تنقل القنوات التلفزيونية في غزّة عبر شاشاتها مشاهد الطوابير الطويلة أمام المخابز المعدودة التي لا تزال تعمل، ويظهر رجال ونساء وحتى أطفال الذين أصبحت مهامهم اليوميّة الوقوف في الطابور لأكثر من عشر ساعات أحيانًا للحصول على الخبز أو لا.. يقول مراسل الجزيرة هشام زقّوط وهو يقف في طابور خبز في مخيّم النصيرات “محظوظٌ من يحصل على ربطة خبز”. ويضيف أنّ “هذه المخابز على شفا الانهيار، فعبوات الغاز فارغة، الدقيق بات ينفد، وأيضًا الوقود مفقود، ولا كهرباء ولا يوجد مياه صالحة للشرب ولا للخَبْز”، كلّه جرّاء إحكام إسرائيل الحصار الذي تفرضه على القطاع منذ بداية عمليّة “طوفان الأقصى”، حصار بدأ قبل 16 عامًا.
ويؤكد رئيس جمعية أصحاب المخابز في غزّة عبد الناصر العجرمي في اتصال مع “المفكرة” أنّ “80 بالمئة من المخابز خرجت عن الخدمة بسبب القصف الإسرائيلي الذي استهدف نحو 10 مخابز والبقية لا تعمل نهائيًا بسبب نفاد المواد الأوّليّة”. وأكدّ أنّ “المخابز التي تعمل في الوقت الحالي، تعمل بنسبة لا تزيد عن 15 بالمئة من قدرتها في حالتها الطبيعيّة”.
لكن ما لم يقله المراسلون أثناء نقل مشاهد طوابير الخبز والحديث مع الناس هو أنّه محظوظ من يعود من المخبز حيًّا بعدما باتت إسرائيل تستهدف المخابز وتجمّعات الناس أمامها.
فقد ذكر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أنه وثّق استهداف 5 مخابز بشكل مباشر أو بمحيطها في مناطق مختلفة بغزة” ما “أوقع عشرات الشهداء ومئات الجرحى”. وأكدّ أنّ هناك “عشرات الأدلة الأخرى على هذه الجرائم بتعمّد استهداف تجمّعات المواطنين أمام المخابز وفي الأسواق وحتى داخل المستشفيات أًو الكنائس، كما جرى في مذبحة المستشفى المعمداني وكنيسة الروم الأرثوذكس”.
شراء الخبز في غزة مخاطرة بالحياة
ساعات الانتظار أمام المخابز لا تعني أنّ المواطن الغزّاوي سيحصل في النهاية على الخبز على ما نقله محمود، وهو أب لثمانية أبناء، لـ “الجزيرة” أثناء وقوفه في طابور مخبز الدوحة، قال إنه مشى نحو 5 أميال للوصول إلى المخبز. وأضاف “أقف في هذا الطابور منذ الخامسة صباحًا وننتظر دورنا، وفي النهاية يخبرك صاحب المخبز أنّ الخبز نفد بعد هذا الانتظار طوال اليوم، هناك أطفال يموتون جوعًا، ولذلك أتصبّر بأيّ شيء سواء كان بسكويت أو عدس أو أي شيء”.
أمّا الصورة الأعنف فينقلها المصوّر الصحافي محمد الحجّار في شهادة نشرها موقع “ميدل إيست آيز” MEE. أخبر الحجار كيف نجا هو وطفلين من عائلته من ضربة جوية مميتة في غزة أثناء انتظارهم في الطابور للحصول على الخبز من مخبز في شارع الجلاء في مدينة غزّة في 25 تشرين الأوّل. يقول “كنّا نقف في الطابور منذ نحو الساعتين، وتحديدًا عند الساعة 4:15 عصرًا سقط أول صاروخ على الأبراج السكنية في شارع اليرموك على بُعد 100 متر منّ المخبز المتواجد في شارع الجلاء في مدينة غزّة”. يصف الحجّار في شهادته أنّ نجاتهم كانت “معجزة”، ويُضيف “كنّا نحو 180 شخصًا في الطابور أمام المخبز، وبعد نحو دقيقة هاجمت الطائرات الاسرائيليّة شارع الجلاء حيث كنّا نقف”. ويؤكد أنّه “لو استهدف الإسرائيليون شارع الجلاء أولًا، لكان من الممكن أن نقتل جميعًا”. ونقل الموقع أنّ من كانوا يقفون في الطابور تمكّنوا من الفرار، إنّما قُتل نحو 120 شخصًا في منازلهم ولا يزال 300 شخص في عداد المفقودين تحت الأنقاض.
مخابز معدودة تعمل تحت تهديد القصف
محاولة الحصول على تصريح من أحدٍ في غزّة ليس بالأمر السهل فالحصار الإسرائيلي شمل الاتصالات وخدمات الإنترنت. ومن بين نحو عشرة أشخاص تواصلت معهم “المفكرة” نجح الاتصال مع شخصين، ومع ذلك كان الاتصال ينقطع بين الثانية والأخرى. تواصلت “المفكرة” مع الصحافي عبد الهادي فرحات الذي يُلازم مستشفى الشفاء في مدينة غزّة التي نزح إليها الآلاف ممن يسعون للاحتماء فيها، يقول فرحات: “لا يوجد شيء اسمه وجبة غذاء في غزّة”، ردًا على سؤال عن وجبات الغذاء التي يتناولها النازحون. ويصف الوضع بالكارثي على الصعيد الغذائي، “الأفران تعمل ليوم وتغلق معظمها ثلاثة أيّام بسبب عدم توفّر المواد لصناعة الخبز، وحين تفتح ينتظر الناس لساعات طويلة للحصول على ربطة خبز”. يتحدّث فرحات عن أفران معدودة لا تزال تعمل وحصرت عملها بصناعة الخبز فقط فيما توقفت عشرات الأفران عن العمل إمّا بسبب القصف الإسرائيلي المباشر أو بسبب نفاد الوقود ومياه الشفة والكهرباء والغاز والسولار (الديزل).
وقد تدهور قطاع المخابز بشكل سريع جدًا، ففي اليوم الرابع من العدوان على غزّة في 11 تشرين الأول خرج رئيس جمعية أصحاب المخابز عبد الناصر العجرمي في مؤتمر صحافي، وأعلن أنّ “الوضع مأساوي في قطاع الأفران، فقد كان القطاع الوحيد الذي يعمل خلال الحرب على غزة. وشدد على أنّ ضرورة رفع الحصار عن غزّة، وتوفير التيار الكهربائي والغاز والسولار وإلّا فالمخابز مهددة بالتوقف عن العمل. وناشد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التدخل لفتح معبر رفح لإدخال المواد الأساسية اللازمة، وقال العجرمي “كان في ناس تعتمد على الخبز الذي تصنعه في المنزل باتو بعد قطع المياه والكهرباء يعتمدون على المخابز”.
ولفت العجرمي في اتصال مع قناة “الشرق” إلى أنّه: “على مدى الحروب السابقة كانت المخابز شبه آمنة، والمخابز هي القطاع الوحيد الذي يعمل الآن في غزّة”. وأضاف “هذه المرّة لا يوجد أمن لأيّ قطاع، فالصواريخ تهبط في كل مكان، الوضع صعب جدًا”.
وكانت وكالة الأونروا قد قدّمت مساعدات للمخابز وهي عبارة عن دقيق القمح يكفي لأسبوع واحد على أمل استلام مساعدة أخرى الأسبوع المقبل. ولفت العجرمي إلى أنّ مساعدات الأونروا محصورة في جنوب ووسط قطاع غزّة فيما انسحبت من شمالها.
استهداف المخابز والناس التي تقصدها لشراء الخبز
منذ بداية العدوان على غزّة في الثامن من تشرين الأوّل الجاري، قصفت إسرائيل عشرة مخابز وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزّة الذي نشر في 25 تشرين الأوّل 2023 بيانًا تضمن أسماء المخابز التي تعرّضت للاستهداف، وهي مخبز خيرات الشام في تل الهوا في جنوب غزّة، واليازجي بفروعه في تل الهوا وفي شارع يافا وسط مدينة غزّة، وفي شارع الأمن العام، ومخبز عجور فرع السدرة في مدينة غزّة وفرع الغزالي ومخبز هنية في جباليا، ومخبز الواحة معسكر جباليا، ومخبز المغازي وسط المخيم (مخيّم المغازي) ومخبز النصيرات شارع السوق.
وشملت أبرز هذه الاستهدافات المخابز الوحيدة التي تعمل في تجمّعات سكنية ازداد ازدحامها بسبب النزوح الكثيف، إذ قُصف المخبز الوحيد الذي يُغذّي احتياجات سكّان مخيم المغازي وذلك بعد ساعات من استلامه الدقيق من وكالة الأونروا في 24 تشرين الأوّل نحو الساعة العاشرة مساءً. وأوضح رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في غزّة سلامة معروف في بيان أنّ “الصواريخ دمّرت المخبز بالكامل وخلّفت مكانه حفرة كبيرة بالإضافة لهدم عدد من البيوت المحيطة وسط مخيم المغازي، وارتقاء ما لا يقل عن 10 من الشهداء وإصابة عشرات الجرحى”. وكانت وكالة الأونروا قد اتفقت مع جمعية أصحاب المخابز يوم الأحد في 22 تشرين الأوّل توزيع الدقيق مجانًا على المخابز جنوب القطاع لصناعة الخبز وبيع الربطة بـ 4 شيكل فقط بدلًا من 7 شيكلات.
ومن أبرز الاستهدافات أيضًا، في 18 تشرين الأوّل حين قصفت إسرائيل مخبز النصيرات الآليفي مخيّم النصيرات وهو ثالث أكبر المخيّمات في قطاع غزّة ومساحته 8 كيلومترات مربّعة واستقبل أعدادًا هائلة من النازحين. وأدّى القصف إلى تدمير المخبز واستشهاد مالكه وعدد من العمّال فيه. أحد العاملين في المخبز الذي أتى بعد القصف، أشار لمراسلة “الجزيرة” إلى أنّ القصف حصل من دون أي تحذير، وأنّه وعمّال المخبز في الليلة السابقة “رحنا لمّينا الطحين، ولمّينا السولار من المحطات”. ولفت إلى أنّهم تمكّنوا من إخراج بعض الخبز الذي سُلّم لوكالة الأونروا، لكنّ كميات من الخبز تضرّرت وما تبقّى منه تسمّم ولا يُمكن إعطاؤه للناس. وأشار إلى أنّ هذا المخبز كان يؤمّن الخبز للنازحين وبخاصّة للمدارس التي ازدحمت بالنازحين والموجودة على مقربة من المخبز.
ومنذ بداية الحرب، فرضت إسرائيل حصارًا على القطاع، قطعت عنه الكهرباء والمياه، وعادت لاستهداف الأسواق الشعبية بما فيها المطاعم والمقاهي وهي الوجهات الاستهلاكية لمصادر الغذاء في غزّة، بدأت مع قصف السوق الشعبي في مخيم جباليا في 9 تشرين الأوّل، وجباليا هو أكبر المخيمات الثمانية الموجودة في قطاع غزّة الذي يغطي مساحة من الأرض تبلغ فقط 1.4 كيلومتر مربع بحسب الأونروا. كذلك استهدف القصف السوق الشعبي في مخيّم النصيرات أكثر من مرّة، إضافة إلى الاستهداف المستمر للمحال التجارية على كامل قطاع غزّة.
الإبادة الفلسطينيّة: بالصواريخ والتجويع
إذًا من الواضح أنّ إسرائيل تستخدم التجويع كآلة قتل إلى جانب قصف المدنيين والبنى التحتية والمرافق الصحية، كما تمنع دخول المساعدات المكدّسة بالشاحنات على معبر رفح في الجانب المصري. وكان برنامج الأغذية العالمي أعلن في بيان في 17 تشرين الأوّل أنّ لديه “أطنان من المواد الغذائية القادمة من الطائرات والشاحنات من جميع أنحاء المنطقة مكدّسة وجاهزة لتلقي الضوء الأخضر للدخول إلى غزة من أي نقطة دخول محتملة”. وشرح البيان أنّ “عدد المخابز التي تعمل قليل وإمدادات الخبز آخذة في النفاد، حيث تعمل مطحنة واحدة فقط من بين خمسة مطاحن للدقيق في قطاع غزة، بسبب نقص الوقود والكهرباء”. وكان البرنامج قد أشار إلى أنّ “هناك 5 مخابز فقط من أصل 23 مخبزًا تعاقد معها البرنامج لتوفير الخبز الطازج في الملاجئ”. وكانت أوّل شحنة مساعدات دخلت غزّة عبر معبر رفح يوم السبت في 21 تشرين الأوّل، ولم يتخطّ عدد الشحنات 74 شحنة فقط، وهي تُشكل “قطرة” من نسبة المساعدات المطلوبة لإنقاذ الحياة في غزّة حسبما أعلنت المتحدثةالرسمية لوكالة الأونروا تمارا الرفاعي. وأوضحت الرفاعي أنّه قبل الحرب كانت تدخل 500 شاحنة يوميًا بما فيها 25 شاحنة للوقود. وإذ تمنع إسرائيل إدخال الوقود إلى قطاع غزّة بذريعة أنّه سيصل إلى “حماس”، شددت الرفاعي على ضرورة دخول الوقود إلى غزّة لتشغيل محطات تحلية المياه. وأوضحت الرفاعي أنّ المساعدات التي يقوم الاحتلال بتفتيشها والتدقيق بمحتوياتها، تصل عبر الهلال الأحمر المصري الذي يُسلمها للهلال الأحمر الفلسطيني في الجانب الفلسطيني ثم تُسلّم إلى وكالة الأونروا التي تقوم بتوزيعها.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.