“
أصدرت المحكمة الإدارية بفاس بتاريخ 31 ماي 2019، حكما جديدا قضى بترتيب مسؤولية الدولة عن الضرر اللاحق بأحد الأشخاص جرى توقيفه من طرف الشرطة نتيجة خطأ في الهوية، وقضت بتعويض له عن الضرر المادي والمعنوي اللاحق به[1].
تعود فصول القضية إلى تاريخ 10/04/2019 حينما تقدّم أحد الأشخاص بدعوى أمام المحكمة الإدارية بفاس (شرق المغرب) يعرض فيها أنه بتاريخ 21/02/2019 كان يتواجد في أحد فنادق مدينة القنيطرة (غرب المغرب). وعند الساعة التاسعة صباحا، حضر إلى غرفته عنصران من الشرطة، واقتاداه إلى ولاية الأمن، دون إشعاره بالمنسوب إليه. وعند وصوله إلى المقرّ، تم إخباره بأنه موقوف بناء على مذكرة بحث صادرة في حقه، من طرف شرطة مدينة فاس بشأن جنحة اصدار شيك بدون مؤونة. ورغم أنه أكد لموظفي الأمن أنه لم يسبق له أن سلّم أي شيك بدون مؤونة، إلا أنهم لم يقوموا بأي مبادرة للتحقق من صحة أقواله، وإنما اكتفوا بإلزامه بالاتصال بأحد أقاربه قصد أداء قيمة الشيك بمدينة فاس، باعتباره الحل الوحيد أمامه. وهو ما امتثل له، حيث انتقل صديق له إلى مدينة فاس وقام بأداء قيمة الشيك، وأخلي سبيله حوالي الساعة الخامسة من مساء نفس اليوم بعدما توصلت شرطة القنيطرة ببرقية من شرطة فاس تفيد أداءه لقيمة الشيك.
وأضاف أنه بتاريخ 22/02/2019 حضر إلى مدينة فاس من أجل الاستماع إليه من طرف النيابة العامة، فأخبرته الشرطة بوقوع خطأ يتعلق بإثبات الهوية، وأن الشكاية التي تم إيقافه على خلفيتها تخص شخصا آخر. وأردف المحكوم له بأنه اضطر إلى الانتقال من مقر إقامته إلى مدينة فاس ثلاثة مرات بهدف استرجاع المبلغ المدفوع دون وجه حق، وهو ما تحقق بتاريخ 03/04/2019، موضحا بأن ما تعرض له يشكل اعتداء على حريته وكرامته، ومسا بسمعته وبحقه في التجول والتجمع، حيث نتج عنه حرمانه من حضور مجلس وطني للجمعية التي ينتمي اليها، ملتمسا الحكم له بتعويض عن الضرر المادي والمعنوي اللاحق به.
وأجاب دفاع الدولة بأن معيار الخطأ التي تؤاخذ به يختلف باختلاف الصعوبات التي تواجهها المرافق التابعة لها في أداء مهامها، وأن مسؤولية الدولة عن نشاط مرفق الأمن يختلف عن غيره من المرافق نظرا لحساسيته، وأن مطالبتها بالتعويض عن ضرر ناتج عن تدبير المرفق يتوقف على توفر خطأ جسيم، وأن تصرف الإدارة كانت تمليه المصلحة الأمنية التي توجب على جهاز الأمن اتخاذ تدابير احتيازية في توقيف المبحوث عنهم. كما أن تصرف الشرطة مع المدعي لم يتجاوز حدود التحقق من الهوية، حيث تم إطلاق سراحه في نفس اليوم، وأن ما اتخذ في حقه على فرض صحته لا يعدو أن يكون اجراء احترازيا، ولا وجود لأي خطأ من جانب الادارة خاصة وأنه لم يتم اعتقال المدعي أو إيداعه في السجن، ملتمسة رفض الطلب.
حيثيات الحكم
انطلقت المحكمة في حكمها من تحليل عناصر قيام المسؤولية الإدارية للمرفق العمومي المتمثلة في وجود خطأ وضرر وعلاقة سببية، معتبرة أنه “قد يترتب خطأ الإدارة عن فعل إيجابي كقيامها بعمل، أو فعل سلبي كامتناعها عن القيام بعمل يندرج ضمن واجباتها”، كما قد يتخذ الخطأ عددا من الأشكال تتمثل في “أداء المرفق العام للخدمة المنوطة به على الوجه السيء، أو أدائها ببطء أكثر من اللازم أو عدم أدائها”.
وبخصوص الضرر، فقد اعتبرت أنه “بالإضافة إلى كونه يعتبر شرطا أساسيا لقيام هذه المسؤولية، فإنه يشترط فيه أن يكون مباشرا ومحقق الوقوع، وأن يمسّ بوضعية محمية قانونا، وأن تكون هناك علاقة سببية بين الخطأ المرتكب والضرر المترتب”.
وخلصت المحكمة انطلاقا من وقائع القضية إلى أن مرفق الأمن “قد أدى الخدمة المنوطة به بشكل سيء للغاية، ذلك لأنه بغض النظر عن الخطأ المرتكب من طرف شرطة فاس المتمثل في رقن رقم البطاقة الوطنية للمدعي بدل المشتكى به الحقيقي، فإنه كان من المفروض على شرطة القنيطرة فور إيقاف المدعي ومنازعته في الشكاية موضوع مذكرة البحث، التحقق من جميع البيانات والمعلومات الخاصة به، ولا سما مدى مطابقة رقم بطاقته الوطنية واسمه للبيانات الواردة في مذكرة البحث، وعند الاقتضاء ربط الاتصال بشرطة فاس التي أصدرت مذكرة البحث المذكورة، للتثبت من الهوية الكاملة للشخص المبحوث عنه”. واعتبرت المحكمة في السياق نفسه أن “ايقاف المدعي دون سند قانوني وجعله في وضع حتم عليه أداء مبلغ شيك غير صادر عنه، من أجل إطلاق سراحه، يشكل خرقا لمقتضيات الفصل 23 من الدستور، الذي ينص على أنه: “لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته إدانته إلا في الحالات وطبقا للاجراءات التي ينص عليها القانون”. كما أن إيقافه بشكل مفاجئ “رتب له بصفة محققة ضررا معنويا تمثل في فقدان حريته دون سند مشروع، ومساسا بحقه في حرية التنقل، وما خلف له ذلك من أثر سلبي على سمعته وكرامته وسلامته الجسدية والنفسية، وحزن لدى أسرته، فضلا عن الضرر المادي المتمثل في مصاريف تنقل أحد أصدقائه إلى مدينة فاس لأداء قيمة الشيك، وحرمان المدعي لمدة تزيد عن 30 يوما من استرجاع مبلغ الشيك، وما تكبده من مصاريف وتنقلات من محل إقامته إلى مدينة فاس والتي ما كان ليتحملها لولا خطأ الإدارة”، معتبرة أن كل ذلك يشكل خطأ مرفقيا”.
وعليه، قضت المحكمة الإدارية اعتبارا منها من جهة لنوعية وحجم الأضرار المادية والمعنية اللاحقة بالمدعي، ومراعاة منها من جهة أخرى للأعباء العامة الملقاة على عاتق المرفق الإداري، وارتأت تحديد مبلغ التعويض في 30.000 درهم تؤديه لفائدته الدولة.
ملاحظات حول الحكم
تعكس القضية تطورا في فكرة التقاضي، من أجل إخضاع أعمال جهاز الشرطة لرقابة القاضي الإداري باعتباره قاضي الحقوق والحريات.
كما تبرز أهميتها في التعليلات التي اعتمدها الحكم في الرد على الدفوع التي تمسكت بها إدارة الأمن، حيث اعتبرت المحكمة أنه لا مجال للتمسك بإجراءات احترازية لتبرير المساس بالحرية الشخصية للأفراد دون سند مشروع.، حيث عللت المحكمة حكمها بمقتضيات دستور 2011.
وتكشف القضية من جهة أخرى لبعض الانتهاكات التي يتعرض لها الأفراد نتيجة اجراءات التحقق من الهوية، وخطورة برقيات البحث التي يتم تحريرها في حق بعض المشتكى بهم دون التنبه إلى صحة البيانات، والتأخر في معالجة المنازعات التي تتم فيها، وهي المعطيات التي اعتمدها الحكم القضائي للقول بترتيب مسؤولية مرفق الأمن نتيجة سوء أدائه الخدمات المنوطة به.
من المأمول أن تسهم هذه القضية من جهة في تزايد وعي المتقاضين في اللجوء الى القضاء الإداري لإخضاع أعمال الشرطة القضائية لرقابة القاضي الاداري، ومن جهة أخرى في اتخاذ السلطات المكلفة بانفاذ القانون لاجراءات احترازية قبل اتخاذ أي قرار ماس بحرية الأفراد.
مواضيع ذات صلة
قرار قضائي يحمل الدولة مسؤولية عدم إعلام مواطنة بحقوقها بالمغرب
[1]– يتعلق الأمر بحكم عدد 531 بتاريخ 31/05/2019، في الملف رقم 166/7112/2019.
“