضت له شَمَع من محاولات لطمس تاريخها وسرقة حاضرها، يبقى الرّهان معقودًا على إرادة أهلها لإعادة بناء ما دُمر وإحياء ما اندثر.
هي ليست فقط أرضٌ تنتظر إعادة البناء، بل ذاكرة حيّة تحكي قصص أبناء جبل عامل الذين لطالما واجهوا المُحتلّين بعنادٍ لا يَلين. مع كل حجر مهدّم، يبرز التحدي الأكبر أمام أهلها: هل يمكن أن تعود الحياة كما كانت؟ هل سيبقى “بطّاح” الكلب الوفيُّ منتظراً على ركام منزل أبو ربيع؟ أتعود زُهرة مرعي تفتفِتُ الخبز و تغلي الأرُزّ لدجاجاتها؟ وهل ستجد شمع مجددًا أصوات أبنائها تحيي أرجاء شوارعها؟
بين الواقع المثقل بالدمار والمستقبل المليء بالأسئلة، يبقى الأمل بأن تتغلّب شمع مرة أخرى على الخراب كما فعلت مراراً عبر التاريخ.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.