بالرغم من الانتقادات القاسية لمشروع قانون الجرائم الإلكترونية في الأردن، فقد تمّ إقراره من السلطة التشريعية ونشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 13 آب 2023 ليحمل رقم17 لسنة 2023 ويعمل به بعد ثلاثين يوما. وقد سبق للمفكرة القانونية أن تناولت أبرز الانتقادات لهذا القانون خاصة فيما يتعلق بالغرامات المرتفعة وإمكانية تعطيل مواقع التواصل الاجتماعية وجعل صاحب الموقع المعني مسؤولا عن محتواه. وفي الوقت الذي تصرّ فيه الحكومة على أن القانون لا يهدف إلى تقييد الحريات وقمع المعارضة، وإنما إلى معالجة “المعلومات المضلّلة” و”خطاب الكراهية” و”التشهير عبر الإنترنت”، يرى النشطاء والخبراء أنه يُقوّض الحريّات ويُحصّن الحكومة من الانتقاد ويضع ضوابط جديدة على وسائل التواصل الاجتماعي.
تزامنا مع إقرار القانون الجديد، لفتتْ قضيّة السياسي والإعلامي خالد تركي المجالي الأنظار كمثال على إمكانية التجريم بموجب قانون الجرائم الإلكترونية لسنة 2015، وبما أن هناك تشابها بين قانون الجرائم الإلكترونية لسنة 2015 مع القانون الجديد، باستثناء تغليظ العقوبة، نعرض للأحكام الصادرة في هذه القضية كمؤشر لتطبيقات مستقبلية محتملة.
وقائع القضية
تم إحالة السيد خالد المجالي إلى محكمة صلح جزاء عمان بسبب منشور على مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) بالتزامن مع إضراب سائقي الشاحنات في الأردن بسبب رفع أسعار المحروقات. ومن ضمن ما جاء في هذا المنشور “سؤال لكل مواطن أردني يعاني من قرارات الحكومة ماذا تفعل أنت من أجل أولادك الناس ألا تتذمر … أدعو أخواننا المتقاعدين العسكريين ايضا إلى المساندة والدعم لإخوانهم كلنا في الهوى سوى مطلبنا واحد لا تتركوهم لوحدهم … وأدعو الإعلام الوطني الحرّ للتغطية والمشاركة كلنا الوطن كلنا الشعب ،،، تحويل الإضراب لتسكير الطرق أو أعمال شغب الهدف منه إنهاء الإضراب دون تحقيق مطالب الشعب. الحذر الحذر من المندسّين … متوقع قطع النت في بعض مناطق المملكة الليلة … الحكومة بتتخوت على الشعب تأجيل القروض ومعونة الشتاء والأفلام مسخة لا بديل عن تخفيض حقيقي لكل المحروقات وحكومة إنقاذ وطني يكفي مسخرة ومهزلة الشعب لن يتراجع بعد اليوم …”
واعتمادا على هذا المنشور، تمّ إسناد الجرائم التالية:
- جنحة إثارة النعرات العنصرية خلافا لأحكام المادة 150[1] من قانون العقوبات وبدلالة المادة 15[2] من قانون الجرائم الإلكترونية،
- جنحة التحريض على التجمهر غير المشروع وفقا لأحكام المادة (165 و80/1)[3] من قانون العقوبات وبدلالة المادة 15 من قانون الجرائم الإلكترونية.
- جنحة ذمّ هيئة رسمية بحدود المادة 191[4] من قانون العقوبات وبدلالة المادة 15 من الجرائم الإلكترونية.
- جنحة إذاعة أنباء كاذبة من شأنها أن تنال من هيبة الدولة ومكانتها بحدود المادة 132/1[5] من قانون العقوبات.
وبالنتيجة وجدت محكمة الصلح بموجب قرارها رقم 2237/2023، ما يلي:
أولا: الفعل لا يشكل إثارة للنعرات العنصرية على اعتبار أن هذا الجرم المسند هو من الجرائم القصدية والتي تتطلب حدوث نتيجة للفعل المجرم، والنيابة العامة لم تقدم أي بينة تثبت أن قصد المشتكى عليه من نشر المنشورات على حسابه على الفيس بوك كان بقصد تعكير الصفاء بين عناصر الأمه أو إثارة النعرات العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة وكذلك لم ينتج عنها أي إثارة للنعرات المذهبية أو العنصرية.
