أصدرت محكمة الجنايات في باريس حكمًا غيابيًا في 24/5/2024، أدانت بموجبه ثلاثة من كبار الأمنيين في النظام السوري بتهمة التواطؤ في جرائم ضدّ الإنسانيّة وجرائم حرب، بعدما تثبّتت من انتهاج ممارسات الإخفاء القسري وأعمال التعذيب. والمحكوم عليهم الثلاثة هم: علي مملوك، مدير الأمن الوطني السابق، وجميل الحسن، رئيس المخابرات الجوية السابق، وعبد السلام محمود، رئيس فرع التحقيق التابع لجهاز المخابرات الجوية السورية في مطار المزّة العسكري. وهذه المحاكمة هي الأولى من نوعها في فرنسا، والأولى التي تطال مسؤولين بهذا المستوى في النظام السوري وتندرج ضمن سلسلة من قضايا تقودها روابط أهالي الضحايا السوريين بالتعاون مع منظمات حقوقية سورية ودولية، في عدد من البلدان الأوروبية. وإذ رأت المحكمة أنّ المسؤولين الثلاثة لعبوا دورًا محوريًّا نظرًا لمواقعهم في الهرم العسكري، في الإخفاء القسري لكلّ من مازن الدبّاغ وابنه باتريك، فإنّها حكمتْ عليهم بالسّجن مدى الحياة، مع تمديد مفعول مذكّرات الاعتقال الدولية الصادرة في حقهم.
مأساة “عائلة الدبّاغ”
في 13 تشرين الثاني 2013، قبيْل منتصف الليل، وفق ما جاء في الحكم، اعتقل الطالب السوري – الفرنسي باتريك عبد القادر الدبّاغ في منزل عائلته في دمشق، على يد عناصر من جهاز المخابرات الجويّة، وتمّ تفتيش المنزل ومصادرة عدد من الهواتف والكمبيوترات ومبلغ مالي. في اليوم التالي، حضرت عناصر من الجهاز نفسه إلى المنزل واعتقلت الأب مازن الدبّاغ (مواطن سوري – فرنسي)، المستشار في المدرسة الفرنسية في دمشق، وصادروا سيارة العائلة، كما اعتقلت وسام ناصر صهر مازن. وقد نقل الجميع إلى سجن مطار المزّة الذي تصنّفه اللجنة الدولية لتقصّي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، كأحد مراكز الاعتقال التي شهدت أعلى معدل وفيات. وقد أُطلق سراح ناصر بعد يومين، ما جعله أحدّ أهمّ الشهود في هذه القضية.
يصف ناصر، بحسب الحكم، في شهادته وقوف الثلاثة مدّة 14 ساعة في ممرّ ضيّق داخل السجن “ورؤوسهم منحنية وأياديهم مكبّلة خلف ظهورهم”، وقد وجدوا باتريك الذي اعتقل قبل يوم و”علامات التعذيب ظاهرة على عنقه وجسده”. وروى ناصر للمحكمة أنّه بعد تفريقهم وقبيل إطلاق سراحه، سمع مازن يصرخ في زنزانته: “أنا أختنق، أنا أختنق، أخرجوني من هنا”.
بعد فترة من اعتقال باتريك ومازن، انقطعت أخبارهما إلى أنْ طلب شخص من العائلة بعد أشهر دفع 15000 دولار لقاء معرفة مصيرهما ونقلهما إلى سجن مدني. دفعت زوجة مازن المبلغ ليطلب الشخص منها مجدّدًا مبلغًا مماثلًا مقابل حصولها على شهادتي وفاة ابنها وزوجها. وبعد سنوات وتحديدًا في تموز 2018، أصدرت السلطات السورية شهادتي وفاة لهما في خطوة باتت تُعرف بـ “توْفية المفقودين”. وقد ورد في الشهادتين أنّ باتريك توفّي في كانون الثاني 2014 فيما توفّي مازن في تشرين الثاني 2017، من دون أن يحدّد مكان الوفاة أو أسبابها ومن دون أن تتسلّم العائلة جثمانيهما. هذا ولم تنتهِ مأساة العائلة هنا، بل ذهب النظام إلى حد الحجز على كامل ممتلكات مازن ومن ضمنها منزل العائلة، ليتمّ طرد الأخيرة بالقوّة العسكريّة من المنزل. كما أعلنت دائرة السجلّ العقاري في 2021، أنّ الجمهورية السورية هي المالكة للأصول العقارية لمازن الدبّاغ. واللافت أنّ المنزل نفسه تمّ تأجيره من قبل السلطات السورية لصالح المخابرات الجويّة، وهو الجهاز الذي اعتقل مازن وابنه.
الصلاحية القضائية الشاملة للنظر في الجرائم ضدّ الإنسانية
على الرغم من فظاعة الجرائم المرتكبة في سوريا منذ العام 2011 والعدد الهائل من المفقودين والمخفيين قسرًا وممارسات التعذيب والقتل، وجد الضحايا وذووهم أنفسهم أمام سبل محدودة للوصول إلى العدالة نظرًا لغياب آليات المساءلة ليس فقط وطنيًا بل دوليًا أيضًا. فالجمهورية السورية لم تصادق على نظام روما الأساسي الذي أنشئت بموجبه محكمة الجنايات الدولية المختصّة في محاكمة الجرائم ضدّ الإنسانية، ممّا يعيق اللجوء إليها. ولئن حاولت مجموعات الضحايا، لتجاوز هذه العقبة، استصدار قرار من مجلس الأمن بإحالة القضية السورية إلى هذه المحكمة، فإنّها اصطدمت بالفيتويَين الروسي والصيني تكرارًا.
وعليه، بحثت روابط الضحايا عن مجالات لمقاضاة مسؤولي النظام السوري أمام محاكم وطنية أوروبية بالاستناد إلى حيازة الضحايا جنسية أوروبية أو أيضًا بالاستناد إلى مبدأ الصلاحية القضائية الشاملة للنظر في جرائم التعذيب والجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب. ومن هنا، كانت حالة باتريك ومازن الدبّاغ نموذجية للتقاضي بفعل جسامة الجريمة المرتكبة في حقّهما وأيضًا لحيازتهما الجنسيّة الفرنسية.
على هذا الأساس، تقدّم عبيدة الدبّاغ، شقيق وعم الضحيتيّن، في تشرين الأوّل من العام 2016، بالاشتراك مع منظمات حقوقية عدّة[1] بشكوى أمام القضاء الفرنسي حول اعتقال مازن وباتريك الدبّاغ واختفائهما قسرًا. تبعًا لذلك، باشرتْ وحدة جرائم الحرب الفرنسية (وهي وحدة تمّ إنشاؤها عام 2012 بهدف التحقيق ومحاكمة مرتكبي الجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب الدولية) ابتداءً من العام 2018 تحقيقاتها القضائيّة. وفي آذار 2023 تمّ توجيه لائحة اتهام بالتواطؤ في جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب إلى الضباط الثلاثة، وبضلوعهم في قتل باتريك ومازن الدبّاغ تحت التعذيب وصولًا إلى إحالة القضية إلى المحكمة الجنائية في باريس التي أصدرت الحكم الراهن غيابيًا. وقد صدر الحكم بعد أربعة أيام من الاستماع إلى شهادات الخبراء والمحامين والأطراف المدنيين في الدعوى وعائلة مازن وباتريك، فضلًا عن الاستماع إلى 23 شاهدًا في القضية، من بينهم فارّون من الجيش السوري ومعتقلون سابقون ناجون من مركز الاحتجاز الذي احتجز فيه مازن وباتريك أو ممّن واجهوا شخصيَّا أحد المسؤولين المتّهمين في القضية.
محاكمة “الجريمة الشاملة”
ولئن شكّل غياب المتهمين عن المحاكمة وصعوبة تنفيذ الحكم الصادر في حقهم حائلًا دون اعتبار الحكم تحقيقًا فعليًّا للعدالة أو إنصافًا للضحايا، يبقى أنّ أهميّة هذه المحاكمة وما وصلت إليه تكمن في كونها تعدّت ظروف القضية لتطال ممارسات النظام الحاكم في سوريا بعد 2011. فقد سعتْ المحكمة إلى التعويض عن النقص في الأدلّة المتّصلة بكيفية التعامل مع الضحيّتيْن باتريك ومازن قبل تَوْفيتهما بما توفّر لديها من إثباتات حول وضعية الأشخاص الذين تواجدوا في تلك الفترة في مراكز اعتقال مشابهة. بمعنى أنّ المحكمة سعت إلى استكمال أدلّتها بشأن الجرائم المدّعى بها من خلال التثبّت من الجرائم التي انتهج المسؤولون في النظام السوري ارتكابها ضدّ أشخاص تواجدوا في وضعية مماثلة. من هذه الزاوية، تعدّت المحاكمة كونها محاكمة في جريمة مرتكبة من ثلاثة ضبّاط ضدّ شخصين، لتأخذ طابع محاكمة لنهجم الحكم المعتمد في سوريا برمّته. ولعلّ أهمّ ما يؤشّر إلى ذلك هو الخلاصة التي توصّلت إليها المحكمة تبعًا لما استمعت إليه من شهادات أو ما استندت إليه من تحقيقات أجرتها هيئات أممية وحقوقية[2] لجهة تيقّنها من وجود مخطّط معتمد من أعلى هرم الدولة ومطبّق بصورة منتظمة وجماعية على مختلف مستويات السلسلة الإدارية والعسكرية.
وأوّل ما توقّفت عنده المحكمة في هذا الخصوص هو تعسّف السلطات السوريّة في اعتقال المعارضين منذ آذار 2011 في “إطار تنفيذ خطّة منسّقة ومشتركة للتصدّي لأيّ شكل من المعارضة الحقيقية أو المفترضة بهدف إرساء مناخ من الرعب بين المواطنين” فضلًا عن شروط الاعتقال. وعليه لحظت المحكمة حرمان المعتقلين من اللجوء إلى الوسائل القانونية وإلى القضاء خلال فترات اعتقالهم، عدا عن عدم إعطاء أية معلومات لعائلاتهم عن أماكنهم أو التهم المنسوبة إليهم أو حتى عن أسباب اعتقالهم أو مدة الحبس المتوقعة. هذا وقد بيّن الحكم، استنادًا لشهادات الناجين، الظروف الصعبة في مراكز الاحتجاز، واصفًا إيّاها بأنّها “تنتهك بشكل خطير الحقوق الأساسية وكرامة الإنسان”، ويواجه فيها السجناء “معاملة لا إنسانية ومهينة بشكل منهجيّ، واستخدامًا واسع النطاق للتعذيب”. وقد توسّع الحكم في وصف ظروف الاحتجاز في المراكز الضيّقة واكتظاظِها، ما أجبر المعتقلين على البقاء واقفين معظم الوقت، عدا عن تقييد وصولهم إلى المرافق الصحية والغذاء والطبابة في ظلّ وحشية وإذلال يوميّين (تقييد، عصب الأعين، تعرية، واغتصاب).
وخلص الحكم إلى أنّ التعذيب مُمَأْسس في النظام السوري، وقد سبّب في معظم الأحيان أضرارًا جسدية ونفسية شديدة قد تؤدّي إلى الموت. هذا وقد استعانت المحكمة بما يعرف بـ “صور قيصر” المقدّمة إلى المحكمة، وهي عبارة عن عشرات آلاف الصور التي سرّبها عسكري منشقّ لضحايا التعذيب من المدنيين السوريين واعتمدت عليها لجنة التحقيق الدولية المكلّفة البحث في جرائم الحرب في سوريا لإثبات حصول فظاعات على يد السلطات السورية. وعليه، رأت المحكمة أنّ التعذيب الممارس من النظام السوري وظروف الاعتقال أدّت إلى موت أعداد كبيرة من المحتجزين، لتخلص إلى تأكيد حصول وفاتهما حتمًا بفعل التعذيب.
أخيرًا، بيّن الحكم أنّ النظام السوري انتهج سياسة مصادرة الممتلكات التابعة للأشخاص المخفيين والمعتقلين والمحكومين. وبالتالي اعتبر أنّ الاستيلاء على ممتلكات مازن الدبّاغ هو جزء من ممارسة واسعة قامت السلطات السورية بإضفاء طابع مؤسّساتي عليها.
للاطلاع على نص الحكم في قضية الدبّاغ
نشر هذا المقال في العدد 73 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
[1] الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان (FIDH) والرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان (LDH)، وبدعم من المركز السوري للإعلام وحرّية التعبير (SCM).
[2] في مقدّمتها “الآلية الدولية المحايدة والمستقلّة المختصّة بجمع الملفات المتعلّقة بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في سوريا” (IIIM)، و”لجنة العدالة والمساءلة الدولية” (CIJA)، و”لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالجمهورية العربية السورية”، و”المركز السّوري للإعلام وحرية التعبير”، و”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.