تحتار الأم المفجوعة رندة عكر والدة شهيدي مجزرة ميس الجبل، أحمد (14 عامًا) ومحمد (21 عامًا)، صورة أي من ولديها تحمل، تلتفت حينًا إلى صورة أحمد وتقبّلها وحينًا آخر إلى صورة محمد وتحتضنها، تنهار دقائق ثم تتمالك نفسها لثوان، “كنت إتمنّى موت قبل ولادي ، قمت زفّيت عريسين بنهار واحد”.
وأحمد ومحمد استشهدا مع والدهما فادي حنيكة (45 عامًا) وزوجته مي عمّار (43 عامًا) حين استهدفهم صاروخ إسرائيلي في ميس الجبل نهار الأحد الفائت في 5 أيار.
وما يزيد فاجعة الأم الثكلى أنّ ولديها لم يدفنا سويًا بل دفن محمد في بيروت وأحمد في ميس لأنّ الأخير تحوّل إلى أشلاء اختلطت بأشلاء الشهيدة مي ولم يكن ممكنًا فصلهما ونقلهما إلى بيروت بينما محمد ووالده دفنا في جبّانة الباشورة في بيروت.
وكانت العائلة قصدت القرية بهدف نقل ما تيسّر من بضاعة “السوبرماركت” التي افتتحها فادي قُبيل اندلاع الحرب، بهدف إعادتها إلى التجّار قبل انتهاء مدة صلاحيّتها، وهي بضاعة يدين لهم بثمنها. وعادة ما يقصد فادي القرية لتفقّد رزقه، أثناء إقامة مراسم تشييع، معتقدًا، كمعظم سكان القرى الحدودية، أنّ التشييع يتخلّله وقف لإطلاق النار. ولكن هذه المرّة كان الثمن حياته وحياة أبنائه وزوجته، استشهد تاركًا وراءه ثلاث بنات يتامى من زوجته الأولى رندة، وطفلتين بعمر الثامنة والتاسعة من زوجته الثانية الشهيدة مي عمار اللتين أصبحتا اليوم يتيمتا الأم والأب.
وفي السّلم كما في الحرب لا يزال المواطن اللبناني متروكًا من قبل دولته التي يفترض بها تأمين ضمانات اجتماعية ومعيشية له، ووضع خطة لمساعدة النازحين الذين تركوا منازلهم وأرزاقهم كي لا يضطرّوا للعودة والمخاطرة بحياتهم لتأمين لقمة عيشهم. وهذا بالتحديد ما حصل مع فادي الذي عاش القلق وحيدًا لمدة ثمانية أشهر كما معظم النازحين الذين يعيشون ظروفًا اقتصادية ومعيشية واجتماعية صعبة وحيدين، واستشهد مع عائلته في غارة استهدفت “السوبرماركت” التي كانت مصدر رزقه ورزق عائلته.
شهداء تحت التراب وبنات يتامى خسرن المعيل
في الطريق المؤدّي إلى جبانة الباشورة، وقفت النسوة تنتظر مرور الجنازة، على حائط الجبّانة تسند رندة عكر ومن حولها بناتها الثلاث رأفت ونور ومروى، يحملن أكاليل الورود وصور والدهما وشقيقيهما. وقفن ينتظرن الجثامين كي يزفنّها إلى مثواها الأخير، “دفنت واحد بالضيعة وواحد ببيروت وهيك إسرائيل فرّقت الأخوة”. ومن الجهة الثانية وقفت والدة الشهيدة مي تكاد لا تستطيع فتح عينيها من شدّة البكاء وخلف الجنازة مشى الجميع، نسوة ثكالى يسندن بعضهنّ البعض، “يا ولادي يا عرسان إنتو، جبنالكم الورد قوموا لوين رايحين”.
تقول رأفت، إبنة المفجوعة لوالدها وشقيقيها لـ “المفكرة” إنّها وشقيقتيها ووالدتها تلقين الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بينما كانت شقيقتها تتصفّح أحد المواقع، مضيفة أنّهنّ بخسارة والدها وشقيقيها فقدت كلّ سند وأباها المعيل، وإنّ ما حل بهنّ كارثة، لكن، ورغم حزنها، تطمئن كونهم شهداء.
تروي رأفت أنّ والدها انتقل قبل حوالي السنة للعيش في ميس الجبل، بلدة زوجته الثانية، مع أحمد ومحمد حيث فتح “سوبرماركت”، وأنّها وشقيقتيها يعشن مع والدتهنّ، بينما يزورهنّ شقيقاها أحمد ومحمد كل أسبوع تقريبًا.
ومع اندلاع الحرب عاد والدها للسكن في منزله الثاني في منطقة بشامون، مقفلًا “السوبرماركت” كلّيًا في ميس، بانتظار انتهاء الحرب التي طالت كثيرًا. لكن والدها كان يدين لتجّار البضائع بالكثير من الأموال، فكان يستغلّ كل حالة وفاة ومراسم تشييع في البلدة، للعودة وإخراج ما استطاع من بضائع، لسداد ديونه لهم، وهذا ما حدث نهار الأحد الفائت، حين رافقه ابناه وزوجته مستغلّين تشييع أحد أبناء البلدة، مستقلّين شاحنة لتحميل البضاعة، وبعد دخولهما إلى “السوبرماركت” استهدفهم العدو الإسرائيلي.
التجّار بانتظار سداد الديون
ويفيد شقيق فادي، ربيع حنيكة، في اتصال مع “المفكرة”، أنّ شقيقه كان يرزح تحت دين تفوق قيمته 100 ألف دولار ثمن بضائع للّتجار، وأنّه قبل افتتاح السوبرماركت في ميس الجبل كان يعمل مندوب مبيعات، وفكّر في توسيع نطاق عمله وافتتاح محل تجاري، ووافق التجّار على دعمه وإعطائه بضاعة يسدد ثمنها تباعًا بحسب معدل تواتر المبيع. إلّا أنّه مع اندلاع الحرب اضطرّ إلى إقفال محلّه، ومرّت ثمانية أشهر عليه وهو يعيش حالاً من القلق، غير قادر على سداد ديونه ولا على إنقاذ البضائع.
ويضيف أنّ التجّار انتظروا طويلًا إلّا أنّهم بدأوا يطالبونه بسداد ديونهم أو إرجاع البضاعة، فوجد الشهيد نفسها مضطرًّا للإسراع في إخراجها قبل انتهاء مدة صلاحيتها وتلفها، وقد تمكّن من إخراج جزء منها في مرتين سابقتين. وفي السابق كان يستقل “رابيد” صغير، أما هذه المرة فقرّر إحضار شاحنة كبيرة كي ينقذ كمية أكبر من البضاعة، فلا يضطرّ للعودة إلى القرية من جديد.
إسرائيل هي التي قتلت فادي وعائلته، ولكن هناك سؤال مشروع لا بدّ من طرحه في ظلّ التقاعس الرسمي عن مساندة النازحين والتعويض عليهم، ألا تتحمّل الدولة مسؤولية في اضطراره إلى العودة إلى قريته المستهدفة؟
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.