غصّت قرية شقرا الجنوبية أول من أمس الثلاثاء بحشود المشيّعين الذين أتوا من قرى قريبة وبعيدة لتأبين الشهيد علي ويزاني، الذي قضى الإثنين الماضي على باب مستشفى صلاح غندور. كان الطريق من منزل أسرة الشهيد إلى الجبّانة المقابلة للمواقع الإسرائيلية طويلًا، وكان جو الحزن مهيبًا، وحجم الغضب عظيمًا. أجّجت 4 طائرات حربيّة إسرائيليّة المشاعر، وكبست على نفوس المشيّعين من دون أن ترهبهم بغاراتها الوهميّة. وكلّما دوّى الصوت المزلزل لخرق جدار الصوت فوق الجنازة، شخصت عيون المشيّعين نحو النعش. تقول زينب “نريد أن نطمئن عليه”، وهي تكفكف دموعها وتسرع الخطى نحو الأم المفجوعة.
واتّقاد المشاعر هنا، يردّد صدى فداحة الجريمة، مع كسر الاحتلال الإسرائيليّ خطًّا أحمر جديدًا على جبهة الجنوب باستهدافه في اليوم السابق مدخل مستشفى صلاح غندور في بنت جبيل، حيث خطفت الغارة حياة علي ويزاني ذي الـ44 عامًا، والأب لثلاثة أولاد، ومعه حارس المستشفى علي عباس ذي الـ25 عامًا، العريس الجديد والأب لطفلة رضيعة، فيما دمّرت الغارة التي نفذتها طائرة إسرائيلية مسيّرة بصاروخين، واجهة المستشفى، وخلّفت سبعة جرحى من المدنيين كانوا متجمّعين يناقشون تأمين دم لقريب لهم في المستشفى، بالإضافة إلى ثمانية عاملين صحيين اثنين منهم في حال خطرة.
وفيما كانت شقرا تلملم دمعها، كان تراب قبر الشهيدين الصديقين رفيق قاسم وحسين صالح في عيتا الشعب لم يجف بعد، وهما اللذان شُيّعا الإثنين إلى جبّانة البلدة في مأتم مهيب على مرمى حجر من الشريط الحدوديّ، بعد أن نالت منهما غارة استهدفت سيارتهما المدنية يوم الأحد.
الشهيد علي ويزاني قضى مصطحبًا ابنه إلى المستشفى، والشهيد علي عباس قضى على باب المستشفى عينها عاملًا فيها، فيما كان الشهيدان رفيق وحسين ينقلان الطعام إلى كلاب عيتا الشعب وقططها على عادتهما. وفي كل “فعل أخير” للشهداء الأربعة، إعلان عفويّ عن كيفية صمود الجنوبيّين اليوم، عبر ممارسات عاديّة وتلقائيّة، تعبّر عن إنسانيّتهم التي هي تحت الحرب، وقد وصلت حصيلة المدنيّين منهم إلى 84 شهيدًا وشهيدة منذ 8 تشرين الأوّل 2023 ولغاية الساعة.
“الخروج الأخير من المنزل”
الإثنين الماضي، استيقظ علي ويزاني، الفلّاح العتيق، على عادته في الصباح الباكر. كان على عجلة من أمره، هو الذي لا يطيق تأخير عمل اليوم إلى الغد. عادة ما تأخذ رعايته لبقراته الكثير من ساعات نهاره، ويأكل العمل في الأرض ما تبقى له من النهار، من دون أن تمنعه من تخصيص وقت لبيته وأسرته، ولأصدقاء القهوة، ولرفاق النضال الذين يذكرون له صولات وجولات في الدفاع عن حقوق مزارعي التبغ في وجه إدارة الريجي، ويتداولون له اليوم صورًا ومقابلات بهذا الخصوص لا سيّما خلال تحرّكات “تجمّع مزارعي التبغ في الجنوب والبقاع الغربي”. ويقدّم مزارع التبغ خليل ديب شهادة مهنيّة عن الشهيد علي: “أنشط مزارعي المنطقة.. يزرع الدونم بعد الدونم ويحصدها بفرح وتصميم، والمهام التي نستهيبها ونشعر بضغطها كالاستحقاقات الموسمية، تجده ينجزها بسرعة ورشاقة كأنّها هوايته المفضلة، لا عملًا مضنيًا جسديًّا وذهنيًّا”.
صباح هذا اليوم، كان لدى الشهيد مهمّة اصطحاب ولده محمد (19 عامًا) العائد حديثًا من سفره، إلى مستشفى صلاح غندور، لإجراء فحوصات طبّية هامّة. ترجّل من سيّارته التي ركنها عند “صف الهوا” وتوجّه إلى المستشفى بخطوات ثابتة قبل أن ينطلق باتجاهه الصاروخ الإسرائيلي. سقط الصاروخ خلفه، وسقط علي شهيدًا على الفور. تلقّى جسد الشهيد الجزء الأكبر من الشظايا فكان هذا الجسد الذي صقلته أعمال زراعة التبغ والحبوب درعًا لمحمّد ابنه، الذي نال نصيبًا من الشظايا أقعدته عن الحركة. وحضر الابن جنازة والده في شقرا على كرسيّ متحرّك.
وكان الصاروخ الذي أردى علي وأصاب ولده هو الثاني، فقد سبقه بثوان أو أقل صاروخ أوّل أصاب علي عبّاس الذي حمل جروحًا خطيرة أدّت إلى استشهاده لاحقًا. وعبّاس، حينما خرج بدوره من منزله للمرة الأخيرة، كان في رحلة عاديّة إلى عمله، حيث له أصدقاء وزملاء عمل يحبّون رؤيته كل صباح ليلقوا عليه التحيّة، ويخبرون “المفكرة” اليوم عن فقد شخصيّ لعلي “الآدمي الطيّب”. وكان يعرفه هنا أيضّا أهل الحيّ والنازحون الذين بنوا معه علاقات صداقة منذ أن لاذوا إلى منطقة المستشفى قبل 8 أشهر هربًا من القصف ونار الحرب.
ونعت الهيئة الصحيّة الإسلاميّة ومستشفى صلاح غندور الشهيد علي عبّاس شهيدًا قضى “أثناء تأديته واجبه الإنساني في المستشفى”، وكان خروجه الأخير من منزله صباح الإثنين، هو خروجه الأبدي منه. شيّع جثمان الشهيد من المستشفى التي عمل بها ورقد فيها جريحًا حتى استشهاده، ورسمت طريق الجنازة طريق عودته اليومية إلى بنت جبيل، مدينته، بعد أن كان ينهي عمله، على مرأى من المواقع الإسرائيلية عينها التي انطلقت منها المسيّرة التي خطفت حياته، وتركت ابنته ذات السنتين تتلعثم بكلماتها الأولى وتسأل عن والدها وعن سبب الحزن العظيم الذي لفّ منزلها وألبس والدتها ثياب السواد، صبيّةً.
ثمن الإنسانية: قتلها
الصمود الشجاع هنا هو حياة عاديّة للناس الذين يتمسّكون بألّا تخطف الحرب إنسانيّتهم. وإنسانيّة الجنوبيّين تبلغ ذروتها إذ تحاول الحرب طحنها. والذروة للشهيدين حسين صالح ورفيق قاسم كانت بمخاطرتهما بحياتهما من أجل إطعام القطط والكلاب الشاردة في عيتا الشعب، حيث قلّ الطعام والمياه المتوفّرة لهذه الحيوانات بعد أن نزح معظم أهلها.
يوم الأحد الماضي، كانت “ساحة الجريمة” حيث قضى الشهيدان حسين صالح ورفيق قاسم تكاد تنطق بثقل اللحظة. جسدان مضرّجان بالدماء يستريحان بعد 8 أشهر من التجوال اليوميّ على طرقات القرية الخطرة، و4 قطط قضت مع الشهيدين في الغارة عينها، كما تصف المشهد كلمات نضال، الشقيقة المكلومة على خسارة شقيقها الأصغر. تجري على ألسنة الناس في عيتا الشعب مقولات من مثل “اذكروا محاسن موتاكم”، لكن بالنسبة لهم كان الشهيدان “كلّهما محاسن وفضائل”. يذكرهما أهل القرية بعبارات شهيرة لهما من قبيل “هدوء تام في البلدة”، و”لا إصابات” كجملة سحرية تبرّد قلوب النازحين في القرى المجاورة كلما رأوا الدخان يتصاعد من أحيائهم.
ولرفيق 9 أشقاء وشقيقات، أقربهنّ إلى يوميّاته نضال وهلا: “فكنّا نجتمع ثلاثتنا كلّ صباح قبل الحرب. لما يفيق رفيق يدقلي يبعتلي صورة الركوة إنزل لعنده”، وكان يفضفض الأخ لأخته في هذه الجلسات همومه أو يشاركها أحلامه: “وينشغل باله على تعليم أولاده فيقول لي: بدّي علمهم لو بدي إقعد بلا أكل”.
وتروي نضال أنّ أخاها ظلّ في القرية مقيمًا لفترة طويلة، يرعى بقراته وغنماته وبضع دجاجات، ويرفض النزوح، وهو جعل له مأوى في قبو منزله المتواضع المواجه لموقع الراهب الإسرائيلي، أطلق عليه اسم “موقع الخِشة”، حيث كان ينام وتتجمّع عليه القطط والكلاب الشاردة التي تأتي إليه بحثًا عن الطعام والدفء، وكان من هذا المكان يرسل الأخبار العاجلة إلى عدد من المواقع الإخبارية المحلّيّة ومجموعة واتساب إخباريّة خاصّة به حملت الاسم عينه “موقع الخشّة”.
وكان رفيق أصيب في قدمه في إحدى المرات جرّاء غارة استهدفت باب داره، فنزح مرغمًا تحت ضغط أسرته إلى باريش القريبة حيث زوجته وأبناؤه الأربعة، أكبرهم بعمر 15 عامًا وأصغرهم بعمر 6 سنوات. افتتح رفيق ورشة حدادة سيارات في باريش، تمامًا بمحاذاة ورشة كهرباء سيارات كان قد افتتحها قبله صديقه حسين صالح، وظل الشابان يتوجّهان إلى عيتا الشعب كل يوم أو اثنين للاطمئنان على قططها وكلابها. تقول شقيقة الشهيد رفيق لـ “المفكرة” إنّه كان يحب الحيوانات، ولما هربت مواشيه وتفرّقت، ظلّ يقصد عيتا الشعب لإطعام الكلاب والقطط، “حينما دخلنا المنزل يوم الإثنين بعد التشييع، وجدنا كلبًا جالسًا في صدر الدار بانتظار رفيق، وكيس فيه معلّبات وطعام حيوانات ظلّ يشهد على إنسانيّة صاحبه وكرمه”.
وفي عيتا اليوم، حزن كبير ينتشر في قرى الجنوب مع انتشار أهلها الذين نزحوا عنها. يذكر هؤلاء للشهيد حسين سعيه الدؤوب لتأمين الأدوية وجلبه أغراض النازحين الذين تشتدّ حاجتهم لها من منازلهم في عيتا إلى حيث أخذهم النزوح، مهما بعد الطريق واشتدت مخاطره، وللشهيد حسين 3 أولاد، أسيل (16 سنة)، وعلي (15 سنة) وجاد (9 سنوات)، شيّعوا والدهم وعادوا إلى والدتهم يوم الإثنين، يواسونها وتواسيهم، وتتجمّع حولهم قلوب الأهل والجيران المفجوعة. ويقول الناس في أحاديثهم إنّ الشهيدين وسيارتهما كانت معروفة للإسرائيلي وتكنولوجيته المتقدّمة “لكن الإسرائيليّ ضاق ذرعًا بهما فقام بتصفيتهما”، يخبرنا حسين محمود صالح، زوج شقيقة الشهيد.
على قبر الشهيد علي ويزاني، يقول والده: “توقّعت موت ولديّ خلال أعمال الفلاحة، فكان نصيبه أن يقضي أمام باب المستشفى”. وفي الأسبوع الـ34 على الحرب، 4 مدنيّين قضوا في الجنوب، وقد اغتالتهم إسرائيل وهم يقومون بأمورهم العادية جدًا، وفي استهدافهم المباشر، على باب مستشفى، وبين قطط جائعة، تجسيد حقيقيّ للصراع هنا الذي تختصره زينب لنا وهي في طريق عودتها من تشييع الشهيد علي ويزاني في شقرا “هو الصراع بين أهل الأرض ومحتلّيها، بين الناس العاديّين وجيش الغطرسة الذي لا يملك في مواجتهم سوى البارود والنار”. يقول عديل الشهيد حسين: “أرادوا قطع أقدامنا عن قريتنا”، ويقول جار الشهيد علي ويزاني: “ربما يريدون قطع أقدامنا عن المستشفى”، وفي كل عبارة يطلقها الناس هنا، نستشفّ شعورًا عارمًا بأنّ الغارات التي تتكثّف يومًا بعد يوم تريد قطع كلّ أواصر ارتباطهم بهذه الأرض وسبل استمرار صمودهم فيها.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.