تخرج الأم الثكلى من قاعة التعازي، تعينها سيّدتان على الوقوف والمشي. تنظر في عيوننا واحدةً واحدة وكأنّها تقول “أنظرن إليّ أنا والدة الشهيدين”. في عينيها فخر عميق وألم واضح. عبثًا تحاول الوصول إلى النعشين، فيساعدها رجل إلى جانبها يشدّها من يدها لتتمكّن من لمس نعش حسن، تدلّ بيدها صوب نعش أميرة فيسحبها من جديد لتلمس نعشها.
أمس أوصلتهما إلى بيت عمّتهما وودّعتهما على مدخل البناية، اليوم توصلهما إلى مثواهما الأخير وتودّعهما على مدخل الجبّانة التي ستحفظ وجهها في الأيام والسنين المقبلة، تمامًا كما ستحفظ جبّانات أخرى وجوه أمّهات 12 طفلًا وطفلة آخرين قتلتهم إسرائيل في لبنان منذ السابع من أكتوبر.
انضمّ الشقيقان حسن وأميرة فضل الله (10 و6 أعوام) إلى قائمة الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل، حُملا جنبًا إلى جنب اليوم، في نعشين متلاصقين نحو مثواهما الأخير، بعدما قضيا معًا بصاروخ إسرائيلي استهدف منزل عمّتهما في الضاحية الجنوبيّة ليل أمس.
يروي أقارب الطفلين كيف أمسك حسن يد أميرة وركضا من مدخل البيت إلى الصالة بعد سماعهما صوت انفجار، وكيف أراد حسن أن يحمي أخته التي لم يكن يُفارقها، إلّا أنّ صاروخًا آخر أصاب الصالة وأودى بحياتهما.
كلّ ذلك حصل في الدقائق الأولى لوصولهما إلى منزل عمّتهما، كما تروي خالة الطفلين زينب سلطان التي بدت قويّة رغم الفقد ورغم عينيها المتورّمتين من البكاء. تقف الخالة على باب قاعة الحوراء زينب في الغبيري، حيث كانت العائلة تتقبّل التعازي، تُجيب عن أسئلة الصحافة بصوت حاسم وفي إجاباتها كلّها عبارة لا تقولها ولكنّها مسموعة بوضوح: “نعم مصابنا أليم ولكنّنا على حقّ”. وحين يسألها صحافي من “بي بي سي” “مَن تحمّلين المسؤوليّة”، تجيب: “إسرائيل طبعًا وأميركا”. وعند سؤاله عن الرسالة التي توجّهها إلى قاتل أولاد أختها، ترد بثقة: “سنمحي إسرائيل”.
تروي زينب أنّ الغارة حصلت وأختها والدة الطفلين كانت لا تزال على مدخل المبنى. فقد عرفت الأمّ أنّ ابنها الأكبر علي (12 عامًا) نُقل إلى مستشفى الجعيتاوي مصابًا بحروق، وأنّ زوجها الذي حمى علي بجسده نقل إلى المستشفى أيضًا مصابًا بكسور بظهره، وأنّ أحدًا لم يجد حسن وأميرة. ظنّت بادئ الأمر أنّهما ضاعا، وبعد أكثر من خمس ساعات وجدا جنبًا إلى جنب تحت الركام.
لولا وجود عدو اسمه إسرائيل يُمعن في قتل الأطفال، لكان حسن اليوم يُكمل تدريباته في كرة القدم في نادي المبرّات، وهو “اللاعب الواعد” كما يصفه مدرّبه حسين جابر الذي شارك مع رفاق حسن في النادي بالتشييع، راويًا كيف وصلت صورة أميرة على إحدى مجموعات واتساب، وكيف عرف من الشبه والاسم أنّها أخت حسن، فأسرع إلى المستشفى وهناك وجد والدتهما التي قالت حين رأته “راح حسن”. لم يصدق جابر ويقول “كنت مقتنعًا بأنّنا سنجده، وبقينا نبحث حتى العاشرة والنصف إلى أن عثرنا عليه تحت الأنقاض قرب أخته أميرة”.
وحمل أصدقاء حسن ورفاقه في النادي صوره، هتفوا بأعلى أصواتهم اليافعة: “الموت لإسرائيل الموت لأمريكا”، ودّعوه والدموع في أعينهم “أنا رفيقه لحسن اللي قتلته إسرائيل” هكذا عرّف أحدهم عن نفسه وهو حامل صورته عاليًا، ثمّ بكى”.
لولا هذا العدو أيضا، لكانت أميرة تجلس مع والدها تُخبره تفاصيل يومها وهي “غنّوجته” كما تسمّيها خالتها، “اسم على مسمّى محبوبة الجميع وخاصة من أخيها حسن الذي كان يفضّل دائمًا البقاء جنبها”، تقول زينب وتضيف: “حتّى في اجتماعات العائلة كان يفضّل اللعب معها، وأمس لم يتركها، واليوم سيدفنان معًا”. وعن ألم الفراق تقول “موجع جدًا، بكينا على أطفال غزّة، ظنّنا أنّنا نواسيهم بالبكاء ولكنّنا اليوم نواسيهم فعليًا باستشهاد أبنائنا وبكائنا عليهم. فقد القريب يوجع كثيرًا. ولكن علي ابني وعلي ابن أختي سيكبران وسينتقمان من إسرائيل ويثأران لحسن وأميرة ولكلّ طفل قتلته إسرائيل”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.