إسرائيل تقتل الناس وذاكرتهم في شارع مار الياس


2024-11-20    |   

إسرائيل تقتل الناس وذاكرتهم في شارع مار الياس
من موقع الغارة الإسرائيلية التي استهدفت مبنى ديار في شارع مار الياس في بيروت

“متل النسمة”، بهذه العبارة تصف زينب موسى، ابنة خالتها الشهيدة جنى حسن التي سقطت في الغارة على مبنى ديار في مار الياس الأحد 17 تشرين الثاني الجاري. وجنى (18 عامًا) هي ابنة عربصاليم التي لم تترك قريتها ولا أهلها في الحرب، وعندما فعلت، استشهدت. ومع توسّع العدوان الإسرائيليّ في لبنان، نزحت جنى بداية مع والدتها وشقيقتها من عربصاليم إلى منزل أحد أقربائهم في منطقة السوديكو فيما بقيَ والدها هناك، متمسّكًا بأرضه. لحقت جنى بعد فترة بوالدتها إلى القرية بعد إصابة والدها بعارض صحيّ. ابنة أبيها أصرّت على التمسّك بأرضها وبعائلتها، كما هي متمسّكة بمبادئها بمقاطعة المنتجات الداعمة لإسرائيل. العيش في ظلّ الصواريخ الإسرائيلية على قرى الجنوب ومن ضمنها عربصاليم لم يكن سهلًا أبدًا، رافق الخوف جنى ليالٍ كثيرة وباتَ النوم حلمًا، بحسب ما تذكره ابنة خالتها نقلًا عنها. ومع تأزّم الوضع في الجنوب لم يعد خيار البقاء بيدِ جنى ووالديها، فأجبروا بفعل ضغوط عائلية على ترك القرية والنزوح إلى بيروت بشكل نهائي، وتحديدًا إلى منزل أحد أقربائهم في شارع مار الياس.

صباح يوم الأحد وضعت جنى وباقي أفراد عائلتها حقائبهم في المنزل الذي نزحوا إليه في شارع مار الياس، اقتربت من زوجة خالها، بكت وغمرتها بشدّة، وكأنّما تخلعُ عنها حزن أيام طوال، بحسب ما قاله ابن خالها أحمد في اتصال مع “المفكرة”. ومع حلول المساء، خرجت الشابة برفقة ابن خالها وابن خالتها في “كزدورة” في الشارع الرئيسيّ ليرفّهوا عن أنفسهم، وما إن جلسوا بالقرب من المقعد قبالة محلات ماضي للإلكترونيات حتى شنّت إسرائيل هجومها، وغابت جنى وطَيفها. رحلة البحث عن جنى لم تكن سهلة بالنسبة لعائلتها، وفور وقوع الغارة توجّه ابن خالتها أحمد إلى المكان، بحث طويلًا لكن دون جدوى، لم يجد سوى محفظتها، جال على المستشفيات التي نقل إليها الجرحى، وجد أخاه وابن عمّته اللذين كانا برفقة جنى، اطمأنّ إلى حالهما في المستشفى، وأكمل رحلة البحث. عاد إلى موقع الغارة يائسًا ليبحث مجدّدًا، عمّم اسمها عبر الوسائل الإعلامية “جنى حسن مفقودة”، ثمّ ورده خبر وجود جثة غير معروفة الهوية في إحدى مستشفيات منطقة الحمراء، وبعد الكثير من الجهد للتأكّد من هوية الجثة، عثروا على جنى في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، شهيدة بجسد سليم وثياب لا تشوبها شائبة، ونصف وجه.

الشهيدة جنى حسن

“رحلت جنى الهادئة بطبعها والمفعمة بالطاقة الإيجابية. رحلت من كانت بمثابة أخت لي بما أنّني وحيدة أهلي”، تقول ابنة خالتها زينب بصوت يرتجف من شدّة الحزن، وتتابع: “بعد استشهاد جنى قالت لي شقيقتها: هل تذكرين عندما كنتِ تقولين لي “نيالك عندك إخت”، الآن أصبحنا أنا وأنتِ من دون أخت”.

وجنى حسن لم تكن الشهيدة الوحيدة في الغارة، بل سقط فيها أيضًا الشاب جميل والطفل حسن (15 عامًا) من الجنسية السورية اللذان جاءا إلى لبنان لكسب رزقهما. كما سقط محمود ماضي صاحب “محلّات ماضي للإلكترونيات” الذي ادّعى بعض الإعلام الإسرائيلي أنّه المستهدف في الغارة كونه قياديًا في حزب الله إلّا أنّ الحزب لم ينعه ونفى شقيقه حسن الادعاء. وأصيب في الغارة بحسب وزارة الصحة أيضًا 22 شخصًا. 

وكان العدوّ الإسرائيلي قد استهدف مبنى ديار في شارع مار الياس في بيروت قرابة الساعة الثامنة من مساء الأحد، بخمسة صواريخ، ما أدّى إلى اندلاع النيران داخل البلوك B سرعان ما امتدّت إلى بلوك A حيث توجد محلات لبيع العطور وهي من المواد السريعة الاشتعال، ومكتبة، وشقتين، ومستودعات، كما طالت النار خزانات مازوت، ما أدى إلى انفجارها واشتعالها.

عن فقدان الأمان: “لم أنَم خوفًا من الموت”

لا تقف الخسارة على الأرواح والأمكنة، بل إنّ سكّان الشارع خسروا شعورهم بالأمان وهو حقّهم، لا سيّما أولئك الذين ظنّوا أنهم وعائلاتهم في أمان، وللّذين نزحوا من جحيم الحرب إلى الموت.

“كنّا نقول هون أمان، ونقول للعالم تجي لعنّا، ما كنا عارفين هيك رح يصير”، تقول مهى خلف التي تقطن في مبنى ملاصق لمبنى ديار، في اتصال مع “المفكرة”. والأمان الذي لطالما شعرت به مهى لم يمنعها وعائلتها من فتح النوافذ دائمًا كإجراء احترازيّ تحسّبًا لأيّ ضربة قوية. كانت مهى ووالداها وإخوتها متواجدين في المنزل لحظة وقوع الغارة، لحظة سماع صوت ضربات متتالية توجّهوا فورًا نحو رواق المنزل، في هذه اللحظة، استعادت الشابة في رأسها جميع فيديوهات انهيار المباني التي رأتها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بدا الأمر مألوفًا لها، كلّ ما تخيّلته حينها هو مشهد سقوط المبنى الذي يسكنوه. “حسّيت رح تنزل البناية متل ما منشوف على التلفون”، تقول. وتتابع: “عندما علمنا بأنّ الغارة وقعت في المبنى الملاصق لنا والذي لا يمكننا رؤيته من النافذة قرّرنا التزام المنزل، فالهرب ليس خيارًا بخاصّة مع التخوّف من احتمال وقوع غارة ثانية على الموقع نفسه”.

تصالحت مهى مع فكرة أنّ كلّ مكان بات هدفًا لصواريخ إسرائيل، ولكنّها لم تتصالح بعد مع فكرة خسارة أماكن هي جزء من الحيّ الذي كبرت فيه لا سيّما “مكتبة شرف”، ولا مع فكرة موت “ناس أوادم”، كما تشير في حديثها عن الشهيد محمود ماضي، شقيق صاحب محلات ماضي للإلكترونيات الذي عرف بحسن أخلاقه كشخص “خدوم”، كما وصفته.ويوافقها في ذلك أبناء المنطقة الذين التقت فيهم “المفكرة” في محيط المبنى، وأجمعوا على أنّ الشهيد محمود “حسن الأخلاق” ولا علاقة له بالأحزاب، على حدّ علمهم. وعلّق أحدهم قائلًا “نحن نعرف محمود منذ زمن ونتعامل معه ومع أشقائه ونقصد متجرهم لإصلاح الأجهزة المعطّلة لدينا من هواتف ولابتوبات، والمؤكّد بالنسبة لنا أنّهم بعيدون كلّ البعد عن الأحزاب”.

يقف مازن (اسم مستعار)، وهو أحد سكان مبنى ديار، وراء الشريط الذي طُوّق به المكان، تارة يتأمّل منزله من بعيد، وتارة أخرى ينظر إلى هاتفه الذي يحمله بين يديه. “لا يزال هناك صاروخ لم ينفجر، ويحتاجون بعض الوقت لإزالته، وبالتالي لا يمكننا أن نطمئنّ على أرزاقنا الآن. نحن مجبرون على الانتظار”، يقول مازن لـ “المفكرة”. وهو كغيره، ظنَّ أنّ منزله في مار الياس آمن، فعمد مع اشتداد العدوان الإسرائيليّ إلى إحضار أمّه من منزلهم في منطقة كنيسة مار مخايل في الضاحية الجنوبية لتسكن معه. والدة أحمد هي نقطة ضعفه، ووضعها الصحيّ يزيد من شدّة خوفه عليها، فهي تعاني من شلل يجبرها على التزام الكرسيّ المتحرّك، ويحرمها من الإتيان بأيّ حركة أو التفاعل حتى. وعلى حين غرّة، غدرت إسرائيل بمازن ووالدته. “سمعت هدير الصواريخ، ومن على شرفة منزلي في الطابق الرابع رأيتها تسقط نحو الطابق الأوّل. لم يعد بإمكاننا الخروج من المنزل أو استخدام المصعد. كلّ ما أذكره هو مشهد إنقاذنا من المنزل عبر الرافعة. عدنا إلى الحياة من جديد”، يقول مازن، مشيرًا إلى مفارقة أنّ منزل والدته عند تقاطع كنيسة مار مخايل لا زال بخير رغم كلّ شيء.

يختلف الأمر قليلًا عند الحديث مع الشابة مي صفا التي شعرت بالخطر للمرّة الأولى بعد هذه الغارة التي وقعت على بعد عشرات الأمتار عن في مكان نزوحها الثالث. “هي المرّة الأولى منذ بداية الحرب التي أشعر فيها أنّ حياتي في خطر، والموت ممكن في أيّ لحظة. لم أنم تلك الليلة من شدّة الخوف من الموت”، تقول مَي في اتصال مع “المفكرة”. نزحت مي للمرة الأولى من منطقة الجاموس في الضاحية الجنوبية إلى منطقة ذوق مكايل، ومن هناك إلى بلدة الشبانية، ومنها إلى منزل إحدى صديقاتها في مار الياس، بانتظار أن تنتقل إلى منزل آخر في منزل خاص بها في منطقة الأشرفية مع بداية كانون الأول. أُجبرت مي على العودة إلى بيروت لتكون قريبة من مكان عملها، فخيار العمل عن بعد لم يعد متاحًا أمامها، وترك العمل ليس خيارًا في الوقت الحالي بعدما بات راتبها مصدر رزق أساسي لعائلتها. ولأجل ذلك عادت مي إلى بيروت. “أثناء جلوسي في المنزل مع صديقتي، سمعنا صوت هدير الصواريخ، بداية لم نفهم ما حصل، ثمّ شعرنا بهزّة قوية، توقّعنا أن تكون غارة قد وقعت في منطقة قريبة، خرجنا إلى الشرفة، ورأينا النار والدخان يتصاعدان. هنا علمت أنّ الحرب تلاحقني”، تقول مَي. خيّم الصّمت على غرفة الشابتين، اكتفيا بالنّظر إلى بعضهما البعض، وحده صوت الناس في الشارع كان مسموعًا حينها، بحسب مَي. “للأسف، أدرك بعد هذه التجربة أنّنا قد وصلنا إلى مرحلة متقدّمة في طريقة تفاعلنا مع الغارات الإسرائيلية. ننصدم في البداية، ثمّ نعود إلى حياتنا مجبرين”، تقول وتجزم أنّ “لا مكان آمنًا أبدًا” في ظلّ الحرب الإسرائيلية.

جميل وحسن بحثا أيضًا عن أمان ما

كما بحث المهجّرون من جحيم الغارات الإسرائيلية عن الأمان، بحث جميل وحسن، وهما عاملان من الجنسية السورية عن أمان ما في لبنان. كان الشابان ينامان في غرفة الكهرباء في مبنى ديار عند وقوع الغارة. مع كثرة الغارات الإسرائيلية وازدياد عدد الشهداء بات من الصّعب في بعض الأحيان معرفة أسماء الشهداء، فكيف الحال إذا كانوا من الأجانب؟ حسن، هو ابن أخ حمدان ناطور المبنى، يبلغ من العمر حوالي 15 عامًا، يعمل في خدمة التوصيل لدى إحدى الصيدليات ليلًا ويساعد عمّه خلال ساعات النهار. أمّا جميل، زوج شقيقة حمدان، فيعمل في مجال الكهرباء في المنطقة والجوار. كما كلّ ليلة، توجّها إلى غرفة الكهرباء حيث ينامان لينعما بقسط من الراحة، كما يخبرنا الناطور لؤي الذي يعمل في مبنى مجاور. “عند قرابة الساعة الثامنة مساءً سمع صوت ضربة قوية، حاولت أن أفتح باب المبنى، وبسبب قوّة الضربة كان الباب عصيًا على الفتح، وبعد عدة محاولات تمكّنت من فتحه، رأيت النيران مشتعلة، ركض على الفور بالاتجاه المعاكس هاربًا، في حين تجمّعت الناس لتعرف ما حصل ثمّ ما لبثوا أن أخلوا المكان بعد تناقل خبر إمكانية وقوع غارة ثانية، ليعودوا مجددًا إليه”، يقول لؤي، الذي تأكّد من استشهاد حسن وجميل في اليوم التالي، بعدما وقع حائط الغرفة عليهما نتيجة قوّة الضربة، فنقلا بعدها إلى مستشفى الحريري، ومن هناك نقلت جثّتاهما إلى سوريا، ورافقهما حمدان. “لا أزال غير قادر على تصديق ما حصل، ولكن أحزن على قدر حسن وجميل اللذين جاءا إلى لبنان ليكسبا رزقهما بعرق الجبين”، يقول لؤي.

“مكتبة شرف” محطّة خسرناها

من منّا ممّن يزورون شارع مار الياس الحيوي في قلب المدينة ليس لديه محطّة فيه، نقطة يعرفها جيّدًا ويعود إليها أحيانًا. محطّتي كانت “مكتبة شرف” في بداية الشارع، وكانت محطّة صباحية يومية في أوّل عمل لي في الصحافة، وتحديدًا “ستاند” الصحف اليومية، وآخر نقطة أمرّ بها قبل صعود الباص في طريق العودة إلى المنزل.

يوم الأحد الماضي في 17 تشرين الثاني الجاري، خسرت مثل كثيرين من روّاد المكتبة، محطّتي التي ولو أنّها لم تعد يومية كوني انتقلت من الشارع، إلّا أنّها بقيت محطّة رئيسية في ذاكرتي. خسرناها في غارة إسرائيلية استهدفت مبنى “ديار” الذي تقع فيه، ومعها تبدّد كلّ سؤال وجّهته لصاحبها العمّ شكري “ما في عدد اليوم؟”

وممّا لا شكّ فيه أنّ كلّ خسارة فردية هي جزء من خسارة جماعية، وخسارة المكتبة ليست تفصيًلا بل تأتي في إطار محاولة العدوّ الإسرائيليّ تدمير معالم أساسية في المدينة شكّلت ذاكرتنا كما يفعل في قرى الجنوب والبقاع.

“ما بقى في مكتبة”، يقول شكري شرف، صاحب مكتبة وقرطاسية شرف، ويضيف “كلّو راح ما ضلّ دفتر ولا حتى قلم، طابقين بكاملهن احترقوا”. هذه المكتبة التي مرّ عليها جيلان اثنان على الأقل، بحسب شكري، فتحت أبوابها في العام 1996 لأبناء المنطقة، وهي من أوائل المحال التجارية التي تمّ افتتاحها في المبنى. “هيدي المكتبة ربّت أجيال” يقول شكري الذي يصعب عليه بعد مرور 28 عامًا أن يرى رزقه وإرثًا كبيرًا من الكتب الثقافية يحترق أمام عينيه. “شفتها قدّام عيوني عم تحترق ويا ريت ما شفتها”، يقول في اتصال مع “المفكرة”.

في صباح ذلك اليوم كان العمّ شكري قد فتح مكتبته باكرًا، وعندما سمع خبر وقوع غارة في منطقة رأس النبع حيث يسكن، حتى توجّه فورًا إلى هناك، ليطمئنّ على عائلته، ثمّ عاد إلى المكتبة ليتابع عمله وأقفل بابها عند الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر وعاد إلى منزله مجددًا معلنًا نهاية يوم عمل آخر. وما هي إلّا ساعات حتى تلقّى العمّ شكري اتصالًا من ابن أخته “في غارة عالمبنى والمكتبة عم تحترق”، عاد شكري مشرعًا إلى مكتبته، وقف أمامها مصدومًا غير قادر على الاقتراب منها، هي التي كانت بمثابة بيته الثاني، وقف مُجبرًا على الاكتفاء بالمشاهدة فقط. مكتبة شرف هي أكثر من مجرّد كتب وقرطاسية وغيرها، “هي تاريخ للمنطقة”، كما يصفها شكري وكلّ من سكن في شارع مار الياس، “كل ما فينا روح رح نفتح، وبهمّة أولاد المنطقة منفتح مكتبة حديثة”، يقول. وإلى جانب خسارة جزء مهمّ من ذاكرة المنطقة، يتكبّد شكري كما غيره خسارة مادية كبرى، فيعرب عن قلقه قائلًا “خسارتنا كبيرة، لا نعرف إن كانت دولتنا ستعوّض علينا، ولكننا سنحاول أن نستمرّ”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني