إسرائيل تسلخ صور عن بحرها بالنار: قتل الصيادين


2024-11-24    |   

إسرائيل تسلخ صور عن بحرها بالنار: قتل الصيادين
اللحظات الأولى عقب استهداف الصيّادين الأربعة كما وثّقتها كاميرات شهود العيان في استراحة صور السياحيّة

صباح اليوم 18 تشرين الثاني 2024، استهدفت طائرة مسيّرة ثلاثة صيادين من عائلة واحدة على شاطئ مدينة صور في جنوب لبنان، مما أسفر عن استشهاد صياديْن وإصابة فتى، هو شقيق أحدهما بجروح، أثناء محاولتهم اصطياد بعض الأسماك تعينهم في تحصيل لقمة عيش صعبة تحت العدوان المستمر منذ 8 تشرين الأول 2023، وتصاعده منذ 23 أيلول المنصرم. 

وفقاً لشهادات موثقة حصلت عليها “المفكّرة” من شهود عيان وصحافيين كانوا على مقربة من الموقع، كان الصيادون العزل يحملون فقط شباك صيدهم. والحادثة وُثقّت عبر مقاطع فيديو وشهادات مباشرة.

وقضى في الهجوم الصيادان فيصل أبو عمر وحسن حويلا، وهما لاجئان فلسطينيّان من مخيّم الرشيديّة جنوب صور. 

ويأتي الهجوم في سياق استهداف المدنيّين الصامدين جنوبًا، وتعطيل الحياة عبر التهديد وحملات القصف الجويّة، حيث فرض الجيش الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول 2024 حظراً على الاقتراب من الشاطئ جنوب لبنان من رأس الناقورة إلى نهر الأوّلي شمال صيدا، وأصدر إنذارات إخلاء للسكّان من مناطق واسعة من جنوب وشرق لبنان في البقاع، وكذلك أحياء الضاحية الجنوبيّة لبيروت. وكرّر خلال الأسابيع الأخيرة تهديداته ضدّ مدينة صور ومحيطها، في إطار التهديدات التي ينشرها باستمرار، محذّرًا الأهالي والسكّان من العودة.  

هذا التحقيق يهدف إلى توثيق تفاصيل الهجوم الأخير على الصيادين، ووضعه في سياق أوسع يشمل تأثير استهداف المدنيين ومصادر معيشتهم كجزء من أنماط أوسع من الجريمة الممنهجة ضدّ المناطق التي يعلنها الجيش الإسرائيليّ مهدّدة على الدوام.

اللحظات الأولى عقب استهداف الصيّادين الأربعة على شاطئ صور (توثيق شهود عيان)

يوم بدأ “عاديًّا” في حياة ثلاثة صيّادين 

أخبر شهود العيان من النازحين والصحافيّين المتواجدين في استراحة صور السياحيّة، على بعد 50 مترًا عن استهداف الصيّادين الثلاثة، أن هؤلاء استمرّوا بالتوجّه إلى البحر يوميًّا بحثاً عن قوت يومهم، رغم التصعيد الأخير مع الاجتياح الجوّي التوسعي منذ 23 أيلول 2024. 

وروى الشهود الذين كانوا على مقربة من مكان الحادث كيف كان الصيّادون عزلاً تماماً، يحملون فقط شبكاتهم البسيطة وأدوات صيدهم. قال محمد (25 عامًا): رأيتهم يلقون التحيّة على النازحين والصحافيين هنا في الاستراحة، ويتابعون سيرهم، بثقة اكتسبوها ربما من اعتيادهم اليومي النزول إلى الشاطئ شبه الخالي بسبب التهديدات الإسرائيلية. 

وصل الصيّادون إلى النقطة المعتادة، رموا شباكهم، وتراجعوا نحو الكثبان الرملية. دقائق قليلة مرت قبل أن تتحول تلك اللحظة العادية إلى مأساة مروعة.

يقول محمّد: “سمعتُ صوت اقتراب المسيرة في السماء، وقلت لنفسي لعلّهم يجمعون معلومات تجسّسيّة، قبل أن يقطع صوت الصاروخ أفكاري. توجّهت إلى مصدر الصوت مع الصحافيّين وعدد من المواطنين، إلى حدود الاستراحة التي يفصلها عن الشاطئ سياج حديديّ، فرأيت الصيّادين وقد سقطوا بين شهيد وجريح”. 

قال عامل إسعاف لـ”المفكّرة” إنّ الإصابات الواضحة تظهر أن الصاروخ استهدف الصيّادين مباشرة، فقتل واحدٌ منهم على الفور وأصيب اثنان آخران بجروح، إصابة أحدهما خطرة. وقال شهود العيان إنّ المنطقة الشاطئيّة المفتوحة كانت خالية في محيطهم. 

واستشهد الصيّاد الثاني على الفور فيما نُقل الصيّاد، الفتى الشقيق بحالة حرجة إلى المستشفى. وثّق الصحفيون، بعدسات كاميراتهم، اللحظات الأولى التي تلت الهجوم: صديق فوق جثمان صديقه وجسد شقيقه الجريح، يرفع يده تارة أمام جثمان الأوّل، ويحاول الإمساك بنزيف الثاني تارة أخرى، وقد قلّت حيلته، وحوله تتشكّل بقعة من الدماء تشربها الرمال بسرعة. 

ووثقت المشاهد اللاحقة وصول فرق الإسعاف، يحاولون يائسين تقديم المساعدة للصيّاد المصاب، قبل أن يتم انتشاله مع جثمان صديقه، ليستشهد لاحقًا متأثّرًا بجراحه.

 صور في قلب الحصار: قتل الصيّادين

يشكّل شاطئ صور، مصدر رزق هؤلاء الصيادين وغيرهم من سكان المدينة، لكنّه أصبح هدفاً مباشراً ومعلنًا للجيش الإسرائيليّ. هذا الهجوم يأتي بعد تهديدات إسرائيلية، أبرزها في 7 تشرين الأول 2024، عندما أعلن متحدث باسم الجيش الإسرائيلي عن فرض حظر بحري جنوب نهر الأولي، محذراً من التواجد على الشاطئ أو استخدام القوارب.

التهديد الإسرائيلي لم يقتصر على استهداف الصيّادين بل امتدّ ليشمل كل من يرتاد الشاطئ، مما حول صور من مدينة يحيطها البحر وتعتمد عليه إلى مكان مغلق على الموت واحتمال القتل. ومع ذلك، لم يقتصر الاستهداف على البحر، بل طال أيضاً اليابسة وكل ما يُبقي المدينة على قيد الحياة.

في 23 تشرين الأوّل، توجّه المتحدّث عينه إلى أهالي صور، ناشرًا خريطة شملت حينها 70% من المباني السكنيّة في المدينة، تبعه تهديد آخر وسّع مساحة التهديد لتشمل كافّة أحياء المدينة خارج الحارة القديمة. 

وتبعت هذه التهديدات موجات من القصف العنيف والمتكرّر شبه اليوميّ ضدّ المدينة. ووثقت تقارير أضرارًا هائلة في الأحياء السكنية ومنها بيوتًا تراثية نادرة، وفي البنية التحتية الأساسية في صور، بما في ذلك مرافق حيوية مثل المخابز، شبكات المياه والكهرباء، والشوارع التي تشكّل العصب الاقتصاديّ للمدينة. هذه الأحداث تظهر نمطًا من استهداف المدنيين بالقتل والحصار، بما قد يرقى إلى مستوى العقاب الجماعي.

خلّفت الهجمات الإسرائيليّة موجات نزوح من المدينة، ولا تتوفّر إحصائيات دقيقة بشأن عدد السكان الذين ما زالوا في صور ومحيطها حتى اليوم، إلا أن عدّة آلاف  قرروا البقاء رغم التهديدات. من بين هؤلاء لاجئون فلسطينيون في مخيمات المنطقة، وخاصة مخيم الرشيدية المطلّ على البحر، بالإضافة إلى سكان المدينة، لا سيما أهالي الحارات القديمة والنازحين إليها. وتعتبر مهنة الصيد مصدر رزق أساسيا للعديد من هؤلاء السكان، مما يبرز أهمية الشاطئ كجزء من النسيج الاقتصادي والاجتماعي للمدينة.

