
“ليس هناك أية وثيقة. ولم تُبرم أي اتفاقية سوى في 2008 وأخرى في سنة 2011، أما الاتفاقيات التي قيل إنها أبرمت، أين أبرمت وأين هي الوثيقة؟ كلها كذب وزور وبهتان.. الأمر لا يتعلق بإمضاء أي وثيقة مع أي كان باستثناء هذين الوثيقتين، ومعلوم من أمضاها واختار أن يأخذ بإملاءات عدد من الجهات الأجنبية”. بهذه العبارات التي أدلى بها الرئيس سعيّد يوم السادس من أفريل أمام ضريح الحبيب بورقيبة، وبعد أسبوعين من إحياء اليوم العالمي للقضاء على التمييز العنصري الموافق ليوم 21 مارس من كل سنة، يتواصل الإنكار الرسمي كما للجمهور المُساند للسلطة عن التزامات “جديدة” تخُص ترحيل المهاجرين التونسيين غير النظاميين إلى تونس. غير أن “الخطأ قد وقع” كما يقول المثل الفرنسي حيث تتواصل عمليات الإبعاد مهما كان المبرر القانوني سواء كان قديما أو مستحدثا. وهو ما أذكى محاججة أصوات عدة لمراجعة الإتفاقيات السابقة أو إلغائها، إذا كانت الإرادة السياسية فعلا تتجه نحو ذلك كما تزعم.
في تحقيق لموقع انكفاضة، بلغ عدد المُرحلين قسرا من إيطاليا سنة 2023 عبر رحلات شارتر ما يقارب 2500 شخصا، جلهم، أي ما يزيد عن ال2000 شخص، تونسيون، تم ترحيلهم من مطاري ترييستي وروما الإيطاليين، وتتوقف مختلف هذه الرحلات في باليرمو للتأكد من هوية الأشخاص المُرحلين من قبل السلطات القنصلية التونسية في المدينة. وقد ازدادت عمليات الترحيل بعد سنة 2019، تاريخ إدراج إيطاليا لتونس كأحد بلدان المنشأ الآمنة رغم تعارض ذلك مع إجراءات الحماية الدولية حسب عديد الأوساط الحقوقية، لتصل في بدايات سنة 2025 إلى وتيرة عالية، بلغت 470 شخصا تمّ ترحيلهم إلى مطار طبرقة الدولي خلال الأشهر الثلاثة الأولى فقط، حسب أرقام وزارة الداخلية الإيطالية. هذا الجدل حول الترحيل القسري يفتح نافذة مهمة لمناقشة الأطر المعتمدة لهذه العمليات، ومنها خاصة الإتفاقيات الثنائية، إضافة إلى عدد من التفاهمات الأخرى غير المعلنة، الخاضعة للأوامر الأوروبية ضمن هذا الملف، ولكن المعمول بها إجرائيا مع ذلك.
مذكرة أوت 1998، بداية قصة “إعادة القبول”:
في 6 أوت 1998 عقدت اللجنة المُشتركة التونسية الإيطالية اجتماعا في العاصمة الإيطالية روما ل”تنظيم المسائل المُتعلقة بالدخول والإقامة في أراضي كل من البلدين”. وكانت نتيجة هذا اللقاء إصدار مذكرة شفوية note verbale في نفس اليوم، وقعت عليها كل من وزارة الخارجية الإيطالية والسفارة التونسية بروما. تُعتبر هذه المذكرة بمثابة الأساس المرجعي لمختلف الإتفاقيات التي تلتها في ما يخص الترحيل القسري، حيث أكدت على عدد من الشروط لإعادة المهاجرين التونسيين، كما نصّت كذلك على إنشاء مراكز احتجاز تموّلها إيطاليا في تونس، في مقابل إحداث نوع من التعامل “المميّز” (حسب نصّ المذكرة) على مستوى الحصص السنوية المخصصة لدخول العمال التونسيين إلى سوق الشغل الإيطالية. وفي تقرير للمنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية FTDES بالإشتراك مع Migreurop في جوان 2020، نجد تنصيصا على تفاهمات أخرى غير منشورة بين الحكومة التونسية وبعض البلدان الأوروبية الأخرى في موضوع الترحيل، والتي يتمّ العمل بصمت على تفعيلها، مثلما يُشير إلى ذلك التقرير.
وضمن نفس الإطار، تحمل بعض الاتفاقات المُعلنة الأخرى جوانب تمُسّ بشكل مُباشر مسألة الترحيل القسري، ويمكن أن نذكر هنا “الإتفاق الإطاري بين تونس وفرنسا المتعلق بالتصرف التوافقي في الهجرة والتنمية المتضامنة”، الموقع بتونس في 28 أفريل 2008. حيثُ ينصّ الفصل الثالث من هذا الإتفاق على عدم اللجوء إلى الترحيل الجماعي للمهاجرين غير النظاميين أو نشر الموضوع على المستوى الإعلامي، غير أنه يضع مع ذلك آليات “إعادة القبول” للأشخاص المتواجدين بشكل غير نظامي وطرق التواصل الدبلوماسي بين البلدين حول هذا الغرض. كما يتضمّن “البروتوكول المُرافق حول التصرف التوافقي في الهجرة والتنمية المُتضامنة” بين الحكومة التونسية والحكومة الفيدرالية الألمانية، الموقع في تونس في 22 و23 فيفري 2017، قسما خاصّا حول ترحيل التونسيين المتواجدين بشكل غير قانوني في ألمانيا، سواء فرادى ضمن الرحلات التجارية أو عبر مجموعات في رحلات خاصة (على أن لا يتجاوز عدد أفراد المجموعة 25 شخصا).وعلى عكس الإتفاق الإطاري مع فرنسا، يتوسع هذا البروتوكول في استعراض التفاصيل الإجرائية المُتعلقة بعمليات الترحيل. حيث يتمّ بداية جمع بصمات الأشخاص المعنيين بهذه الإجراءات من قبل السلطات الألمانية وإرسالها بالبريد الإلكتروني إلى المصالح القنصلية التونسية، التي تُرسلها بدورها إلى الإدارة العامة للحدود والأجانب بوزارة الداخلية، ثم يتم التثبت منها في الوزارة وإرسال نتائج التحريات في ما بعد إلى ألمانيا في ظرف 30 يوما. ويُلزم البروتوكول السلطات التونسية بإصدار تصريح سفر للشخص المعني خلال خمسة أيام من صدور نتائج التثبت. كما يشترط مرافقة الأمن الألماني للتونسيين المُرحلين عبر الرحلات الخاصة حتى وصولهم إلى الوجهتين النهائيتين اللتين نصّ عليهما البروتوكول، وهما مطار النفيضة الحمامات الدولي، أو المحطة الثانية بمطار تونس قرطاج.
2025، الطريق نحو الذروة
لم يكن الالتزام بالمذكرة الموقعة مع الطرف الإيطالي في 1998 مباشرا من حيث التأثير، حيث لم يتعدّ عدد المرحلين سنويا بضعة أفراد خلال السنوات الأولى التالية لتوقيعها. إلا أن عددا من النصوص الأخرى قد ساهم في “تأطير” عمليات الإجلاء بوتيرة أقوى، ومن بين أهم هذه النصوص، الاتفاقية الثنائية بين وزيري داخلية تونس وإيطاليا في 27 جانفي 2009، التي سمحت بالترحيل التدريجي للمهاجرين غير النظاميين التونسيين وإعادة قبول مهاجرين من دول ثالثة سبق لهم المرور من تونس، حيث كان الهدف من الاتفاقية تنظيم عودة 500 مهاجر مسجونين في مركز احتجاز لمبيدوزا إلى تونس، مع اللجوء إلى إجراءات لتسريع عودة 200 شخص شهريا بعد أن كان العدد أربعة أو خمسة أشخاص قبل ذلك. في حين شكل محضر الجلسة الذي تم توقيعه بين الجانبين التونسي والإيطالي في 5 أفريل 2011 الأساس القانوني الرئيسي الذي اتكأت عليه إيطاليا في عمليات الترحيل الجماعي بعد الثورة، حيث أصبحت تونس مجبرة عبرهُ على استقبال طائرتين لترحيل المهاجرين أسبوعيا من مدينة باليرمو إلى مطار النفيضة في تونس.
وتُعتبر سنة 2017 من بين السنوات الفاصلة في ملف الترحيل القسري، فمع زيارة رئيس الحكومة آنذاك “يوسف الشاهد” إلى إيطاليا تم طرح خارطة طريق حول مسألة الهجرة. وقد تضمّن الإعلان المُشترك بين الطرفين التونسي والإيطالي جانبا حول التصرف المشترك في تعزيز مكافحة الهجرة غير النظامية عبر تعزيز المُراقبة البحرية. وإن لم يتم الحديث بشكل مُباشر عن مسألة إعادة الاستقبال، إلا أن ارتفاع عدد التونسيين المُرحلين خلال تلك السنة إلى أكثر من 1500 شخص يُشير إلى وجود نقاشات وتفاهمات غير معلنة بين الطرفين حول هذا الموضوع. كما يُشير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى تفاهمات غير مُعلنة أخرى بين الطرفين التونسي والإيطالي سنة 2021 قد ساهمت في رفع نسق الترحيل، هذا فضلا عن اتفاق سابق بين الحكومة الإيطالية ونظيرتها التونسية في 17 أوت 2020، لم يتم الكشف عن فحواه رغم تقديم عدد من مكونات المجتمع المدني، ومن بينها “محامون بلا حدود” و”المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية” مطالب نفاذ للمعلومة في ذلك إلى الطرفين التونسي والإيطالي.
ورغم الإنكار الرئاسي المُبطّن لأثر مذكرة التفاهم التي وقعتها الدولة التونسية مع الاتحاد الأوروبي في 16 جويلية 2023 “حول شراكة استراتيجية وشاملة” على ملف إعادة القبول، إلا أن الوقائع والتصريحات تُفيد بالعكس تماما. إذ أن جزءًا من مذكرة التفاهم ينصّ صراحة على مسألة الترحيل، وهو ما أكدته تصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين سابقا، بالتوازي مع ما أوردته مقالات بعض كبرى الصحف الأوروبية المستقلة. يُضاف إلى ذلك عدد من الإجراءات الأوروبية الجديدة في ملف الهجرة، التي تحمل توجها أكثر حسما. فقد ناقشت دول الإتحاد الأوروبي في قمة بروكسيل يوم 17 أكتوبر 2024 كيفية صياغة تشريع لتسريع عمليات ترحيل المهاجرين غير النظاميين، كما سبق لها أن اعتمدت في شهر ماي من نفس السنة “ميثاق الهجرة واللجوء” الذي من المُفترض أن يبدأ العمل به في منتصف سنة 2026، لتشديد المراقبة على الحدود وإحداث آلية للتعاون بين دول الإتحاد الأوروبي. مما يُثير الإرتباط المباشر لمذكرة التفاهم الموقعة مع تونس مع مجمل السياسات الأوروبية في مجال الترحيل القسري على وجه الخصوص.
وأثر مُذكرة التفاهم على مسألة الترحيل القسري للتونسيين المتواجدين في إيطاليا يتّضح خاصّة من خلال تسارع وتيرة الترحيل خلال الأشهر الستة الأولى من سنة 2024 حيث تم تنظيم 35 رحلة جوية للترحيل القسري لعدد من المهاجرين غير النظاميين من مراكز الاحتجاز الإيطالية. لتتسارع وتيرة الترحيل خلال الأشهر الأولى من 2025 لتسجل زيادة بين 15 و20 بالمائة عن مثيلتها في السنة السابقة حسب تصريح وزير الداخلية الإيطالي “ماتيو بيانتيدوزي” في 17 فيفري الماضي. ووسط الإنكار الرسمي التونسي وتباهي مسؤولي حكومة اليمين المتطرف الإيطالي بنجاح سياسة الترحيل، تتواصل المُعاناة الإنسانية للمهاجرين التونسيين، وهم الضحايا المباشرين لسياسة الابتزاز الأوروبي والخضوع الرسمي التونسي، لتصل حدّ محاولات الانتحار، في ظل تجاهل تامّ لمآسيهم.
متوفر من خلال: