وجهت وزيرة العدل ليلى جفال مكتوبا لكل المحاكم مرفقا بقوائم بأسماء القضاة العاملين في كل محكمة مطالبة بتوجيه استجواب جماعي لهم، حول موضوع واحد وهو فيما إذا كانوا شاركوا أم لا في الإضراب الذي دعت له جمعية القضاة التونسيين يومي 9 و10 فيفري 2022. وكانت وزارة العدل توصلت من المشرفين على المحاكم بكل المعطيات المتعلقة بالمشاركين من القضاة في الإضراب والتي تحتاجها المصالح الإدارية المالية لترتيب الأثر على ذلك والمتمثل في اقتطاع أيام العمل غير المنجز كما أكدت ذلك تصريحات إعلامية لمسؤولين منها. وعليه، يبدو من المتعين التنبه لكون الخطوة الأخيرة المتخذة تتجاوز مقتضيات العمل الإداري لتتصل بموقف الجهة الحكومية من الحقّ النقابي للقضاة أو ربما بتفعيل صلاحية عزل القضاة الذين مارسوه من دون محاكمة عادلة.
ما بعد تحجير الإضراب ضرب الحق النقابي
بمناسبة نقاش الفصل 36 من الدستور التونسي المتعلق بالحق النقابي، طرح السؤال حول حق القضاة في الإضراب بدفع من نواب تمسكوا بكون القضاء سلطة والسلطة لا تضرب. وهو الموقف الذي سريعا ما تم التراجع عنه اعتبارا بالنظر لكون ما كان يطمح له صياغة دستور يلائم قيم المجتمع الديموقراطي ومثله يعترف بحق الاضراب للقضاة.
في ذاك المناخ المؤمن بالديموقراطية والباحث عن بناء القضاء السلطة، أقرّت السلطة التأسيسية الحقّ النقابي وحقّ الإضراب عن العمل للقضاة بما كان يظن معه أن السؤال عن الحقّين تمّ تجاوزه ولكن هذا لم يكن رأي الرئيس قيس سعيد الذي أعاد بمرسومه عدد 11 لسنة 2022 عقارب التشريع إلى ستينيات القرن العشرين دون كبير اهتمام بالدستور وأحكامه.
فبالإضافة إلى حلّ المجلس الأعلى للقضاء، حجر سعيّد على القضاة ضمن مرسومه ممارسة الإضراب في فصل استعاد فيه بصورة تكاد تكون حرفية فصلا قانونيا كتب في زمن الديكتاتورية حين أرادت السلطة قمع القضاة. وقد نصّ هذا الفصل على أنه “يحجر على القضاة من مختلف الأصناف الإضراب وكلّ عمل جماعي منظم من شأنه إدخال اضطراب أو تعطيل في سير العمل العادي بالمحاكم. “[1] وقد استغل سعيّد لتمرير هذا الحظر الغضب الشعبي من جراء الإضراب المديد الذي أعلنته هياكل القضاة في سنة 2020 لتوفير شروط الحماية من تفشي الجائحة بالمحاكم ولتحسين الوضع المالي للقضاة.
الحق النقابي للقضاة ممنوع: عودة لعهد كنا نظنه قد مضى …
بتاريخ 11-04-1985 أضرب قضاة تونس عن العمل لأول مرة في تاريخهم بدعوة من جمعية القضاة الشبان بما أربك السلطة السياسية التي سارعت لاتخاذ إجراءات ردعية تمثلت في حل الجمعية[2] وإحالة من قادوا التحرك الاحتجاجي على مجلس التأديب الذي سلط عليهم عقوبات تراوحت بين الإيقاف عن العمل لمدد معينة والعزل [3] وتنقيح القانون الأساسي للقضاة لتضيف له فصلا “يحجّر تحجيرا باتّا على أعضاء السّلك القضائي الإضراب وكلّ عمل جماعي مدبّر من شأنه إدخال اضطراب على سير العمل بالمحاكم أو عرقلته أو تعطيله”[4]. وبعد أكثر من نصف قرن على ذاك الحدث، عاد الرئيس سعيد الذي واجه في محاولته ضمّ القضاء لسلطاته مقاومة قضائية أحرجته ليمنع عن القضاة حق الإضراب.
مسعى قيصر تونس كما يحلو لأنصاره مناداته لم ينتهِ إلى نجاح سريع يماثل ذاك الذي تحقق للوزير الأول محمد مزالي سنة 1985. فاحتجاجات القضاة لم تتوقف ووصلت حدّ إعلان الإضراب عن العمل بالمحكمة الإدارية يوم 17-02-2022 بدعوى من جمعية القضاة واتحاد القضاة الإداريين ولتنظيم وقفة احتجاجية ناجحة أمام محكمة التعقيب بتاريخ 24-02-2022 بدعوة من جمعية القضاة التونسيين وضمّت كل أصناف القضاء[5] .وهو ما يدفع للقول بكون استجوابات الوزيرة كانت الغاية منها زراعة خوف في وسط القضاة يسهّل اذعانهم للمرسوم الذي لا زالت هياكلهم تصر على كونه غير شرعي، خصوصا وأن فكرة القوائم التي اعتمدها تذكر بالقوائم التي اعتمدت سابقا فترة الحكم الاستبدادي لمثل تلك الغاية .
القوائم الجماعية: استعمال وسائل ما قبل الثورة
في سنة 2005 وفي سياق سعي السلطة السياسية لإنجاح انقلابها على المكتب الشرعي لجمعية القضاة الذي أحرجتها مطالبته باستقلالية القضاة ورفضه المحاكمات السياسية، عمدت وزارة العدل لتعميم لوائح على القضاة تتضمن طلبهم سحب الثقة من المكتب التنفيذي للجمعية وأرغمتهم على الإمضاء عليها باستغلال سطوة كبار القضاة عليهم وباستعمال سياسة التخويف من النقل والعقوبات التأديبية. ويبدو أن قوائم وزيرة العدل استلهمت من ذات التجربة فعادت لسياسة صناعة الخوف واستثمرت فيها علّها تخرس القضاة وتفرض عليهم الاعتراف بالضعف في مواجهة وسائل ردعها .
قوائم الخوف والإذلال: من لن يصمت سيعزل ومن دون محاكمة
تروج في الأوساط القضائية تحذيرات مفادها أنّه بمجرد الانتهاء من حلّ مجلس القضاء ستصدر قوائم إعفاءات للقضاة تشمل أساسا القضاة المسيسين أي الذين يجاهرون برفض المسّ باستقلالية القضاء. وتؤدي تلك الأخبار لنشر مناخات خوف تتعزز كل مرة يتحدث فيها الرئيس عن اعتزامه تطهير القضاء.
وتهدف في هذا الإطار قوائم وزيرة العدل إلى تكثيف الخوف القائم والاستثمار في مناخ الهشاشة الذي فرضه مرسوم عدد 11 للقضاة. فمن تعرض عليهم يجدون منطقيا أنفسهم في مواجهة الأسئلة المحيرة الذي يخفيها سؤالها الظاهر ..ومنها ماذا بعد تحرير جوابي عن الاستجواب، هل سيتم إعفائي؟ وإن تم ذلك، ما هو مآل أسرتي التي أعيلها وكيف لي أن اضمن معاشها؟ وهل سيصدق الناس أنى اعفيت لموقف نضالي أو نقابي أم سيصدقون دعاية السلطة وسيصومنني بالفساد فأكون سبب عار لأهلي عن غير قصد مني ولا ذنب؟
يظهر في كل هذا قضاة تونس الذين حاولوا أن يتمسكوا باستقلاليتهم في سياقات صعبة تنفرد فيها السلطة بهم ولا يجدون لهم في مواجهة ما لها من وسائل ضغط عليهم سوى الإيمان بمبادئ وصمت من مجتمع مدني وسياسي تحدث طويلا عن استقلالية القضاء ولكنه لم يطوّر آليات تمكن من حمايته فترة الأزمات.
[1] الفصل 9 من المرسوم
[2] بموجب قرار صدر عن وزير الداخلية بتاريخ 15-04-1985
[3] بتاريخ 18 -05-1985 انعقد مجلس التأديب وأصدر قراراته
[4] الفصل 18 الذي اضيف للقانون عدد 29 لسنة 1967 يتعلق بنظام القضاة والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة بموجب القانون الأساسي الأساسي عدد 79 لسنة 1985 المؤرخ في 11 أوت 1985
[5] القضاء العدلي والإداري والمالي .