صورة للشهيد فيصل مصطفى شاركها أصدقاؤه

السكّان مستهدفون باستهداف الصيّادين

في شهادتها لـ”المفكّرة”، تحدّثت الشابّة ليليان (28 عامًا)، من مخيّم الرشيديّة، عن أنّ الصيّادين الثلاثة لم يعرفوا وجهة أخرى غير البحر لتأمين قوتهم اليوميّ وقوت أسرهم. كما أن السمك الذي يصطادونه ويبيعونه، يشكّل واحدًا من مصادر الغذاء القليل المتبقّية في منطقة تنقطع فيها تدريجيًا المواد الغذائية. 

وقد شملت التهديدات التي يوجّهها الجيش الإسرائيليّ باستمرار منع “توجّه السيّارات جنوبً نهر الليطاني” ما يتسبّب بحرمان هذه المناطق من وصول إمدادات الغذاء، جنبًا إلى جنب مع إغلاق كافّة المصالح والمتاجر. 

وقالت ليليان، التي عرفت الشهيد محمد حويلا عن قرب، إن الشهيد كان مدرّب جمباز، توقّف عمله بسبب التصعيد، ولم يبق له سوى خبرته في الصيد، ليؤمّن طعامه وطعام أسرته.

وكانت التهديدات قد شملت مخيّم الرشيديّة، لكنّ الأغلبية الكبرى من أبناء المخيّم وأسره فضّلت البقاء تحت الخطر على الذهاب نحو المجهول، بحسب أحمد مصطفى، ابن عمّ الشهيد فيصل.

وقال شاب ثلاثيّني إنّ “البحر مصدر رزق وآخر ما تبقى من حياة هنا”، وقبل أن يهمّ بالدخول للمشاركة في الصلاة على جثمان الشهيدين في مسجد الفاروق عمر في مخيّم الرشيديّة، قال لـ”المفكّرة”: “العدوان لا يخيفنا هنا لأن وجودنا بالأصل هو نتيجة لعدوان خلف عدوان وتهجير قديم”، مشيرًا إلى أن تاريخ لجوء عائلته من فلسطين إلى لبنان يعود إلى تاريخ النكبة. وأضاف: “نحن من سحماتا في عكّا، وكان الصيد مهنة أجدادنا، واليوم دفعنا شهيدًا غاليًا ثمنًا لصمودنا واستمرارنا بالعيش وامتهان الصيد رغم اللجوء والحروب”. 

وقال محمّد إنّ أهالي المخيّم الصامدين يقولون إنهم باقون في مخيّمهم رغم هذا الاستهداف وخسارة شهيدين جديدين اليوم. 

صورة للشهيد محمد حويلا شاركها أصدقاؤه

سياسة ممنهجة

ويمثّل الهجوم على الصيادين جزءًا من نمط متكرر يخنق مصادر الحياة للسكان المدنيين المتبقّين في جنوب لبنان. تدمير البنية التحتية، واستهداف القطاعات الاقتصادية ومحلاتها ومؤسساتها، إضافة إلى تدمير الأحياء السكنيّة، كلها أفعال تندرج ضمن سياسة شاملة تهدف إلى إجبار السكان على النزوح قسرًا والتخلي عن مناطقهم، وهي ممارسات تمثّل أدلّة على العقاب الجماعي.

وفيما يستمر العدوان، ستكون صورة الصيّادين الاثنين اللذين استيقظت عليهم صور والعالم اليوم، ممدّدين على الرمل، وفوقهم صديقهم، واحدة من المشاهد التي ستخلَّد كصورة للجريمة، وشهادة عليها. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني