في تاريخ 4 كانون الأوّل 2024، أصدرت محكمة الجنايات في جبل لبنان حكمها في قضية حضانة Garderêve التي أثارت غضب الرأي العام في تموز 2023 مع انتشار تسجيلات مصوّرة وصوتيّة على مواقع التواصل الاجتماعي تُظهر مُربية وهي تتعامل بعنف مع الأطفال في الحضانة كحشر الطعام في أفواههم وضربهم.، وأدان الحكم المتّهمات الثلاث (هنّ المربية ومالكة الحضانة وموظفة التنظيف)، بجناية محاولة القتل المبنية على القصد الاحتمالي والتدخّل فيها وجنحتي الإيذاء المشدّدة والقدح، وحكمت عليهنّ بالسجن بين ثلاث وأربع سنوات وبدفع تعويضات لأهالي الأطفال المدّعين. صدر الحكم عن المحكمة برئاسة القاضي ربيع الحُسامي بالتكليف وعضويّة المستشارتين القاضيتين سارة بريش وآنّا منصور بالتكليف، إلّا أنّ رئيس المحكمة، القاضي الحُسامي، خالف رأي أكثرية المحكمة، معتبرًا أنّ الأفعال المرتكبة تشكّل جنحة الإيذاء وليس جناية محاولة القتل. ولاقى الحكم ترحيبًا من الأهالي المدّعين الذين اعتبروا أنّه يحقق العدالة لأطفالهم ويشكّل رادعًا اجتماعيًا ضدّ العنف الموجّه ضدّ الأطفال.
استعادة لأبرز أحداث القضية
بدأت هذه القضية قبل عام ونُصف العام، في 10 تمّوز 2023 حين انكشفت فضيحة تعرّض أطفال رُضّع وأطفال صغار دون الثلاث سنوات لسوء معاملة وتعنيف داخل دار حضانة Garderêve في جديدة المتن. انكشفت القضية بداية حين أبلغت الموظفة جومانا بو سعيد والد أحد الأطفال، بيار موسى، بأنّ ابنه، الذي كان يبلغ حينها سنة وثلاثة أشهر، يتعرّض للتعنيف الجسدي واللفظي على يد المربية دجيني الحلو. كما أخبرته جومانا بتعرّض أطفال آخرين للتعنيف، وأرسلت له عدة فيديوهات توثّق قيام دجيني الحلو بتعنيف الأطفال.
على إثر ذلك، تواصل موسى مع أسر الأطفال الذين ظهروا في الفيديوهات، وهم: رودي إبراهيم، والد الطفل دجو، باتريسيا الخوري، والدة الطفل شربل (عامين)، وبيار الهاشم، والد الطفلتين كريستيانا وماريانا.
وسرعان ما انتشرت الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلامية، وأظهرت مشاهد مروّعة تثّبت منها القرار الإتهامي، ووثّقت المربية دجيني الحلو وهي تضرب الأطفال على أنحاء مختلفة من أجسادهم، بما في ذلك الرأس واليدين، وتوجّه لهم الشتائم. كما أظهرت الفيديوهات تعنيف الأطفال أثناء إطعامهم، حيث أجبرتهم دجيني على فتح أفواههم ودس الطعام فيها بالقوّة.
وسلكت القضية مسارًا بدأ لدى محكمة الأحداث التي قرّرت إقفال الحضانة، والنيابة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان التي ادّعت على النساء الثلاث أمام قاضية التحقيق في جبل لبنان رانيا يحفوفي التي أصدرت القرار الظنّي في تاريخ 29 آب 2023. ثمّ سلك الملف طريقه إلى الهيئة الاتهامية التي أصدرت قرارها الاتهامي في 25 تشرين الأول 2023 واتّهمت بموجبه المربية دجيني الحلو بجناية محاولة القتل المبنيّة على القصد احتمالي، وبجنحتي الإيذاء المشدّدة والقدح نظرًا لاستخدام العنف مع الأطفال وإطعامهم بطريقة تعرّضهم للاختناق وتوجيه الشتائم لهم. وكذلك اتهمت عاملة النظافة جومانا بو سعيد، التي وثّقت مقاطع التسجيلات المصوّرة والصوتية على مدى قرابة خمسة أشهر، بجناية محاولة القتل والتدخّل في إيذاء الأطفال. واعتبر القرار أنّها علمت بما يتعرّض له الأطفال وامتنعت عن إغاثتهم بالإضافة إلى الشدّ على عزيمة المربية دجيني لإيذاء الأطفال. كما واتّهم القرار مالكة الحضانة طوني مهنّا بالتدخل في محاولة القتل مع قصد احتمالي وجنحة الإيذاء المشدّدة لعلمها بأفعال دجيني وبخطورة هذه الأفعال وثبوت تعنيفها للأطفال والصراخ عليهم.
المحاكمة العلنية
تابعت “المفكّرة القانونية” مسار المحاكمة العلنية للمتّهمات الثلاث أمام محكمة الجنايات التي عقدت جلستين للنظر في القضية: الأولى في 6 آذار 2024، حيث جرى استجواب المتّهمات، والثانية في 29 نيسان 2024، واختتمت بمرافعات وكلاء الدفاع والمدّعين. وحدّد رئيس محكمة الجنايات بالتكليف القاضي ربيع الحسامي تاريخ 5 حزيران لإصدار الحكم، إلّا أنّ النطق به تأخّر ستة أشهر، ليصدر أخيرًا في 4 كانون الأوّل 2024.
وكانت دجيني الحلو التي عملت في الحضانة لنحو عامين، أفادت خلال التحقيقات وكذلك أمام محكمة الجنايات، بأنّها تعاني من حالة نفسية صعبة بسبب ضغط العمل الناتج عن تولّيها بمفردها رعاية حوالي 20 طفلًا يوميًا، من الساعة السابعة صباحًا حتى الرابعة بعد الظهر. وتبيّن أنّها لا تملك أي شهادة متخصّصة في مجال حضانة الأطفال. وكانت قد أوضحت أنّ مالكة الحضانة طوني مهنا كانت تحضر إلى الحضانة لمدة لا تتجاوز ثلاث ساعات يوميًا. في المقابل، نفت طوني مهنا غيابها اليومي عن الحضانة أو علمها بتعرّض الأطفال لأيّ نوع من التعنيف. وأشارت إلى أنّ الأزمة الاقتصادية حالت دون توظيف عدد كافٍ من العاملين، مما أجبرها على الاعتماد فقط على جومانا بو سعيد ودجيني الحلو لتسيير أمور الحضانة.
أما جومانا بو سعيد، التي عملت كعاملة نظافة في الحضانة لمدة ثمانية أشهر، فقد صرّحت بأنّ مهنا أوكلت إليها، بعد استقالة إحدى الموظفات، مهمة رعاية بعض الأطفال الأصغر سنًا، بينما تُرك الأطفال الأكبر سنًا تحت رعاية دجيني. وكانت قد أكدّت أنّها صوّرت دجيني خلال تعنيفها للأطفال بهدف توثيق هذه الانتهاكات، فيما كان القرار الاتهامي قد اعتبرها متدخلة نظرًا لعدم تدخلها في إنقاذ الأطفال واستمرارها بالتصوير على مدى خمسة أشهر.
وفي إفادتها أمام محكمة الجنايات، أكدت طوني مهنا أنّ الحضانة تضمّ حوالي 20 طفلًا، وأنّ الموظفين الوحيدين هما دجيني الحلو لرعاية الأطفال وجومانا بو سعيد لأعمال النظافة بما في ذلك إدخال الأطفال إلى الحمامات وتنظيفهم. كما تبيّن أنّ الحضانة تفتقر إلى كاميرات مراقبة وممرّضة تعمل بدوام كامل، وهما شرطان أساسيان تفرضهما وزارة الصحة اللبنانية لترخيص الحضانات.
إدانة بمحاولة القتل
أدانت محكمة الجنايات في بعبدا المربية دجيني الحلو بارتكاب ثلاثة جرائم: الأولى هي جناية “القتل المبني على القصد الاحتمالي بالنسبة لتعاملها مع رضيعة أثناء إطعامها”، وذلك سندًا للمادّة 547 معطوفة على المادّتين 201 و189 من قانون العقوبات. واستندت المحكمة إلى تسجيل مصوّر يُظهر دجيني خلال قيامها بـ “إطعام الطفلة بالقوّة بعد ضربها، وما أن أخرجت الرضيعة الطعام من فمها حتّى أقدمت الحلو على إعادة إدخال الطعام في فمها بالقوّة بواسطة إصبعها ومن ثم عمدت إلى إطباق فم الرضيعة بواسطة يديها بهدف إرغامها على بلع الطعام”. وهذا ما اعتبرته المحكمة جناية محاولة القتل مبنيّة على القصد الاحتمالي، حيث “كان بإمكان دجيني توقّع اختناق الطفلة وموتها نتيجة إطعامها بطريقة وحشية وعلى الرغم من ذلك قبلت دجيني بالمخاطرة رغم توقعها مثل تلك النتيجة إلّا أنّ النتيجة لم تتحقّق” وفقًا لما ورد في الحكم.
وكذلك أُدينت دجيني بجنحة الإيذاء المشدّدة سندًا للمادّة 554 معطوفة على المادّة 257 من قانون العقوبات، وذلك بالنسبة لأفعالها تجاه أطفال آخرين، من بينهم أربعة أطفال من أبناء المدّعين، نظرًا إلى “الأضرار النفسية والآلام الجسدية التي تعرّض لها الأطفال نتيجة ضربهم المتكرر وإيذائهم المتواصل”. كما أُدينت بجنحة القدح بالنسبة لشتم الأطفال سندًا المادّة 584 من قانون العقوبات. وبعد إدغام العقوبات وفقًا للمادة 205 من قانون العقوبات، قضت المحكمة بتنفيذ العقوبة الجنائية بحقها، وهي الأشغال الشاقة المؤقتة لمدة أربع سنوات، مع احتساب مدة توقيفها السابقة من فترة العقوبة.
وأدانت المحكمة عاملة النظافة جومانا حبيب بو سعيد ومالكة الحضانة طوني مهنّا بجناية التدخل بمحاولة القتل المبنية على القصد الاحتمالي، على اعتبار أنّهما “ساعدتا دجيني على الأفعال التي سهّلت وهيّأت جريمة محاولة القتل المبنيّة على القصد الاحتمالي” وذلك ينطبق عليه بحسب الحكم “جناية المادّة 547 من قانون العقوبات معطوفة على (المواد) 201، 219 و189 من القانون نفسه”. وكذلك أُدينت بو حبيبب ومهنّا بجرم التدخل بالإيذاء سندًا للمادّة 554 من قانون العقوبات، وخلص الحكم إلى معاقبتهما بالأشغال الشاقّة لمدّة ثلاث سنوات لكلّ منهما.
بالإضافة إلى ذلك، ألزم الحكم المتهمات الثلاث بدفع تعويضات مالية بالتكافل والتضامن، بلغت 3 مليارات ليرة لبنانية للمدعي بيار الهاشم، و100 مليون ليرة لبنانية لكلّ من المدعين رودي إبراهيم، باتريسيا الخوري، بيار الهاشم، وبيار موسى.
مخالفة رئيس المحكمة لرأي الأكثرية
وخالف رئيس المحكمة بالتكليف القاضي ربيع الحسامي رأي الأكثرية لناحية تحديد ما إذا كانت “محاولة القتل المبنية على القصد الاحتمالي” التي أيّدتها المستشارتان في هيئة المحكمة تنطبق على القضية. إذ رأى أنّ تجريم المتهمة دجيني الحلو بهذه الجريمة لا ينطبق على الوقائع، مشيرًا إلى أنّه “بما أنّ الوفاة لم تتحقق، وطالما أنّ نية القتل لم تكن متوفّرة، وفقًا للقرار الاتهامي، فإنّه لا يُمكن مساءلة المتهمة عن محاولة القتل على القصد الاحتمالي بل على الجريمة التي اتجهت إرادتها إليها”. وشرح الحسامي أنّه “بالرغم من قساوة وبشاعة ما قامت به الحلو إلّا أنّ المحكمة ترى أنّ ما أقدمت عليه لا يندرج تحت خانة محاولة القتل”. وأضاف: “لا يُعقل أن تكون إرادتها قد اتجهت إلى قتل أطفال عاجزين عن المقاومة وقد اعتمدت يومًا بعد يوم على مدى أشهر وبشكل فاشل ومتكرّر على ضربهم وإرغامهم على تناول الطعام، طريقًا وسبيلًا لتنفيذ الجريمة، في الوقت الذي كان بمقدورها إزهاق أرواحهم بطرق عديدة وسهلة دون أدنى مقاومة منهم”.
بناءً على ذلك، اعتبر الحسامي أنّ أفعال دجيني الحلو لا تنطبق على محاولة القتل مع قصد احتمالي (المواد 547 من قانون العقوبات معطوفة على المادّتين 201 و189)، بل تنطبق على جنحة الإيذاء (المادة 554 من قانون العقوبات معطوفة على المادة 257) بسبب عنفها المفرط.
وفيما يتعلّق بمالكة الحضانة طوني مهنّا وعاملة النظافة جومانا بو سعيد، رأى الحسامي أنّ أفعالهما تنطبق على جنحة المادة 554 معطوفة على المادتين 219 و257 من قانون العقوبات، باعتبارها تدخّلًا في جريمة الإيذاء.
الأهالي راضون عن الحكم وتوجّه متّهمَتَين نحو التمييز
يعبّر المدّعي بيار موسى عن رضاه وسعادته بالحكم في اتصال مع “المفكرة القانونيّة”. والهاشم هو والد أحد الأطفال الّذين ظهروا في تسجيل مصوّر خلال تعرّضه للتعنيف على يد المربية دجيني. يقول الهاشم: “الحكم مثلما أردنا وأكثر، أنا مرتاح للنتيجة التي وصلنا إليها بعد كلّ هذا التعب الذي بدأ قبل عام ونصف”. ويُضيف “لم يضِع حقُ أولادنا، وابني سيعلم حين يكبر أنّ والديه وقفا إلى جانبه”. ويعتبر الهاشم أنّ هذه القضية هي “درسٌ لكل الحضانات التي تُهمل الأطفال ولا تتحمّل مسؤولية سلامتهم وهو رادع للأخطاء التي تحصل داخل الجدران المغلقة”.
ومن جهتها، تؤكدّ منال إبراهيم، والدة أحد الأطفال، لـ “المفكرة” أنّه بصدور الحكم “ارتحنا أخيرًا، والقضاء أنصف الأطفال”. وتُضيف: “أتمنى لو منعت ما تعرّض له، لو كان لديّ علمٌ بما يحصل داخل الحضانة لما تركته لدقيقة واحدة”. وتؤكّد إبراهيم على ارتياحها لوجود قضاة يُحاسبون على هذه الجرائم لحماية الأطفال الّذين لا يتمتعون بالقدرة على الدفاع عن أنفسهم.
بدورها، تعبّر تاتيانا، والدة طفلة تعرّضت للتعنيف في الحضانة، عن أسفها لما حدث، مشيرة إلى ضرورة سحب التسجيلات المصوّرة المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي لحماية الأطفال من أي تداعيات مستقبلية. وتقول: “لا أعرف ما سأخبر ابنتي حين تكبر، لكن إلى ذلك الحين، يجب وقف تداول التسجيلات”. وأوضحت أنّ العائلات تعتزم تقديم شكوى للنيابة العامّة الاستئنافية للمطالبة بحذف الفيديوهات ومنع تداولها، حماية للأطفال وتأمين مستقبلهم بعيدًا عن آثار هذه القضية.
وتشيد المحامية إيميه الحلو، وكيلة الأهالي الأربعة المدّعين، بالحكم، معتبرةً أنه يمثل “انتصارًا للعدالة” ويطوي “صفحة سوداء من صفحات التعنيف ضدّ الأطفال”. وتوضح أنّ المحاسبة في هذا النوع من الجرائم تُعدّ غاية في الأهمية، قائلة: “نظرًا للأثر النفسي الناتج عن العنف على الأطفال على المدى الطويل، فإنّ المحاسبة تعزز حق الطفل في الحماية من كل أشكال العنف، وضمان بيئة سليمة وآمنة له”. وتضيف: “هذا الحكم يُوجّه رسالة واضحة تؤكّد أنّ أيّ تصرّف عنيف تجاه الأطفال لن يكون مسموحًا”.
من جهة أخرى، علمت “المفكرة” بتوجّه وكلاء المتهمتين دجيني الحلو وطوني مهنّا لتمييز الحكم، مستندين إلى أسباب عدّة. وتُعد الأسباب الواردة في مخالفة القاضي ربيع الحسامي أحد أبرز أسباب الطعن لجهة التوصيف القانوني للجريمة، بالإضافة إلى أسباب طعن أخرى.
بالنسبة للمربية الحلو، من المتوقع أن يركّز التمييز على رفض المحكمة طلبها الاستماع إلى شهود من وزارة الصحّة، وهو طلب تقدّم به وكيلها المحامي ميشال نصر خلال المحاكمة وجرى ضمّه إلى الملف، حيث اعتبر حينها أن الوزارة تتحمل مسؤولية تجديد رخصة الحضانة رغم عدم استيفائها الشروط القانونية.
أما بالنسبة لصاحبة الحضانة مهنّا، فمن المتوقع أن يتمحور التمييز حول إعادة النظر في توصيف الجريمة التي أدينت بها لاعتبار أفعالها تندرج في إطار “الإهمال”، لناحية تقصيرها في توظيف عدد كافٍ من الموظفين وإهمالها تركيب كاميرات المراقبة، وليس التدخل في محاولة القتل المبنية على القصد الاحتمالي.