ثانيا: عدم المسؤولية عن جرم التحريض على التجمهر غير المشروع، حيث تؤكد المحكمة أنه صدر نشاط إيجابي من قبل المشتكى عليه وهو الدعوة إلى التجمهر غير المشروع في مختلف مناطق المملكة، إلا أن المحكمة تجد أن المشرع قد حدد الوسائل التي يجب أن يقع فيها التحريض حتى يكون معاقباً عليه وهي وسائل محددة على سبيل الحصر في المادة 80/1/أ من قانون العقوبات والتي جاء فيها “يعد محرضا من حمل أو حاول أن يحمل شخصا آخر على ارتكاب جريمة بإعطائه نقودا أو بتقديم هدية له أو بالتأثير عليه بالتهديد أو بالحيلة والخديعة أو باستغلال النفوذ أو بإساءة الاستعمال في حكم الوظيفة”.
ثالثا: عدم المسؤولية عن جنحة ذم هيئه رسمية، حيث قررت المحكمة أن العبارات الواردة في المنشور لم تطلْ أية جهة او مؤسسة رسمية أو عامة، ولم تقدم النيابة العامّة أيّ بينة اخرى تربط المشتكى عليه بالجرم المسند إليه مما يتعين معه إعلان عدم مسؤولية المشتكى عليه عن هذا الجرم.
رابعا: عدم المسؤولية عن جنحة نشر أنباء مبالغ فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة، حيث أوضحت المحكمة أن من أركان هذه الجريمة أن تتمّ إذا تمّ إذاعة هذه الأنباء من قبل أردني وهو خارج الأردن، وهو الأمر الذي لم تثبته النيابة العامة.
لم يرتضِ النائب العام بهذا الحكم فطعن به استئنافا أمام محكمة بداية عمان. وبحسب الحكم رقم 1853/2023 أيدت المحكمة قرار محكمة الصلح فيما يتعلق بعدم مسؤولية السيد خالد المجالي عن إثارة النعرات الطائفية، التحريض على التجمهر غير المشروع، ونشر أنباء مبالغ فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة، إلا أنها قررت إدانته بجرم ذم هيئة رسمية.
ويلاحظ أن محكمة البداية بصفتها الاستئنافية وسّعت الاقتباس من المنشور لتشمل عبارات لم يرد ذكرها في قرار محكمة الصلح، وهي “أدعو الشعب الأردني ودعماً لإخواننا في كل المواقع الصابرين على الظلم والقهر. أدعوكم لوقف سياراتكم الخاصة يوم السبت القادم كبداية لتصعيد شامل في حال عدم تجاوب الحكومة مع مطالب الشعب ورسالة لصاحب القرار بضرورة تكليف حكومة إنقاذ وطني وإقالة الحكومة الحاليّة لا تتركوا أخوانكم وتنتظروا نتائج تضحياتكم وأنتم عاجزين عن أبسط المواقف …دعوة صف سيارتك” و”أدعو الشعب الأردني إلى أولاً إعلان مجلس إنقاذ وطني. ثانياً طرد الحكومة وليس إقالتها. ثالثاً: عدم الاعتراف بأي قرارات حكومية”.
واعتمادا على العبارات السابقة، وجدت المحكمة أن المستأنف ضدّه قصد بها إساءة واضحة واستهزاء بالحكومة وبيان عدم جديتها في التعامل مع الأمور والقضايا التي تهمّ الشعب، وهذا وصْف لا يليق. وكذلك فإنّ كلمة “طرد” مرفوضة اجتماعيًّا، إذ إنّ فيه إهانة لاذِعة. فإذا طرد شخص ما شخصًا آخر من بيته أو مكتبه، فهو بذلك يكون قد أهانه إهانة شديدة، حتّى أنّ بعض الناس إذا أراد التلطُّف في العبارة لبيان حسن نيته قال:”اخرج من غير مطرود”. كما علقت المحكمة على كلمة “إقالة” واعتبرتها تجاوزا لكلّ الحدود وكأن المستأنف ضده صاحب سلطة اتخاذ قرار من تلقاء نفسه دون وضع اعتبار للسلطة العليا. وقرّرت المحكمة أن المستأنف ضده قام بإسناد كلامه إلى جهة محدّدة بعينها وهي الحكومة وهي هيئة رسمية.
وفيما يتعلق بعلانية الإسناد، جاء في القرار:ـ “… وحيث أن المستأنف ضده قام بنشر هذه العبارات للعامة على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك وقد حصل على (205) إعجاب و(41) كومنت (تعليق) ومشاركة واحدة فيما يتعلق بمنشور(الحكومة بتتخوث على الشعب) وعلى (239) إعجاب و(44) كومنت فيما يتعلق بمنشور (طرد الحكومة) مما يحقق معه علانية الإسناد”.
وبالنتيجة قررت المحكمة إدانة المستأنف ضده خالد تركي المجالي بجرم ذم هيئة رسمية بحدود المادة (191) من قانون العقوبات وبدلالة المادة (15) من قانون الجرائم الالكترونية وعملاً بأحكام المادة ذاتها الحكم عليه بالحبس لمدة ثلاثة أشهر والرسوم وتأييد القرار المستأنف فيما عدا ذلك. مع العلم أنه بحسب القانون الجديد، فإن العقوبة على هذا الجرم ستكون بالحبس مدة لا تقلّ عن ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تقل عن (5000) خمسة آلاف دينار ولا تزيد على (20000) عشرين ألف دينار أو بكلتا هاتين العقوبتين[6].
ملاحظات على قرار الإدانة
واعتمادا على القرار السابق، تسجّل الاستنتاجات التالية:
أولا: هناك تشدد في انتقاد الهيئات الرسمية، بخلاف ما جاء في المعايير الدولية الخاصة بالحق في حرية التعبير؛ فنجد أن لجنة حقوق الانسان المنشأة بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تظهر تسامحا في انتقاد المسؤولين أو الهيئات الرسمية بخلاف الأشخاص العاديين بسبب استعداد السياسيين والمسؤولين للعمل في المجال العام، فإنهم يضعون أنفسهم طوعًا في دائرة الضوء، وبالتالي يحتاجون إلى تحمل المزيد من الانتقادات، خاصة في إطار النقاشات الشفافة للمواضيع السياسية. مع العلم أن هذا التسامح مع انتقاد الجهات الحكومية لم يتمّ النص عليه صراحة، بل تولّد من اجتهادات المحكمة الأوروبية واللجان شبه القضائية المعنية بحرية الرأي والتعبير.
ثانيا: التفاعل مع منشور معين على مواقع التواصل الاجتماعي مثل عدد الاعجابات، المشاركات والتعليقات دليل على تحقق شرط العلانية في جرائم الذم.
ثالثا: قررت محكمة البداية أن كلمة الحكومة كلمة محددة، في حين وجدت محكمة الصلح أن هذه العبارة عامة وغير مقصود بها هيئة بعينها، الأمر الذي يستدلّ منه أن النقد هنا يدخل ضمن نقد سياسي مشروع للإدارة العامة للبلاد ككل.
رابعا: نصّ قانون العقوبات 191 هو أساس التجريم في القضية أعلاه وليس قانون الجرائم الإلكترونية؛ فالمادة 15 من القانون الأخير تؤكد على أن كلّ من ارتكب أيّ جريمة معاقب عليها بموجب أي تشريع نافذ باستخدام الشبكة المعلوماتية أو أي نظام معلومات أو موقع إلكتروني أو اشترك أو تدخّل أو حرّض على ارتكابها يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في ذلك التشريع، إلا أن القانون الجديد جعل من الذم والقدح والتحقير عن طريق الشبكة المعلوماتية جريمة جديدة مستقلة عن النص الوارد في قانون العقوبات، بمعنى أن مرتكب الفعل سيكون أمام تعداد معنوي للجرم الواحد. هناك العديد من المصطلحات الواردة في القانون الجديد يمكن التوسع في تفسيرها وبالتالي توسيع دائرة التجريم مثل اغتيال الشخصية الواردة في المادة 16، التعرض للآداب العامة في المادة 14، استهداف السلم المجتمعي في المادة 17، وغيرها من المصطلحات.
خامسا: لم يشر إلى المعايير الدولية الخاصة بحرية التعبير بالرغم من استقرار القضاء الأردني على منح الاتفاقيات الدولية قيمة قانونية تعلو على القوانين الوطنية. ويبدو من القرار انه لم يتم إثارة هذا الدفع في القضية. على الصعيد الدولي، يسمح العهد الدولي الخاص بالحقوق والحريات للدول بتقييد حرية التعبير من خلال القانون لحماية سمعة الآخرين، لكن بعد توفر ثلاثة شروط، وهي النص على ذلك بوضوح في القانون، بهدف تحقيق أحد الأهداف المشروعة الواردة في المادة 19/3 من العهد، وأن تكون متناسبة مع تحقيق هذا الهدف وضرورية لتحقيقه. في حين أن الدستور سمح بتقيد هذا الحق من خلال القانون فقط. وفيما يتعلق بانتقاد المسؤولين الحكوميين والشخصيات العامة، تؤكد لجنة حقوق الانسان أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يُعطي أهمية استثنائية لضمان حرية التعبير غير المقيدة، وأن اعتبار أشكال التعبير المُهينة للشخصيات العامة لا يكفي لتبرير فرض عقوبات، وبالتالي يخضعون للنقد والمعارضة السياسية حتى لو كان ذلك التعبير عن آراء قد تكون مهينة للغاية[7]. وقد سبق للجنة حقوق الانسان أن انتقدت الأردن بهذا الخصوص وقدمت توصية بضرورة مراجعة التشريعات الوطنية لضمان ألا تُطبق عقوبات جنائية على الأشخاص الذين يعربون عن آراء انتقادية[8].
[1] تنص المادة 150 من قانون العقوبات الأردني على ” كل كتابة وكل خطاب او عمل يقصد منه او ينتج عنه اثارة النعرات المذهبية او العنصرية او الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الامة يعاقب عليه بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد على مئتي دينار”
[2] تنص المادة 15 من قانون الجرائم الالكترونية لسنة 2015 على ” كل من ارتكب أي جريمة معاقب عليها بموجب أي تشريع نافذ باستخدام الشبكة المعلوماتية او أي نظام معلومات او موقع الكتروني او اشترك او تدخل او حرض على ارتكابها يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في ذلك التشريع”
[3] تنص المادة 165 من قانون العقوبات الأردني لسنة 1960 على ” كل من اشترك في تجمهر غير مشروع، عوقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة او بغرامة لا تزيد على خمسة وعشرين دينارا او بكلتا العقوبتين معا”. تنص المادة 80/1 من ذات القانون على ” يعد محرضا من حمل او حاول ان يحمل شخصا آخر على ارتكاب جريمة بإعطائه نقودا او بتقديم هدية له او بالتأثير عليه بالتهديد او بالحيلة والخديعة او باستغلال النفوذ او بإساءة الاستعمال في حكم الوظيفة.”
[4] تنص المادة 191 من قانون العقوبات الأردني لسنة 1960 على ” يعاقب على الذم بالحبس من ثلاثة اشهر الى سنتين اذا كان موجها الى مجلس الامة او احد اعضائه اثناء عمله او بسبب ما اجراه بحكم عمله او الى احدى الهيئات الرسمية او المحاكم او الادارات العامة او الجيش او الى اي موظف اثناء قيامه بوظيفته او بسبب ما اجراه بحكمها”
[5] تنص المادة 132/1 من قانون العقوبات الأردني على ” كل اردني يذيع في الخارج وهو على بينة من الامر انباء كاذبة او مبالغ فيها من شانها ان تنال من هيبة الدولة او مكانتها ، يعاقب بالحبس مدة لا تنقص عن ستة اشهر وبغرامة لا تزيد على خمسين دينارا”
[6] المادة 15 من قانون الجرائم الالكترونية رقم 17 لسنة 2023
[7] لجنة حقوق الانسان، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الدورة التاسعة عشرة ، 1983، التعليق العام رقم 10 – المادة 19
[8] Human Rights Committee, Concluding observations on the fifth periodic report of Jordan, CCPR/C/JOR/CO/5, 2017, paragraph 31.