إسرائيل تقصف البسطة والنويري: قلب بيروت وآخر ما تبقّى من “أمان”


2024-10-11    |   

إسرائيل تقصف البسطة والنويري: قلب بيروت وآخر ما تبقّى من “أمان”
من مكان الغارة في البسطة

لم أعرف الشارع المدمّر الذي وقعت فيه الغارة أمس (10 تشرين الأوّل) في حي ثكنة فتح الله في البسطة. لم أعرفه، رغم أنّه أحد الشوارع التي أمرّ بها والقريبة من بيتي. لم أعرفه إلى درجة سألت الناس حين وصلت: “شو كان في هون”، كأيّ غريبة تدخل الحي. بدأ أهالي الحيّ يخبرونني عن بيت قديم مكوّن من طبقتين، مهجور منذ سنين، وعن مبنى خلفه مكوّن من أربع طبقات سوّي بالأرض. “الغارة استهدفت المبنى ولكنّ البيت القديم هبط من قوّة الضربة” قال لي شاب من سكّان المنطقة وأكمل شرحًا لم أسمعه. كنت أحاول رسم صورة الشارع الذي أعرفه ولكنه التبس عليّ. حاولت مرّات عدّة ولم أفلح. كان حجم الدمار هائلًا، مبان على الأرض وأخرى متضرّرة بشكل كبير، سيّارات مقلوبة بين ركام هائل، محال تجارية اختفت لافتاتها. الغارة محت معالم الشارع لدرجة جعلتني لا أعرفه وأضاعت حسّ الاتجاهات كلّيًا لديّ. أضيف إلى ذلك تجمّع الصحافيين وضجيج الناس المختلف اليوم عن الضجيج الذي أعرفه في الحي. على مدخل الشارع اقتربت منّي سيّدة مسنّة وسألتني “شالوا حدا من تحت الأنقاض؟” وخلفي رجل يسأل سيّدتين “تروحوا على عكّار؟” وفي كلّ زاوية أناس يتفقدون منازلهم أو محالهم أو سيّاراتهم، وبين المبنى والآخر دموع عجز بعض السكّان عن منعها “هذا الحيّ لم يصب برصاصة في الحرب اللبنانيّة، وإسرائيل اليوم حاولت محوه” تقول سيّدة لي. 

البسطة

من البسطة اتّجهت مشيًا إلى “النويري” مكان الاستهداف الثاني مساء أمس. وأنا في طريقي عرفت لماذا ظنّ الناس في بيروت حين وقعت الغارة أنّها في بربور والبسطة ورأس النبع وبرج أبي حيدر والنويري وبشارة الخوري. فـ “الشوارع هنا متداخلة، وكذلك أسواقها، شو النويري وشو البسطة وشو بشارة الخوري، ربما من الأسهل أن نقول ضربت إسرائيل قلب العاصمة” يقول لي سكّان في الحيين المستهدفين وفي الأحياء القريبة، متحدثين عن الأسواق المحيطة بالمنطقة والتي لا تهدأ حركتها، وعن بيوت فيها أسر من الضاحية والجنوب في إشارة إلى وجود عدد كبير من العائلات النازحة في المنطقة. 

كلّ ما قاله السكّان يفسّر حديث سكّان بيروت في مختلف الأحياء، عن استهداف بدا وكأنّه طال الحيّ حيث يسكنون “ليس الصوت الذي سمعناه جميعًا، ما أوجعنا، إنّما استهداف قلب بيروت” قالها أكثر من شخص التقينا به.

ففي استهداف ثالث ورابع لبيروت، بعد الكولا والباشورة، شنّت إسرائيل أمس غارتين إحداهما على مبنى في منطقة البسطة ثكنة فتح الله، ما أدّى إلى تدمير مبنيين بالكامل وتضرّر 6 مبان مجاورة بشكل كبير، والثانية استهدفت مبنى مكوّنًا من ثمانية طوابق لحقت به أضرار كبيرة فضلًا عن تضرّر أربعة مبان مجاورة. واستشهد نتيجة الغارتين 22 شخصًا فيما أصيب و117 آخرون، وفق الحصيلة المعلنة لغاية مساء اليوم الجمعة 11 تشرين الأوّل 2024. والشهداء هم 8 في النويري، خمسة من عائلة واحدة وثلاثة من عائلة واحدة أخرى والشهداء الباقون سقطوا في غارة البسطة حيث لا تزال عمليات رفع الأنقاض والبحث مستمرّة عن 3 أشخاص في عداد المفقودين.

لم تضرب إسرائيل أمس قلب العاصمة فحسب بل آخر ما بقي لدى الناس من شعور بالأمان، فإثر الاستهداف الإسرائيلي، شهدت منطقتا “النويري” و”البسطة” حركة نزوح لعددٍ كبير من العائلات لكن معظمها عادت صباحًا. ولدى سؤالنا عن سبب ذلك كان الجواب: “لم يعد هناك مكان آمن في لبنان”.

البسطة

قلب بيروت النابض 

“هون البيت بلزق البيت، حتّى لما سمعت الضربة وبقوّتها والله ما فكّرت قريبة، هيدا الحي حتّى رصاص الحرب الأهليّة لم تصله” تقول سيّدة تقف على مدخل مبنى مجاور للمبنى المستهدف في منطقة البسطة، تبتعد قليلًا من المدخل وتدلّنا على الطرقات، فتخبرنا بأنّه كيفما اتجهنا مشيًا وبدقائق نصل إلى سوق: سوق البسطة الفوقا في الشارع الأساسي وأسواق بربور القريبة منه وبرج أبي حيدر والبسطة التحتّا وتقول: “هيدي منطقة أسواق شعبيّة فيها من كلّ الناس، ومقصد يوميّ لكلّ الناس”.

ما تقوله هذه السيّدة أيضًا ينطبق على موقع المبنى المستهدف في النويري والذي ربما بالكاد يبتعد شارعين من الحي المستهدف في البسطة “هنا قلب بيروت، الأشرفية تبعد عنّا 200 متر وكذلك يبعد وسط البلد وبربور” يقول رجل مسنّ يسكن في النويري ويُضيف “اليوم كلّنا تألّمنا، اليوم ضربوا قلب بيروت النابض”.

يحكي كثيرون ممّن التقتهم “المفكرة” في منطقتي النويري والبسطة عن طبيعة المنطقة المكتظّة بالسكّان وبالأسواق المحيطة بها، وعن وجود عددٍ كبير من العائلات النازحة في هذه المنطقة. “هون كل بيت في عيَل من الجنوب والضاحية” يقول موظّف في محطّة الوقود المواجهة للمبنى المستهدف في النويري مضيفًا: “الشارع من بعد توسّع العدوان ازداد ازدحامًا، الله لطف”.

بالإضافة إلى العائلات التي التجأت إلى أقاربها من الجنوب والضاحية الجنوبيّة لبيروت، يوجد في هذه المنطقة ومحيطها العديد من المدارس ومراكز الإيواء “هنا في النويري فقط في محيط الاستهداف توجد أكثر من 10 مدارس تستقبل نازحين” يقول لـ “المفكرة” شخص يقف على باب مدرسة العامليّة والتي تبعد أمتارًا قليلة عن المبنى المستهدف في النويري، وهي كانت من أولى المدارس التي فتحت أبوابها للنازحين ليل 23 24 أيلول الماضي.

الغارة على النويري

شهدنا الموت في بيروت “الآمنة” 

يتحدّث السكّان الذين التقتهم “المفكرة” عن ليلة مرعبة عاشوها، يروون تفاصيل يحمل كلّ منها سؤالًا عن معنى أن تكون آمنًا وعن أي إمكانية لذلك في ظلّ العدوان الإسرائيلي المستمرّ على لبنان. في المبنى الملاصق لأحد الأبنية المستهدفة في البسطة تحاول عائلة إخراج ما تبقّى من أغراضها، يخطو أفرادها فوق الردم محاولين لملمة أغراض وحدهم يعرفون أماكنها “هيدا بيت ابن أختي ومرته” تقول سيّدة تقف على شرفة المنزل للصحافيين الذين يحاولون الحديث معها ثمّ “تُضيف هيدا كلّه مش مهم، المهم مرته تقوم بخير”.

تروي هذه السيّدة أنّ حفيدتها نجت بأعجوبة أمس وعمرها لا يتجاوز السنتين ونصف السنة: “كانت نائمة في سريرها وكنّا نظنّ أنّها آمنة، وقع عليها جزء من الحائط، لم يستطع ابن أخي إيجادها بسبب العتم والدخان، فتّش عليها على ضو التلفون، بس هي صرختلو بابا، دلّته عليها، لم تصب بأذى، خدوش بسيطة فقط”. 

وفي حين تشكر هذه السيّدة الله على نجاة حفيدتها تدعو بأنّ تخرج زوجة ابن اختها من المستشفى بخير، “وقع عليها الحيط، هلّأ بالعناية المركّزة، الله يعيدها إلينا يا رب” تقول.

في المبنى المستهدف نفسه خرجت ليلى (اسم مستعار) سالمة من تحت الأنقاض “في صور شفنا الموت وببيروت الآمنة انتشلونا من تحت الردم”، تقول، مضيفة: “أنا وولديّ بخير، ولكنّنا لسنا بأمان، لن نكون بأمان بعد اليوم، إسرائيل لا تريد لنا ذلك، تدمّر منزلي في صور، واليوم راح بيت صهري الذي كان يستضيفنا، كلّو بيتعوّض وإسرائيل ستهزم، لأنّنا أصحاب حق”.

“سمعنا صوتًا قويًا، صرخ حفيدي بلغته الطفولية: ‘فوتوا عن البرندا، سيُصيبنا جدار الصوت!’ وما هي إلّا لحظات حتّى شعرنا بعصف قوي، بهزّة وتطاير الزجاج، شاهدنا لهبًا أحمر ومن ثمّ رمادًا أسود” تقول هبة (اسم مستعار) التي تسكن في مبنى يفصل بينه وبين المبنى المستهدف في البسطة مبنيان. تُخبرنا هبة كيف بدأت تسمع صراخ الجيران كيف لبست جلباب الصلاة وخرجت تصرخ “نحن مناح إنتو كيف”، وكيف نزلت على الدرج وسط غبار وردم وعتمة، كيف رأت ابن جارتها والدمّ يُغطّي جسده. 

تتحدّث هبة عن ارتجاف حفيدها طوال الليل وكيف لم ترد أن تصدّق أنّ إسرائيل استهدفت وسط بيروت وتقول: “لبنان كلّه ما في أمان، هيك بدها إسرائيل، أنا حافظة الحيّ كلّه، إذا متل هيدا الحي بطّل آمن وين بيكون الأمان”. وتضيف: “كلّه بيتعوّض المهم نحن بخير، وابن بنتي بخير، وهلّأ نازلين عند بيت هون قريب بس لنشوف شو وضع بيتنا بالأوّل”.

وفي مبنى مجاور لهذا المبنى تُخبرنا سيّدة أخرى كيف ارتجّ المنزل وكيف غطّاه الدخان والغبار، كيف كانت العائلة تحضّر العشاء مع شعور ولو نسبي بالأمان مقارنة بالضاحية التي نزحت منها قبل أسابيع. “طلعنا على السطح، نحن على الرابع والمبنى 8 طوابق، ما عرفنا كيف طلعنا على السطح، كنت أشعر بالاختناق، انتظرنا على السطح حتى أخرجنا الدفاع المدني”.

البسطة

لا حركة نزوح جديدة فلا مكان آمنًا في بيروت

إثر الاستهداف الإسرائيلي، شهدت منطقتا “النويري” و”البسطة” ليل أمس حركة نزوح لعددٍ كبير من العائلات ولاسيّما من الحيّين المستهدفين، إلّا أنّ معظم العائلات عادت صباحًا، حسب ما أخبرنا سكّان من المنطقتين، ولم يغادرها نهائيًا إلّا من أصبح منزله غير قابل للسكن.

وعدم اتخاذ سكّان الأحياء القريبة من المباني المستهدفة قرار النزوح يعود إلى أمرين أساسسيّن الأوّل عدم وجود وجهة يذهبون إليها في ظلّ موجات النزوح السابقة من الجنوب والضاحية الجنوبيّة ولاسيّما أنّ بعض البيوت يسكُنها أكثر من عائلة، والثاني الشعور بأنّه وبعد غارات أمس لا يوجد مكان آمن.

“خرج بشكل أساسي سكّان المباني المتضرّرة بانتظار الكشف عن الأضرار، في حال كانت المنازل أصلًا صالحة للسكن بعد، كما خرج العديد من العائلات أمس هربًا من روائح الدخان والغبار، إذ كان من الصعب جدًا المبيت في المنازل القريبة، ولكن معظم هؤلاء عادوا صباحًا” يقول أحد سكّان البسطة.

في المباني المتضرّرة يُحاول السكّان إخراج ما يستطيعون إخراجه “بدّي شوف إذا بقدر ضهّر شي” يقول أحد سكان مبنى ملاصق للمبنى المُستهدف، مُشيرًا إلى أنّه سيترك المنزل هو و11 شخصًا آخرين إلى منزل آخر ليس بعيدًا من منزله: “لا أبحث عن أمان، لا يوجد مكان آمن، أنا نزحت منذ أشهر من ميس الجبل، تركنا البيت لأنّه لم يعد قابلًا للسكن فقط”.

الأمر نفسه تكرّره سيّدة تقف على مدخل مبنى مجاور للمبنى المستهدف وهي نازحة من الضاحية الجنوبيّة عند أقاربها، فتقول: “نترك منزل نزوحنا ليس لأنّه لم يعد آمنًا فنحن لم نعد نبحث عن مكان آمن، لأنّ هذا الترف لم يعد موجودًا، ولكنّ البيت غير قابل للسكن، حيطانه تضرّرت”. 

“لوين بدنا نروح، كل عيلة عندها عيَل، أنا نزحت من النبطيّة عند أقاربي هنا، ومبارح أحفادي شلتن من تحت القزاز، حتّى لو تأمّن بيت يأوينا، أين سنذهب، فقدنا الشعور بالأمان” تقول سيّدة التقيناها في البسطة ثمّ تسأل “قولك مطوّلة، أصعب شي الشعور باللا أمان”.

الأمر نفسه تتحدّث عنه سيّدة تسكن في مبنى يبعد أمتارًا عن المبنى المستهدف في النويري “بيتي والحمد الله لم يتأذّ، بالتأكيد سأبقى هنا، لا توجد بيوت ـ وإذا وُجدت دلّيني إلى منطقة آمنة” تقول.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني