أي مصير لفعل المعارضة في ظل حالة الاستثناء؟


2021-11-22    |   

أي مصير لفعل المعارضة في ظل حالة الاستثناء؟

منذ 25 جويلية 2021 يَشهد الفضاء المعارض في تونس، بشقّيه الحزبي والجمعياتي، تحوّلات متتالية على مستوى التركيبة والممارسة السياسية والمضامين الخَطَابيّة. وباتت “حالة الاستثناء” التي دشّنَها الرئيس قيس سعيد تُواجه الفعل المعارض بإشكالات متعلقة بالشرعية والفاعلية وآليات الاحتجاج والتنظم، كما تمهّد لإعادة تشكيل مجاله السياسي بفعل الأمر الرئاسي عدد 117 عبر التحكّم الأحَادي في أساسه التشريعي وتحديد مؤسسات المشاركة السياسية وآليات التداول على السلطة.

وفي حين تسعى فيه المعارضات القديمة والجديدة إلى بناء أدوات سياسية وتنظيمية لمواجهة السلطة الجديدة، يبحث الرئيس سعيد عن مداخل لتحجيم دور المعارضة والحدّ من فاعليتها السياسية والاجتماعية. في هذا السياق، تفتح المرحلة القادمة على الكثير من الأسئلة: كيف ستواجه المعارضة مظاهر الهيمنة الجديدة في ظل ما تعانيه من مآزق داخلية؟ أي مصير للفعل المعارض برمته في ظل تصلّب السلطة الجديدة ونزوعها نحو الإلغائية والعقاب؟ أئلة عدة سنحاول الخوض بها على طول هذا المقال.   

تغيّر تركيبة الفضاء المعارض

كان الأثر الأبرز لحالة الاستثناء أنها أعادت تشكيل التركيبة السياسية للفضاء المعارض. إذ جعلت الأغلبية البرلمانية الحاكمة، الممثلة بحركة النهضة الإسلامية وحلفائها، تتدحرج نحو سياق المعارضة. وفي المقابل، اتّجهت بعض قوى المعارضة القديمة نحو التّماثل مع الخطاب الرئاسي على غرار “حركة الشعب” و”التيار الشعبي” و”حركة تونس إلى الأمام”، ممّا جعلها حليفا موضوعيا للسلطة. وقد كان للأمر الرئاسي عدد 117 دور كبير في دفع بعض القوى الحزبية الأخرى نحو الاستقرار في موقع المعارضة، بعد أن عبّرت سابقا عن مواقف شبه مؤيدة لتدابير 25 جويلية، على غرار “الحزب الجمهوري” و”التيار الديمقراطي” و”حزب آفاق تونس” و”حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات” و”الحزب الدستوري الحر”. أما حزب العمّال اليساري فقد حافظ منذ البداية على موقفه إزاء الرئيس قيس سعيد، ووصَفه بالحامل لمشروع استفراد بالحكم، واعتبره جزءاً من المنظومة التي حكمتْ البلاد قبل 25 جويلية 2021.

هذا الفضاء المُعارض المتنوع في خلفياته الفكرية وتصوراته السياسية، لا يُوحّده ظاهريا سوى الموقف السياسي العام من إجراءات 25 جويلية، بوصفها تهديدا للديمقراطية التمثيلية وتعليقا للحياة الدستورية، في حين تشقّه الكثير من التنازعات التي لم يكن الاتفاق حول معارضة الرئيس قيس سعيد كافيا لوضع حدّ لها. إذ تُبدي المعارضات الوسطية واليسارية تحفّظات كبيرة إزاء حركة النهضة الإسلامية، وتُحمّلها القسط الأكبر في فشل مرحلة الانتقال الديمقراطي. وقد سبق لجزء من هذه المعارضات أن شارك في الحكم خلال العشر سنوات الفارطة، من مواقع مختلفة، على غرار “التكتل من أجل العمل والحريات” و”آفاق تونس” و”التيار الديمقراطي”. وتسعى هذه الأحزاب إلى تشكيل تحالف سياسي جديد أطلقت عليه “تنسيقية القوى الديمقراطية”. في موازاة ذلك، تسعى حركة النهضة وجزءٌ من حلفائها السابقين في الحكم، على غرار حزبيْ “قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة”، إلى تشكيل جبهة سياسية معارضة للرئيس سعيّد، لا تقتصر فقط على التيار الإسلامي وإنما تضم نشطاء وكيانات سياسية من خارجه. وأصبحت هذه الجبهة تُعرف باسم “مواطنون ضد الانقلاب”.

أما الحزب الدستوري الحرّ فيشكّل حالة منفردة داخل الفضاء المعارض، إذ لا يؤسس مواقفه المعارضة من داخل الانتصار لمنظومة الانتقال الديمقراطي والثورة بشكل عام، ولكنه في الوقت نفسه يشكّك في “الشرعية الدستورية” لقرارات الرئيس. ويُولي الحزب الدستوري شطره نحو السلطة التي آلت كلها إلى الرئيس سعيد، ويرى في ذلك تحجيما لموقعه كبديل سلطوي كان يستعد لوراثة منظومة ما قبل 25 جويلية. ويلتقي الحزب الدستوريّ الحرّ مع الرئيس سعيّد حول فكرتيْ تعليق العمل بدستور 2014 واستبدال النظام البرلماني بنظام رئاسي.    

حالة الاستثناء والتهديد السلطوي للفعل المعارض

دائما ما يسعى الرئيس قيس سعيّد إلى إبراز التّدابير الاستثنائية بوصفها ضرورة ذات دواعٍ سياسيّة واقتصادية واجتماعية، ولكنّها في الوقت نفسه لا تشكل -في نظره- خروجا عن المعيارية الدستورية والقانونية. ولعلّ هذا التصور يُحيل إلى جزء من استنتاجات جورجو أغامبين في توصيف مخاطر حالة الاستثناء ومزالقها، عندما أشار إلى أنها “مظهرٌ من مظاهر الضرورة…وهي تقدم نفسها كإجراء غير قانوني لكنه متفق مع النظام الدستوري والقانوني، ويتحقق هذا الإجراء ويصبح حقيقة واقعة عبر إنتاج قواعد معيارية جديدة أو نظام قانوني جديد”.[1] ويُشكّل الأمر الرئاسي عدد 117 مدخلاً لإنتاج قواعد قانونية جديدة، من ضمنها إعطاء رئيس الجمهورية الحق في إصدار مراسيم متعلقة بـ”تنظيم الأحزاب والنقابات والجمعيات والمنظمات والهيئات المهنية وتمويلها”. وستُشكل هذه النصوص أساسا تشريعيا جديدا لتنظيم الفضاء المعارض وفقا لتصورات نظام الحكم الاستثنائي، الذي ينزع حاليا نحو خلق “الإجماع” وليس “التعددية”، ونحو المنع والتضييق وليس احترام الحريات العامة (حريات التظاهر والاجتماع والتعبير). وتحتفظ السلطة الحالية بخطاب يسعى إلى إعطاء أساس قانوني للمنع، على غرار ما صرّح به الرئيس سعيد في الآونة الأخيرة: “أنا لا أمنع إلاّ بناءً على القانون”.         

يشكّل الأمر الرئاسي 117 إطارا لممارسة السلطة في معناها الكلي، تحت حجية الضرورة القاهرة التي لا يتّضح سقفها الزمني حتّى الآن. وهذه السلطة الكليّة تسعى كأي سلطة إلى تثبيت وجودها المؤسساتي والمعياري من خلال السعي إلى “إنتاج أفعال مختلفة من الإكراه والقهر” على حد تعبير عبد الإله بلقزيز.[2] ولا يبدو الفضاء المعارض بتعبيراته المختلفة بمنأى عن التوجه القهري- الإكراهي للسلطة. وستكون مشاريع الإصلاحات السياسية التي أشار إليها الأمر 117 تجسيدا لهذا التوجه لأنها ستجنح نحو خلق قاعدة قانونية جديدة تخدم مشروع المركزة السياسية وتُهمش المعارضات، خاصة الصغيرة منها. وانسجاما مع هذا الاتجاه، سبق أن وصف الرئيس قيس سعيد بعض معارضيه بأنهم “لا وزن لهم في المجتمع”.        

بالتوازي مع ذلك، يتّجه الخطاب الرئاسي إلى أخلقَة المجال السياسي، عبر تقسيمه عموديا إلى محورين متناحرين أبدا: محور الأخيار والصادقين الذين “لاتشوبهم شائبة” على حد تعبير الرئيس، مقابل “محور الشر” الذي يضم الفاسدين والمتآمرين والمتسلّقين الذين لا مكان لهم سوى “مزبلة التاريخ”. ومن داخل هذا التصور المانَوي، يُجَرَّد الفعل المعارض من كل معقولية سياسية ويصبح أكثر ارتباطا بكل الأخلاق والقيم السلبية.

وهكذا “لا تعود المعارضة السياسية آلية من آليات النظام السياسي، ودينامية دافعة نحو تجديده، ونحو تنمية المجال السياسي العمومي، بل تتحوّل لسبب لبث الفرقة في لحمة الجماعة والأمة، وإلى سبب لإشعال فتيل الفتنة”.[3] وتؤدي هذه النظرة إلى تدحرج السلطة شيئا فشيئا نحو النفي السياسي؛ نفي كل ما يقع خارج مجالها الإخضاعي. وحتى الآن، يبدو أن وعود نظام الحكم الاستثنائي بتحرير الأغلبية المسحوقة من هيمنة “الأقلية الفاسدة”، يقابلها في الواقع اتجاه ملموس نحو إعادة استخدام الأدوات العِقابية والأمنية في إدارة الاحتجاجات الاجتماعية، على غرار ما شهدته مؤخرا مدينة عقارب بسبب أزمة النفايات.[4]

استراتيجيا امتصاص شعارات من هم خارج السلطة

لقد أفلح الرئيس قيس سعيد -إلى حدّ ما- في التسييس المفرط لبعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية، بمعنى تعميم النقاش السياسي حولها بعد أن كانت حكرا على بعض الجماعات السياسية والفكرية. من الأمثلة على ذلك قضايا “التفاوت الطبقي” و”السيادة الوطنية” و”الفساد”…صحيح أن هذه القضايا كانت متدوالة ولكنها لم تكن تحظى باهتمام مجتمعي مثلما جرى في الفترة الأخيرة. إضافة إلى أن النخب الحاكمة السابقة تَعامَلت مع هذه القضايا ببرود مُفرط وربما بإنكار مُستراب. لقد نجح الخطاب الرئاسي الاختزالي والأخلاقوي في اختراق فضاءات اجتماعية جديدة، لم تكن تُولٍ اهتماماً كبيرا بالقضايا الاقتصادية أو الاجتماعية البنيوية والمصيرية.

رغم أن الرئيس سعيد يمسك بكل السلطات تحت يديه، إلا أنه يعبر عن تصوراته للقضايا الكبرى (الفساد، التفاوت، السيادة…) ضمن خطاب سياسي أقرب إلى لهجة المعارضة. إذ لا يستعرض تصوراته ومواقفه بوصفها برنامجا للحكم، وإنما يُقدّمها ضمن خطاب احتجاجي، يحكمه التنازع الدائم مع “أعداء الوطن” غير المرئيين، الذين يُشير إليهم الرئيس في معظم الأعيان تلميحًا وليس تصريحًا. ويحاول الرئيس عادة التعبير عن تصوره للأشياء والظواهر من خلال القنوات الرمزية، الأمر الذي جعله آكلا نَهمًا للشعارات والقضايا، خاصة القضايا التي يحملها أولئك القابعين خارج فضاء السلطة. في هذا السياق نسوق بعض النماذج: كان استدعاء السفير الأمريكي في قصر قرطاج كافيا إلى إرضاء انكسار رمزي غامض تعانيه الجماهير المهزومة. ولكن بالمحصلة، على المستوى العملي، لم يستعرض الرئيس تصورا سياديا جديدا. كما كانت المداهمات الميدانية لمصانع تخزين بعض المنتوجات، كافية للإيهام بأن الرئيس بصدد مقاومة فساد الاحتكارات. ولكن على المستوى السياسيّ غابت الرؤية الاقتصادية الشاملة للقضاء على ظاهرة الاحتكار، بل أعطِيَ الأمان لاحتكارات أكبر.

كان تعيين امرأة على رأس الحكومة، وبتركيبة يكاد يشكلن النساء نصفها، كافيا لإثارة حسّ نسائي مساند لحكومة الرئيس، كما ساهم في تحييد جزء من الحركة النسوية التونسية. ولكن كل هذا لم يضع المضمون البطرياركي للسلطة أمام التقويض والمراجعة، كما أنه لم يُغيّر مواقف الرئيس المعارضة لبعض القضايا المتعلقة بالمساواة، وفي مقدمتها قضية المساواة في الميراث.         

إنّ الخطاب العامّ والفضفاض للرئيس سعيّد، جعله أشبه بـ”الدالّ العائم”[5] على حد تعبير لاكلو، وجذب إليه بعيْد 25 جويلية الكثير من الرايات السياسية والفكرية المتناقضة، لأنه في حدّ ذاته كان راية غامضة احتشدت وراءها الأجسام السياسية المتضادّة والمتنازعة. وحتى الآن، يسعى الرئيس إلى امتصاص كل القضايا السياسية والاجتماعية، التي يناضل معارضوه تحت رايتها، حتى يترك انطباعا بأنه “الأصدق” في التعبير عنها والانشغال بها.      

المعارضات ومآزق “الحزبية النمطية”

تُواجه الظاهرة الحزبية في تونس خلال هذه المرحلة -بخاصة بعد 25 جويلية- تحديات وإشكالات ليست هيّنة، وسيَكُون لها تأثير على مستقبل الديمقراطية في تونس. تُواجه الأحزاب تحدّيا خارجيا، تجسّده نظرة الرئيس لفكرة التحزّب، إذ يعتبرها ظاهرة تاريخية آيلة إلى الاندثار، وهي في “حالة احتضار”[6] ستنتهي بموت محتوم. وعلى الصعيد العملي، يسعى الرئيس سعيد إلى التعجيل بذلك، سواء على المستوى الرمزي من خلال التشكيك في استقامة الأحزاب وقذفها بالانتهازية، أو على المستوى السياسي والتشريعي من خلال التضييق على أنشطتها والإعداد لقاعدة قانونية جديدة تقلّص من فاعليتها في الحياة السياسية.      

أما على مستوى آخر، فتبدو الأحزاب مُطوّقة بأزمات داخلية، تضعها في مأزق مع أنصارها من جهة ومع المجتمع بشكل عام من جهة أخرى. وعادة ما تُعبّر الأزمات الداخلية عن نفسها من خلال ظاهرة “الانشقاق الحزبي”، التي ترافقها في معظم الأحيان مواقف منادية بـ”دمَقرَطة” الحياة الحزبية وتشريك أوسع لمجموع الحزب في النفاذ إلى المواقع والقرارات. هذه الدينامية الداخلية المحكومة بالتصادم والصراع تركت آثارًا سلبية لدى جمهور المتابعين، وساهمت في تكريس صورة نمطية عن الظاهرة الحزبية، بوصفها شأنا نخبويا منفصلا عن انتظارات أغلب الفئات الاجتماعية. وهو ما يسعى الرئيس -ومن خلفه مناصروه- إلى اثباته، عبر إبراز قصور الظاهرة الحزبية عن التعبير عن حاجيات المجتمع. ويشكّل التشكيك في القيمة الاجتماعية للأحزاب مدخلا للتأسيس لـ”منطق سياسيّ” جديد، مناوئ للنخب السياسية ويحتكر الحديث باسم الشعب، ويستعرض المشروع المَجالسي بوصفه تعبيرا عن “الديمقراطية الجذرية”. وهذا المنطق لا يؤسس لنفسه من خلال تماسكه السياسي والفكري الداخلي، وإنما عبر قوّة نفي الآخر، وبخاصة الآخر الحزبي.     

إن المرحلة القادمة، ستضع الأحزاب التونسية أمام إشكالات ضاغطة، متعلقة أساسا ببنائها الداخلي ودورها الاجتماعي، وبأنماطها التنظيمية سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة. وعلى الأرجح ستكون المرحلة الحزبية القادمة مَسكونة بهواجس المراجعات والتقويض والتحالفات.


[1]جورجو أغامبين. حالة الاستثناء: الانسان الحرام (ترجمة ناصر إسماعيل) ط1، مصر: مدارات للأبحاث والنشر، 2015، ص:  85.

[2]عبد الإله بلقزيز. نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، ط2، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010، ص: 120.

[3] المرجع نفسه، ص:123.

[4] انظر مواكبة المفكرة القانونية لأزمة النقايات في عقارب، من خلال مقالتي؛ أزمة نفايات صفاقس: عندما تسقط الشعارات في اختبار الميدان/ أهالي عقارب بين القمع البوليسي والإرهاب البيئي.

[5]  محمد هدهود. وعود الشعبوية وغوايتها: إرنستو لاكلو والبحث عن استراتيجية للقوى الديمقراطية، مجلة مرايا، موقع أكاديميا.

[6]  سبق وأن عبر الرئيس قيس سعيد عن موقفه من الظاهرة الحزبية بشكل عام ومن الأحزاب التونسية خصوصا، قبل صعوده بقليل إلى سدة الحكم، خلال حوار أجرته معه الأسبوعية التونسية الشارع المغاربي. انظر الحوار على الرابط التالي.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، حرية التعبير ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني