قبل نحو 10 أيام نشرت سيّدة إعلاناً على منصّتين مخصّصتين لبيع السلع ونشر عروض وطلبات الوظائف تعرض فيه "إثيوبية مع إقامة… تتكلّم العربية… بـ2250000"، كاشفاً عن تسليع فاضح للعاملة وحرية مطلقة بالتصرّف بمصيرها. صحيح أنّ ما أقدمت عليه الكفيلة لم يكن عن نيّة ببيع العاملة إلّا أنّه ينبئ باستفحال ثقافة استملاك العاملات التي يعززها نظام الكفالة اللبناني، وضرورة مكافحتها خصوصاً مع تكرار هذا النوع من الإعلانات على تلك المنصّات.
الإعلان المذكور نشرته كفيلة لبنانية لعاملة منزلية على تطبيق OLX بتاريخ 31 آذار 2020 كما على مجموعة Buy and Sell in Lebanon (original) على فيسبوك، ومن الممكن أن يكون قد نشر على منصّات أخرى. وتظهر فيه معلومات حول العاملة منها أنّها من الجنسية الإثيوبية، تتكلّم اللغة العربية، وتتمتع بعامين من الخبرة، وتقوم بالأعمال المنزلية إلى جانب الاهتمام بالأطفال، ومعها إقامة تنتهي صلاحيتها في شهر كانون الأول 2021. صحيح أنّ المنشور على OLX وُضع في خانة عروض الوظائف إلّا أنّه أضاف مبلغ 2.250.000 ليرة لبنانية إلى العرض في الإعلان بدا بالصيغة التي ورد فيها أي "إثيوبية بـ…" وكأنّه "سعر" العاملة وهو عملياً المبلغ الذي دفعته الكفيلة لتجديد إقامتها ورسوم استقدامها. هذا كلّه والعاملة مغيّبة من الإعلان، لا نعرف رأيها بالموضوع.
صاحبة الإعلان: "ضميري مرتاح"
قد لا تعلم صاحبة هذا الإعلان أنّ ما ارتكبه يعدّ جرماً يعاقب عليه القانون، ويدخل في إطار قانون معاقبة الاتجار بالأشخاص. لذلك، لتبيان مدى وعيها اتصلنا بالرقم الهاتفي المرفق، وعرّفنا عن أنفسنا بداية بأنّنا نريد الاستيضاح أكثر عن العاملة، ليأتي الجواب: "مشي الحال في حدا أخد العاملة". حاولنا الاستفهام أكثر عن خلفيّات هذا الإعلان بعد الإشارة إلى أنّ الهدف هو متابعة الموضوع صحافياً، فتذرّعت المرأة بالظروف الاقتصادية التي جعلتها غير قادرة على دفع راتب العاملة بالدولار الأميركي بالإضافة إلى أنّها غير قادرة على تسفير العاملة إلى بلدها بسبب إغلاق المطار. وأوضحت بأن الهدف من الإعلان هو إيجاد كفيل جديد للعاملة، مؤكّدة أنّ "لا نية وراء هذا الإعلان للاتجار بالبشر". وبعدما أبدت صاحبة الاعلان تذمّرها الشديد من الحديث عن الموضوع الذي اعتبرته تدخّلاً في حياتها الشخصية، استخفّت بأهميته قائلة "العالم فايقة ورايقة وبتعطي أهمية لموضوع تافه". ومقابل ذلك، لفتت إلى أنّ المبلغ المالي الذي وضعته في الإعلان هو "لاسترداد المال الذي دفعته لتجديد الإقامة، كما كلفة استقدامها إلى لبنان".
وقالت السيدة إنها اجتمعت بالعاملة قبل وضع الإعلان، ووضعتها في صورة أنها ما عادت قادرة على تأمين راتبها الشهري بالعملة الأجنبية، فأجابتها العاملة بأنها ترغب في البقاء في لبنان. وعليه، أكدّت المرأة لـ"المفكرة القانونية" بأنّ هناك عائلة ميسورة وظّفت العاملة لديها. وأضافت: "ضميري مرتاح".
ثلاثة بلاغات من "كفى"
وخلال الحديث مع السيدة لفتت إلى أنّ جرى الإستماع إلى أقوالها في الأمن العام إضافة إلى أنها تلقّت إتصالاً من وزارة العمل. ومن المرجح أنّ ذلك حصل بعدما تقدّمت "كفى" بثلاثة بلاغات إلى ثلاث جهات هي مكتب مكافحة الاتجار بالبشر التابع لقوى الأمن الداخلي ووزارة العمل والأمن العام. وأوضحت المحامية في قسم الاتجار بالبشر في المنظمة موهانا اسحق أنّ هذا النوع من الإعلانات يعتبر "شكلاً من أشكال الاتجار بالبشر بدون أن نجزم بأنّ كافة عناصر ذلك متوفرة. فهناك بعض الثغرات في القوانين اللبنانية لتفسير هذا الإعلان وكأنه جريمة جزائية، لذلك نستند إلى قانون مكافحة الاتجار بالبشر لأنه يفتح الباب لإمكانية التحقيق في حالات كهذه من قبل النيابة العامة".
وشرحت أنّ توجيه البلاغ الثاني إلى وزارة العمل يعود إلى كونها "المرجع المعني بحماية العمال ومراقبة ظروف عملهم/ن، ومن الضروري أن تكون على علم بالانتهاكات التي تحصل بحق العاملات المنزليات". وأضافت، "وزارة العمل لها دور بأن تتخذ تدابير معينة بحق الكفلاء، ولها أن تمارس دوراً توعوياً في هذا الشأن بخاصة لناحية تحديد تبعات هكذا نوع من الأفعال". ولفتت إلى أنها لمست تجاوباً لدى الوزارة للعمل على اتخاذ التدابير اللازمة في هذا الشأن.
أما البلاغ الثالث فوُجّه إلى الأمن العام اللبناني لأنّه المعني بإقامات الأجانب على الأراضي اللبنانية، وبحسب إسحق فإن البلاغ تسلّمه مكتب حقوق الإنسان في المديرية، كونه معني بمراقبة إقامات الأجانب والظروف المحيطة بهم، ومن شأنه أيضاً أن يتخذ الإجراء المناسب.
تحقيقات رسمية مع صاحبة الإعلان: هل من نية للاتجار بالبشر؟
ورغم أنّ صاحبة الإعلان رفضت إعطاء أية تفاصيل إضافية حول الإجراءات التي اتبعتها وزارة العمل والأمن العام، علمنا من مصدر من قوى الأمن الداخلي بأن السيدة استدُعيت إلى التحقيق لدى الأمن الداخلي، وقد خلُص إلى أنّه لم يكن لديها نيّة بالقيام بعملية "بيع" وطلب منها التوقيع على تعهد بعدم تكرار هذا النوع من الممارسات. ويُستنتج بأنّ النيابة العامة تعاملت مع الموضوع بأنه حصل بدون سوء نية، ويفيد المصدر بأنّ "قوى الأمن الداخلي تتحرك بإشارة من القضاء المختص الذي يصدر إشارته بناء على شكوى أو إخبار أو معلومات على عكس ما يعتقد بعض الناس بأنّ الأمن يراقب المنصّات الالكترونية. كما أنّ التعهّدات التي يوقّعها الشخص تكون بإشارة قضائية". ويوضح المصدر بأنّ "النص القانوني لا يتيح التعريف عن هذا النوع من الإعلانات على أنّه اتجار بالبشر إذا ما اكتملت عناصر الجريمة، لكنه لا ينفي الضرر المعنوي الذي يسببه بالإضافة إلى تعارضه مع حقوق الإنسان والكرامات كونه يعكس صورة اتجار بالبشر".
حالة الاقفال العام تلزم التشدد في حماية عاملات المنازل
لا تقف مشكلة هذا النوع من الإعلانات عند حدود الاتجار بالبشر بالنسبة لإسحق، فهي "تحمل أبعاد ذات طابع غير إنساني ويمسّ بالكرامات". وتضيف، "بالرغم من دقة الموضوع إنّما لا يمكن التأكيد على أنّ عناصر جرم الاتجار متوفّرة، لذا فإنه يتعيّن على التحقيقات التي تجري في هذا الشأن أن توضح خلفية الإعلان والظروف المحيطة فيه".
بطبيعة الحال، فإن هذا الإعلان يعكس ثقافة غير واعية تتيح التعامل بشكل غير إنساني مع العاملات المنزليات والعمال الأجانب بشكل عام، إذ أنه بحسب إسحق فإن "هذه الممارسات تشبه إلى حد ما ممارسات أخرى يرتكبها الكفلاء بحق العاملات مثل احتجاز أوراق العاملة المنزلية، أو حرمانها من عطلة أسبوعية خارج المنزل".
من جهتها توافق المحامية غيدة فرنجية رئيسة "المفكرة القانونية" على أنّ "هذا النوع من الإعلانات يعدّ مؤشراً لتوفّر جريمة الاتجار بالبشر، ويتوجّب على السلطات التحقيق فيها للتثبّت من مدى استغلال العاملة في العمل القسري. فنحن لسنا أمام حالة عاملة تنشر إعلاناً للبحث عن فرصة عمل جديدة، بل أمام صاحبة عمل تعلن أنها "تملك" عاملة وكأنها سلعة وتبحث عن نقل الامتيازات التي منحها لها نظام الكفالة إلى شخص آخر مقابل بدل مادي بدون أن يتّضح مدى موافقة العاملة على ذلك".
وتوضح بأن التحقيقات في هذا المجال يجب أن تتضمن "الاستماع إلى العاملة بمفردها والتطرّق إلى المعاملة التي تتلقّاها، ومدى استفادتها من حقوقها كالرواتب والإجازات، ومدى موافقتها على تغيير صاحب العمل، كما إلى مدى اتّباع الإجراءات القانونية لنقل الكفالة من صاحبة الإعلان إلى المستجيب".
وتضيف، أن "نظام الكفالة يفتح المجال واسعاً امام الاتجار بالبشر، مما يلزم السلطات في الأيام العادية التحرّك أمام أي مؤشر على معاملة العاملة كالسلعة التي تباع وتشترى. وتصبح هذه التحقيقات أكثر ضرورة خلال حالة الاقفال العام التي تشهدها البلاد بسبب أزمة الكورونا، كونها ضاعفت المخاطر التي قد تتعرض لها عاملات المنازل. وذلك يعود بشكل أساسي إلى التغييرات التي تشهدها جميع المنازل في لبنان (وهي في آن واحد أماكن سكن وعمل للعاملات) لا سيما لجهة التزام الأفراد منازلهم وخسارة مداخيلهم، مما قد ينعكس سلباً على العاملات كأن تحرم من رواتبها أو تتعرض للعنف".
المنصّات الإلكترونية: أي اجراءات لمنع الإتجار بالبشر؟
تظهر شروط الاستخدام الخاصة بتطبيقOLX أنه لا يسمح بنشر هذا النوع من الإعلانات، مع الإشارة إلى حادثة سابقة حصلت مقبل نحو 4 سنوات مع التطبيق نفسه استدعت لجوء "كفى" إلى النيابة العامة لتقديم شكوى، والتي بدورها حوّلت الملف إلى مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية. وتؤكّد إسحق بأنه حينها "تواصل القيّمون علىOLX معنا وتعهدوا أمامنا بعدم نشر أي إعلان مماثل كونه يمس بحقوق الإنسان وكرامته". وحفظت الشكوى بعد التحقيقات وبعدما حذف OLX الإعلان.
تواصلت "المفكرة" مع إدارةOLX التي أرسلت بياناً أشارت فيه إلى أنّه تم حذف الإعلان وحظر صاحبته عن الإعلان مجدداً على منصتهم. وشدّدت على أنّ "الشركة تتعامل مع هذا الموضوع بغاية الجدية وتتّخذ أقصى التدابير لضمان عدم تكرار هذا النوع من الحوادث على منصتها". وتابع الإعلان أنّ الشركة كانت قد اتفقت مع "كفى" على جميع القواعد التي يجب اتباعها لأجل الكشف عن الإعلانات التي يجب منع نشرها، إلّا أنّ "المعلومات الموجودة في الإعلان كانت واسعة جداً فحالت دون أن تؤدي إلى تشغيل أيّ من قواعد الإشراف"، مؤكداً أنّه تم حذفه. ويؤكد المتحدّث الرسمي بإسم الشركة جون نوجا بأنّه "بناء عليه "أضيف مزيد من قواعد الإشراف لتجنّب أحداث مماثلة في المستقبل".
أما بالنسبة لمنصة Buy and Sell in Lebanon (original) فقد أكد مسؤول الصفحة بلال مرعي أنّ "المراقبة تجري بشكل روتيني على الصفحة ويتم إزالة هذا النوع من المحتوى تلقائياً مع منع الشخص من تنزيل الاعلانات مجدداً التزاماً منا بحقوق الانسان وعدم انتهاك كرامته". ويلفت مرعي، "نحن حتى بيع الحيوانات مرفوض على صفحتنا، كيف نقبل ببيع البشر؟". ولم يتّضح لنا المدّة التي بقي فيها الإعلان معروضاً على الصفحة.
نظام الكفالة يعزز ثقافة تسليع العاملات
ما يصعّب منع هذا النوع من الممارسات هي تعقيدات نظام الكفالة الذي لم يحدد آلية واضحة لإمكانية ترك العاملة للعمل بصورة حرّة وغير مقيّدة برأي الكفيل. وتوضح إسحق بأنّ "النظام المعتمد لمكاتب الاستخدام يتيح للمكتب تقديم المساعدة للعاملة لأجل تغيير العمل فقط في الأشهر الثلاثة الأولى من استقدامها للعمل، وبعد مرور هذه الفترة لا يعدّ المكتب معنياً بهذا الدور". وتشرح بأنّ "تغيير العمل بعد مرور الوقت يُترك لحظوظ العاملة بأن تتعرف على كفيل جديد لتنتقل للعمل إليه إنما ذلك لا يحصل إلّا بموافقة الكفيل الحالي". وهذا الأمر يستدعي أن "تضع وزارة العمل آليات واضحة لضمانة ترك العمل بشكل آمن، ما له من ضمانات للعاملة وللكفيل أيضاً".
ومن الواضح أن ضبط هذا النوع من الممارسات هو بأن تقوم الجهات الرسمية بدورها لناحية اتخاذ التدابير بحق المرتكب، وإصدار تعاميم توعوية لناحية خطورتها، وذلك بحسب إسحق "دوراً تلعبه وزارة العمل على وجه الخصوص كونها معنية بحماية العمال".
وبدورها تعتبر فرنجية أنّ "نظام الكفالة المعتمد حالياً أنتج هذه الثقافة المبنية على أنّ "صاحب العمل يعتبر أنه قام باستثمار حين استقدم العاملة إلى لبنان كونه دفع تكاليف باهظة (معظمها أرباح تذهب لمكاتب الاستقدام)، فيعتبر صاحب العمل أنّ عليه أن يسترجع هذا الاستثمار عندما يريد فسخ عقد العمل، لذلك يسعى إلى البحث عن كفيل جديد ليستردّ منه الاستثمار الذي دفعه".
وتؤكد فرنجية أن "المبالغ التي تكبدها الكفيل للاستقدام لا تبرر أي مخالفة لعقد العمل او لإرادة العاملة بالاستمرار بالعمل أو باختيارها لصاحب العمل، لكن هذا يدل على أن آلية الاستقدام المتعبة اليوم تشكّل أحد أبرز الإصلاحات المطلوبة، كونها تسمح لأصحاب العمل تبرير الانتهاكات التي يرتكبونها".