أعطى العاهل المغربي محمد السادس مؤخرا توجيهاته للمجلس العلمي الأعلى لدراسة بعض المقترحات الواردة في تقرير الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، وذلك بعد احتدام الجدل بين التيارين الحداثي والمحافظ بالمغرب حول نطاق التعديلات المرتقبة.
بلاغ الديوان الملكي
أكّد بلاغ الديوان الملكي أن العاهل المغربي محمد السادس، أصدر توجيهاته إلى المجلس العلمي الأعلى -وهو الجهة الرسمية التي تحتكر أمور الفتوى في الشؤون الدينية بالمغرب-، قصد “دراسة المسائل الواردة في بعض مقترحات الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة”، وذلك استنادا إلى “مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة، ورفع فتوى بشأنها “. وتأتي هذه الإحالة، بعد انتهاء الهيئة المكلفة بمراجعة المدونة من مهامها ضمن الأجل المحدد لها، ورفع مقترحاتها إلى الملك، الذي اقتضى، بالنظر لتعلق بعض المقترحات بنصوص دينية، إحالة الأمر إلى المجلس العلمي الأعلى، الذي جعل منه الفصل 41 من الدستور، الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا.
ودعا العاهل المغربي المجلس العلمي الأعلى، وهو يُفتي فيما هو معروض عليه من مقترحات، إلى استحضار مضامين الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة، الداعية إلى اعتماد فضائل الاعتدال والاجتهاد المنفتح البناء، في ظل الضابط الذي لطالما عبر عنه، من “عدم السماح بتحليل حرام ولا بتحريم حلال”.
احتدام الجدل السياسي حول تعديلات مدونة الأسرة وتفعيل التحكيم الملكي
تأتي إحالة بعض مخرجات تقرير هيئة تعديل مدونة الأسرة إلى المجلس العلمي الأعلى في خضمّ احتدام الجدل السياسي بالمغرب بين التيار المحافظ والذي استبق الإعلان الرسمي عن مخرجات هيئة تعديل مدونة الأسرة، بحملات واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي وفي المهرجانات الخطابية لبعض الأحزاب والحركات الإسلامية للتحذير من خطر ما أسموه علمنة قانون الأسرة والذي ينظر اليه كإحدى آخر قلاع تطبيق الشريعة الإسلامية في القوانين المغربية. وقد سبق للأمين العام لحزب العدالة والتنمية أن هاجم توصيات أحزاب يسارية نادت بمراجعة مقتضيات الإرث وإلغاء تعدّد الزوجات، كما وصف مقترحات المجلس الوطني لحقوق الإنسان بشأن تعديل مدونة الأسرة بكونها “مقترحات مارقة“. في المقابل، يؤكّد التيار الحداثي والذي تقوده أحزاب في الأغلبية والمعارضة وجمعيات نسائية وحقوقية وباحثون وأكاديميون على أن المراجعة الشاملة لمدونة الأسرة ضرورة تحتمها مستلزمات الملاءمة مع الدستور والاتفاقيات الدولية والواقع.
وفي هذا السياق، اعتبرت التنسيقية النسائية من أجل التغيير الشامل والعميق لمدونة الأسرة ، أن من شأن تفعيل آلية الإحالة على المجلس العلمي الأعلى بصفته مؤسسة دستورية، أن تضع حدا لبعض التصريحات التي تستغل الدين من أجل مناهضة أي تغيير المقتضيات مدونة الأسرة يحقق هدف التجديد والتحديث.
وأوضحت التنسيقية التي تضمّ 33 جمعية نسائية وحقوقية أنّ التطور الاقتصادي والتحولات الاجتماعية التي مسّت الأسر المغربية، وشكلت بنيتها الجديدة، من حيث أدوار كل من النساء والرجال داخلها ومكانة كل فرد فيها على حدة، تتطلب “الاجتهاد” في إعادة النظر في عدد من المفاهيم والأحكام التي أصبحت “غير منسجمة مع واقع المغربيات اليوم، خاصة أنه وجب تحقيق الانسجام بين القوانين الوطنية والتزامات المغرب تجاه المنتظم الدولي وتطلع السياسات العمومية وبرامجها إلى تحقيق المشروع المجتمعي الذي يتمتع فيه الرجال والنساء والأطفال بنفس الحقوق، وفق الدستور والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب”. وأكدت التنسيقية، أنها تنتظر أن تصدر مدونة أسرة جديدة عصرية ديمقراطية ومساواتية، تقدم إجابات عادلة للمشاكل التي تواجهها النساء، تقطع بشكل عميق وشمولي مع كل مظاهر الحيف والتمييز المنتهكة للحقوق الإنسانية للنساء والأطفال، كتعدد الزوجات وتزويج الطفلات، وحصر حق الولاية القانونية على الأبناء بيد الأب دون الأم، وحرمان الأطفال من حقهم في نسب أبيهم، والتمييز في الإرث، وعدم ضمان حق المرأة في الثروة الأسرية بشكل منصف وعادل، وغيرها من مظاهر التمييز التي يتضمنها نص المدونة.
ملاحظات حول تفعيل آلية استشارة المجلس العلمي الأعلى
للوهلة الأولى، يطرح سؤال حول جدوى استشارة المجلس العلمي الأعلى في بعض المقترحات الواردة في تقرير هيئة تعديل مدونة الأسرة، رغم أن المجلس كان ممثلا في الهيئة إلى جانب المجلس الوطني لحقوق الانسان ووزارة التضامن والمرأة، ضمن الهيئة الموسعة التي تضم أيضا المجلس الأعلى للقضاء ورئاسة النيابة العامة، ووزارة العدل، حيث اعتبر البعض أن تركيبة الهيئة التي طغى عليها الجانب القانوني والقضائي ساهمت في تراجع نفوذ العلماء في مجال كانوا يشكلون فيه والى وقت قريب الأغلبية، وجاءت هذه الإحالة كإعادة للاعتبار المعنوي لهم.
الملاحظة الثانية، هو أن أجل عمل الهيئة كان محددا في ستة أشهر تم احترامها وقد شملت هذه المدة جلسات الاستماع وإعداد التوصيات والتداول فيها، وإعداد التقرير النهائي ورفعه إلى رئيس الحكومة الذي تولى رفعه إلى الملك، بينما لم يتمّ تحديد أيّ أجلٍ قانونيّ لمجلس العلماء للبتّ في التوصيات المعروضة عليه. وهو ما يوحي بأن الأجل الزمنيّ لتنزيل تعديل مدونة الأسرة سيستغرق وقتا أطول. إذ أنّ الإعلان عن توصيّات اللجنة التي ستتمّ استشارة مجلس العلماء بشأنها، سيشكل بداية مسار جديد وهو المسار التشريعي بإعداد مشروع قانون سيعرض لاحقا للمصادقة عليه من طرف البرلمان المغربي بغرفتيه.
الملاحظة الثالثة، هو أن نطاق الإحالة كان جزئيا حيث أشار بلاغ الديوان الملكي إلى “تعلّق بعض المقترحات بنصوص دينية”، وهو ما يعني أن نطاق استشارة مجلس العلماء سيتعلق ببعض المقترحات التي ستحتاج إلى التدقيق، لا بكل مخرجات الهيئة التي كان مجلس العلماء أحد مكوّناتها.
الملاحظة الرابعة، هي أن الإحالة الملكية حددت نطاق عمل المجلس، الذي أصبح مطالبا ليس فقط بمجرد إعطاء رأيه في مدى مطابقة بعض المقترحات الواردة في تقرير الهيئة لأحكام الشريعة الإسلامية، وإنما في إيجاد حلول عملية للإشكاليات العملية التي تثيرها، وذلك عن طريق اعتماد “فضائل الاعتدال والاجتهاد المنفتح البنّاء”، ولا شك أن في استعمال عبارة الاجتهاد دعوة صريحة إلى إيجاد حلول مبتكرة جديدة تخالف الحلول السابقة أي السعي نحو التجديد ونبذ التقليد، كما أن في استعمال عبارات “الاعتدال” و”الانفتاح” إشارة إلى ضرورة الاستفادة من تجارب أخرى من داخل المذهب المالكي وهو المذهب الرسمي للدولة، أو من خارج المذهب، أو حتى عن طريق حلول معاصرة، وهي نفس الآلية التي ساهمت في إحداث تعديلات مهمّة في مدوّنة الأسرة لسنة 2004، بإلغاء القوامة وإقرار مبدأ الرعاية المشتركة للزوجين، واعتبار الولاية في الزواج حقا للمرأة الراشدة ووقف العمل بالطلاق الشفوي، والاعتراف بنسب الأطفال المزدادين خلال فترة الخطوبة، وإخضاع جميع أنواع الطلاق والتطليق لرقابة القضاء، والاعتراف بالزواج المدني المبرم بالخارج، وإقرار الوصية الواجبة لفائدة الأحفاد من جهة البنات على غرار الأحفاد من جهة الأبناء الذكور.
الملاحظة الرابعة، تكمن في أن إحالة بعض توصيات الهيئة التي لم تنشر بعد مخرجاتها، هي استباق لأي محاولة في التشكيك في مدى موافقة مخرجاتها لأحكام الشرع في مجال ما يزال عدد كبير من المغاربة يعتبرونه يمسّ جانبهم الروحي والعقائدي، كما أنه تأكيد على أن الجهة الرسمية الوحيدة التي تحتكر مجال الفتوى هي المجلس العلمي الأعلى طبقا لأحكام الدستور، وهو ما يضع حدّا لفوضى الفتاوى ودعاوى التكفير، كما أنه يجهض أي محاولة لاستغلال موضوع تعديل مدونة الأسرة كمجال للصراع الأيديولوجي، بتفعيل التحكيم الملكي عن طريق تفعيل مؤسسة “إمارة المؤمنين“.
الملاحظة الخامسة، وهي أن بلاغ الإحالة على المجلس العلمي الأعلى لم يحدد النقاط الخلافية التي ستشكّل محور طلب رأي المجلس وإن أشار إلى أن بعض المقترحات الواردة في تقرير الهيئة “تتعلق بنصوص دينيّة”، علما بأن الجدل الدائر بين التّيارين الحداثي والمحافظ يركّز أساسا على نقاط خلاف معيّنة كموضوع التعصيب والوصية في الميراث، واختلاف الدين في الزواج، وتعدّد الزوجات، ونسب الطفل الطبيعي، وتزويج الطفلات.
الملاحظة السادسة وهي أنّ استشارة مجلس العلماء تكرّس الطابع الاستثنائيّ لمسار التشريع في مجال الأسرة. فرغم أنه يدخل ضمن نطاق القانون طبقا لأحكام الدستور، فإن من شأن إرساء خصوصيّة استثنائيّة للمسطرة التشريعيّة المتعلقة بمدونة الأسرة إبقاء على اعتبار هذا القانون شأنا دينيا، رغم أنه ينظم جانب المعاملات داخل المجتمع، وهو ما يحدّ من طموح الأصوات المنادية برفع التقديس عن هذا القانون واعتباره كأي قانون مدني آخر.
المجلس العلمي الأعلى ورهانات تجديد الاجتهاد
نظمت فدرالية رابطة حقوق النساء وهي منظمة غير حكومية تعنى بقضايا المرأة جلسة عمومية للاستماع لشهادات نسائية حول مدونة الأسرة تحت شعار: “شهادات بدون طابوهات..اسمعوني وانصفوني”، استعرضت تجارب عدد من النساء عانين من الظلم والتمييز و”الحكرة” بسبب بعض مقتضيات مدونة الأسرة، حيث شكل موضوع “إرث البنات” و”نسب الأطفال المزدادين خارج إطار مؤسسة الزواج”، و”تزويج الطفلات” و”الزواج العرفي” و”حضانة الأطفال” و”النيابة القانونية للأمهات”، و”الزواج المختلط” أحد أبرز محاور الشهادات التي تمّ الاستماع إليها في هذه الجلسة والتفاعل معها من طرف باحثين ومفكرين، وقد دعت الفدرالية في بلاغها المجلس العلمي الأعلى للإنصات إلى نبض الواقع واستحضار صوت النساء عند إعداد رأيه بخصوص التعديلات المقترحة، واعتماد اجتهاد بناء قائم على تجديد فهم النصوص “الشرعية” الثابتة على ضوء الواقع المتغير، أي تأويلها وفقا لحاجيات العصر ومستجداته، وإنتاج قراءة إنسانية جديدة لها انطلاقا من الأرضية المعرفية والواقعية السائدة، فبآلية “الاجتهاد البناء” يصبح النص القانوني الأسري نصا حيا، واقعيا حقوقيا وملائما .
مواضيع ذات صلة
المغرب يفتح ورش مراجعة مدونة الأسرة بعد 18 سنة من صدورها
انطلاق ورش تعديل مدونة الأسرة بالمغرب: تشكيل لجنة قانونية وتقليص سلطة “العلماء”
مكانة الشريعة الإسلامية في تشريعات المغرب في ظل الدستور الجديد: استيعاب التناقضات في إطار التوافق وتحكيم “أمير المؤمنين”
هيئة تعديل مدونة الأسرة بالمغرب تعلن انتهاء جلسات الاستماع
هيئة تعديل مدونة الأسرة بالمغرب تسلّم تقريرها الختامي
ورشة لتعديل مدوّنة الأسرة في المغرب: أيّ توافق بين المرجعيّتين الحقوقية والدينية؟
خلافات بشأن تعديل مدوّنة الأسرة في المغرب: “العدالة والتنمية” يلوّح بمسيرة مليونية
نادي قضاة المغرب يقدّم مذكّرة حول مدوّنة الأسرة: “الاجتهاد البنّاء” انطلاقا من قضايا الناس
من أجل الارتقاء بأقسام قضاء الأسرة الى محاكم متخصصة في الأسرة بالمغرب
حقوق ذوي الإعاقة في مذكرات تعديل مدونة الأسرة بالمغرب
وأخيرا.. للأم المغربية حق استخراج جواز سفر لأبنائها القاصرين دون اشتراط موافقة الأب : صدور دورية تستبق تعديل مدونة الأسرة
سابقة في اعمال آلية التظلم للأطفال بالمغرب: الجمعيات تطلب الانتصاف لطفلة ضد مقرر قضائي
تنسيقية المناصفة في المغرب تأخذ زمام المبادرة : مقترح قانون لإقرار المساواة في الإرث
جلسة مساءلة حول تمكين المرأة في البرلمان المغربي: 13000 حالة زواج قاصرات سنويا
مقترح قانون للاعتراف بالخبرة الجينية كسبب لإثبات النسب بالمغرب