بينما تستمرّ إسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني وتجويعه في قطاع غزة وتستمرّ في احتلالها غير القانوني للأراضي الفلسطينية، أحدث الكنيست الإسرائيلي سابقة دولية حين صادق في 28 تشرين الأّول 2024 على قانونين يمنع بموجبهما عمليات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في إسرائيل.
وقد أقرّ البرلمان القانونين بالأغلبية المطلقة (92 نائبًا للأوّل و87 للثاني) مقابل معارضة أقليّة من النوّاب العرب (10 نوّاب للأوّل و9 نوّاب للثاني). فيلغي القانون الأوّل الاتفاقية الموقّعة في العام 1967 بين الأونروا ودولة الاحتلال بشكل فوري، كما يمنع مسؤولي ومؤسسات وموظفي الدولة في إسرائيل من التواصل بأي شكل كان مع الوكالة أو ممثليها. ويحظر القانون الثاني عمل الأونروا أو تمثيلها أو تقديم خدماتها أو ممارسة أنشطتها بشكل مباشر أو غير مباشر في ما أشار إليه بـ “الأراضي السيادية لدولة إسرائيل”. يدخل هذا التشريع حيّز التنفيذ بعد 90 يومًا من إقراره، وقد يتيح للحكومة إغلاق مقرّ الأونروا في القدس المحتلّة حيث تدار عمليات الوكالة لجميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتاليًا حرمان ملايين اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة من خدمات التعليم والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات التي تقدّمها الوكالة الأممية.
يأتي هذا التشريع كاستمرار لحرب الإبادة في حقّ الفلسطينيين وحرب إسرائيل على الأونروا، كما يدخل في إطار حملة إسرائيل المستمرّة للتحريض على منظومة الأمم المتحدّة بكامل مكوّناتها، ومن ضمنها محكمة العدل الدولية وقوّات حفظ السلام في لبنان. ودان المفوّض العام للأونروا فيليب لازاريني التشريع الإسرائيلي معتبرًا أنّه أمرٌ شائن ويشكّل سابقةً خطيرة تؤدّي إلى تعميق معاناة الفلسطينيين، وصرّح أنّ الوكالة تتعرضّ لاعتداءات حسّية وسياسية وعملانية وصلت إلى حد عدم قدرتها على ممارسة مهامها من دون تدخّل من قبل الجمعية العامّة للأمم المتحدّة.
وفيما أجمع المجتمع الدولي بأبرز مكوّناته على عدم قانونية هذا التشريع مطالبًا إسرائيل بالرجوع عنه، لم يترجم ذلك بعد في العمل جديًّا لاتّخاذ إجراءات عقابية بحق إسرائيل، من ضمنها تعليق عضويتها في الجمعية العامّة للأمم المتحدّة.
مخالفة صارخة للقانون الدولي
شكّل هذا التشريع سابقة حيث تحظر دولة التعامل مع وكالة أممية، فيما يشكّل مخالفة صارخة لميثاق الأمم المتحدّة والاتفاقية المتعلّقة بامتيازات الأمم المتحدة وحصانتها. وكانت الأونروا قد تأسّست بموجب قرار من الجمعية العامّة للأمم المتحدّة في العام 1949 على إثر النكبة الفلسطينية، وهي المؤتمنة على حفظ سجلّات اللاجئين الفلسطينيين لضمان حقوقهم، كما تقدّم اليوم المساعدة والحماية والمناصرة لأكثر من خمسة ملايين وتسعمائة ألف (5.9 مليون) لاجئ فلسطيني في فلسطين المحتلّة ولبنان والأردن وسوريا.
كما أنّه يخالف عددًا من قرارات مجلس الأمن والجمعية العامّة للأمم المتحدة وموجبات إسرائيل تجاه المجتمع الدولي وموجباتها كسلطة احتلال. وقد أكّد مكتب لجنة حقوق الفلسطينيين في الجمعية العامّة للأمم المتحدّة التي تضمّ 25 دولة، أنّ التشريع غير شرعي كون إسرائيل لا تتمتع بصلاحيات سيادية على الأراضي الفلسطينية المحتلّة، فهو يعتبر غير قانوني مثله مثل الاحتلال الذي يتوجّب إنهاؤه تطبيقًا لقرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة في تاريخ 18 أيلول 2024 وهو القرار الصادر تبعًا للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول عدم قانونية الاحتلال. كذلك أكّد سفير فلسطين في لندن أنّه لا صلاحية لإسرائيل لمنع أعمال الأونروا على الأراضي الفلسطينية.
استمرار لحرب الإبادة
يأتي هذا التشريع في سياق الحملة الإسرائيلية المستمرّة ضدّ الأونروا والتي شهدت ذروتها في الحرب التي شنّتها إسرائيل على الوكالة كجزء من مخطط الإبادة في غزة، وصلت إلى حد إعلان عدد من الدول عن وقف تمويلها للأونروا في اليوم نفسه لصدور قرار محكمة العدل بالتدابير العاجلة في دعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل في كانون الثاني 2024. ومن المتوقع أن يكون لهذا التشريع أثر كبير على وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة في ظلّ تقويض إسرئيل لمقوّمات الحياة فيها، نظرًا للدور الأساسي الذي تقوم به الأونروا في تقديم المأوى والغذاء والطبابة للفلسطينيين من ضحايا الإبادة الجماعية.
وقد دانت ثلاثة مؤسسات حقوقية فلسطينية هي المركز الفلسطيني، ومركز الميزان، ومؤسسة الحق، إقرار هذا التشريع الإسرائيلي معتبرة أنّه يأتي في ذيل سلسلة طويلة من الإجراءات والحملات المنظمة التي تقوم بها دولة الاحتلال الإسرائيلي على مدى سنوات لنزع الشرعية عن الأونروا وتقويض عملها لشطب وجودها كمقدّمة لإنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم غير القابل للتصرّف في العودة.
كذلك اعتبرت منظمة “عدالة” المدافعة عن حقوق العرب في إسرائيل أنّ التشريع لا ينتهك ميثاق الأمم المتحدّة فحسب، بل يُخالف أيضًا الأوامر القضائية الصادرة عن محكمة العدل الدولية في إطار دعوى الإبادة الجماعية المقامة من جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل المتعلقّة بضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، نظرًا لاعتماد الأونروا الكبير على التنسيق مع السلطات الإسرائيلية للقيام بأعمالها في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. وكانت المحكمة قد أمرت إسرائيل باتخاذ تدابير فورية وفعّالة لتوفير الخدمات الأساسية الملحّة وتقديم المساعدة الإنسانية بشكل عاجل للتصدّي للظروف السّيئة التي يواجهها الفلسطينيون في غزة. وعليه، يأتي هذا التشريع ليدحض الحجّة التي كانت استخدمتها إسرائيل أمام المحكمة لنفي تهمة الإبادة عنها، والقائمة على تسهيلها لعمل المؤسسات الدولية بإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
إدانة دولية واسعة
على الصعيد الدولي، أجمعت ردود الفعل على إدانة هذا التشريع والتنبيه من مخاطره. فقد حذّر أعضاء مجلس الأمن في الأمم المتحدة في بيان صحافي من أي محاولات لتفكيك عمليات الأونروا أو تقليصها أو تقويضها، معربين عن قلقهم البالغ إزاء التشريع الذي تبنّاه الكنيست. كما دعا الأمين العام للأمم المتحدّة أنطونيو غوتيريش إسرائيل إلى العمل بموجب التزاماتها تحت ميثاق الأمم المتحدة، موضحًا أنّه لا يمكن للتشريع الوطني أن يغيّر هذه الالتزامات.
على الصعيد الإقليمي، دان مجلس الاتحاد الأوروبي المكوّن من 27 دولة محاولة فسخ اتفاقية العام 1967 بين إسرائيل والأونروا وإعاقة قدرة هذه الأخيرة على القيام بعملها، مشدّدًا على ضرورة المحافظة عليها طالما لم يتم إيجاد حلّ مستدام للنزاع. بدوره، اعتبر الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أنّ مستقبل الأونروا هو امتحان لإنسانيّتنا، وأنّ تفكيكها سيكون كارثيًا، فبدونها سيفقد ملايين الفلسطينيين ما تبقّى لهم من وصول إلى الغذاء والمياه والدواء والتعليم. في المقابل، وصفت جامعة الدول العربية التشريع الإسرائيلي بأنّه باطل وجزء من حملة الاستهداف الممنهج للوكالة واستمرار لمساعيها لاغتيال الوكالة سياسيًا، ومحاولة مرفوضة لطمس قضية اللاجئين الفلسطينيين، وطالبت بقرار أممي مضاد له.
ومن جانبها، أصدرت حكومات دول إيرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا التي سبق أن اعترفت بدولة فلسطين، بيانًا مشتركًا اعتبرت فيه أنّ عمل الوكالة ضروري ولا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لملايين الفلسطينيين، بخاصّة في الوضع الحالي في غزة. وأكّدت أنّها ستواصل العمل مع الدول المانحة والمضيفة لضمان استمرارية عمل الأونروا ودورها الإنساني. بينما أعرب وزراء خارجية كندا وأستراليا وفرنسا وألمانيا واليابان وجمهورية كوريا والمملكة المتحدة عن قلقهم إزاء التشريع الإسرائيلي الذي يهدف إلى إلغاء امتيازات وحصانات الأونروا. بدوره، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر إنّ تنفيذ هذا التشريع قد يؤدي إلى عواقب وفقًا للقانون والسياسة الأميركية، وإنّ بلاده تشعر بالقلق إزاء هذا التشريع وتعارضه. وتعليقًا على التشريع اعتبرت النرويج أنّه يقوّض استقرار الشرق الأوسط بأكمله، وأعلنت أنّها ستقدّم مشروع قرار إلى الجمعية العامّة للأمم المتحدة يطلب من محكمة العدل الدولية إبداء رأي استشاري بشأن التزامات إسرائيل كقوّة احتلال لتسهيل المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني.