أي سياسات إسكانية في لبنان؟


2019-07-02    |   

أي سياسات إسكانية في لبنان؟

على الرغم من كونه حقاً أساسياً من حقوق الإنسان[1] ومتمتعاً بقيمة دستورية[2]، لطالما شكّل الوصول إلى سكن ميسّر ولائق أحد أبرز التحدّيات في لبنان خصوصاً في فترة ما بعد الحرب. وتبدو السلطة الحاكمة من هذا المنظور في موضع تقصير تجاه العديد من المواطنين بفعل تخلّفها عن وضع سياسات إسكانية بما يناقض موجباتها الدستورية. فالمجلس الدستوري اللبناني أوضح في قراره رقم 6/2014 أن “الحق في سكن لائق استناداً إلى الشرعات الدولية يفرض موجباً (…) على السلطات العامة في اعتماد سياسات عامة اجتماعية واقتصادية في الإسكان والتنمية المتوازنة والنقل، وبخاصة في لبنان حيث يساهم نقل مشترك منتظم في تشجيع السكن في مختلف المناطق وتجنّب ترييف المدينة ruralisation des villes، وتجنّب الاضطراب في بنياتها السكنية ونسيجها الاجتماعي”. كما أعاد التأكيد في قراره رقم 3/2017 أن “توفير السكن للمواطن هدف ذو قيمة دستورية ينبغي على السلطتين الاشتراعية والإجرائية رسم السياسات ووضع القوانين الآيلة الى تحقيق هذا الهدف”.

ويتطلّع هذا المقال إلى البحث عن معالم السياسة الإسكانية التي وضعتها الدولة اللبنانية، ومضامينها.

وفي هذا السبيل، عمدنا إلى استعراض جميع التشريعات التي توالت والمرتبطة مباشرة أو غير مباشرة بالحق في السكن. إلا أن هذا الأمر لا يكفي للإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه، إذ أن مفهوم “السكن” يحمل أبعاداً اقتصادية وإجتماعية. من هنا، أجرت “المفكّرة”، وفي سبيل استكمال البحث حول نظرة الدولة “للسكن” والسياسات التشريعية المرتبطة به، مجموعة من المقابلات مع أصحاب الإختصاص (أستاذة الدراسات الحضرية والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت منى فواز، والمدير التنفيذي لـ”مؤسسة البحوث والإستشارات” كمال حمدان، ومحرر ملحق رأس المال في جريدة “الأخبار” محمد زبيب، وأمين عام “حركة مواطنون ومواطنات في دولة” والوزير السابق شربل نحاس ورئيس “المؤسسة العامة للإسكان” روني لحود).

ونسارع إلى القول مع الخبير الاقتصادي كمال حمدان، واختصاراً لاتجاهات السياسة الإسكانية في لبنان، أن “طبيعة الخيارات والسياسات التي تعاقبت الحكومات اللبنانية على اعتمادها تاريخياً في المجال السكني، ]صبّت[ في اتجاه اعتبار سلعة/خدمة السكن محكومة حصراً بآليات قوى السوق والمنافسة غير المضبوطة، بدل اعتبارها حاجة اجتماعية ملحّة تتطلب التدخّل النشيط والفاعل للدولة عبر رزمة متكاملة من السياسات والإجراءات التنفيذية. باختصار، أعطيت الأولوية دائماً لمصالح رأس المال في هذا الحقل الاجتماعي الحيوي الذي يعني مئات الألوف من الأسر اللبنانية”[3].

1- تعريف الحق في السكن وتمييزه عن الحق في الملكية

يمكن تعريف الحق في السكن استناداً إلى تعليقات لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتّحدة على المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والإجتماعية والثقافية التي تشير إلى أنّ “الحق في السكن ينبغي ألا يفسّر تفسيراً ضيقاً أو تقييدياً يجعله مساوياً، على سبيل المثال للمأوى الموفّر للمرء بمجرد وجود سقف فوق رأسه”. وينبغي النظر إلى هذا الحق باعتباره “حق المرء في أن يعيش في مكان ما في أمن وسلام وكرامة[4]“.

كما تشدّد الأمم المتحدة على اللغط القائم في أغلب الأحيان بين الحق في السكن والحق في الملكية. وتشير إحدى الدراسات التي وضعتها منظمة الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية إلى أن “الحق في السكن اللائق أوسع نطاقاً من الحق في الملكية لأنه يتناول حقوقاً ليست لها صلة بالملكية والقصد منه هو ضمان أن يكون لكل شخص مكان يتصف بالأمـان والأمن ليعيش فيه بسلام وكرامة، بما في ذلك من ليسوا ملاكاً. وأمن الحيازة، الذي يُعتبر حجر الزاوية في الحق في السكن اللائق، يمكن أن يتخذ أشكالاً شـتى، منـها السكن المخصص للإيجار لفترات قصيرة أو السكن التعاوني أو الإيجار لفترات طويلة أو إقامة المالك في المسكن أو السكن الطارئ أو المستوطنات غير الرسمية”[5].

ويبرز إثر ذلك فارق أساسي أظهر البحث حول مسألة السكن في لبنان ضرورة التشديد عليه، وهو الفارق بين مفهومي “السكن” والملكية”. فأحد أبرز أسباب فشل السياسات (والتشريعات) المتعاقبة في تأمين الحق في السكن هي النظرة التي تغلّب ضمنها منطق التملّك كشرط للوصول إلى سكن لائق[6].

2- مرحلة 1962-1996؛ سياسة إسكانية هامشية: تشريعات تقرّ ضمنياً الحق في السكن

في سبيل تبيان معالم السياسة الإسكانية – إن كان هنالك من سياسة إسكانية[7]، اقتضى العودة إلى الإلتزامات التي أعلنتها الدولة اللبنانية لتأمين هذا الحق، بمعنى آخر إلى التشريعات التي وضعتها في هذا السبيل.

ونتبيّن في إثر مراجعة هذه التشريعات – وتعود غالبيتها إلى ما قبل الحرب الأهلية – ومصيرها، أن ما قامت به الدولة هو إنشاء مؤسسات إسكانية الواحدة تلو الأخرى، أناطت بها بعض الأدوار في سبيل تأمين المسكن لبعض الشرائح غير الميسورة، إلا أنه غابت في المقابل عن التشريعات أي رؤية شاملة ومتكاملة لتحقيق الوصول إلى سكن لائق للجميع.

وأول مدماك في التشريعات المرتبطة بالحق في السكن كان عام 1962، مع صدور قانون “تسهيل إسكان المعوزين وذوي الدخل الوضيع والدخل المحدود” (أو ما يُعرف بقانون الإسكان) الذي عدّل في العام 1965 بموجب القانون رقم 58/1965، وكرّس ضمنياً[8] السكن كحق، من خلال الإقرار بموجب الدولة تأمينه لشريحة المواطنين الأكثر هشاشة.

ومن أبرز ما تضمّنه هذا القانون أن الغاية منه “تسهيل إسكان اللبنانيين المعوزين، وذوي الدخل المتواضع وذوي الدخل المحدود في مساكن ملائمة في المدن والقرى. وذلك عن طريق:1- تأمين بناء هذه المساكن؛
2- تمكين المستفيدين من شرائها من التقسيط لآجال متوسطة وطويلة؛ 3- تقديم مساعدات وتسهيلات لتحوير المساكن القائمة، أو توسيعها، أو تحسينها أو ترميمها”. وأنشئت بموجب القانون في صيغته الأساسية (أي صيغة العام 1962) ضمن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وتحت وصايتها هيئة تدعى “مجلس الإسكان”، أنيط بها تحقيق غايات القانون، بواسطة شركات مختلطة بين القطاعين العام والخاص تساهم فيها الدولة، أو من خلال تسهيلات مشروطة تقدمها الدولة للجهات الراغبة في بناء مساكن ميسّرة. وبعد تعديل العام 1965، أنيطت هذه المهام مباشرة بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، في حين أعطي “مجلس الإسكان” مهمة اقتراح سياسة عامة لإسكان الفئات التي يتوجه إليها القانون، وإبداء الرأي في مشاريع المراسيم التي تُتخذ تنفيذاً لقانون الإسكان.

كما تضمّن القانون إعفاءات من رسوم وضرائب واسعة بغية مساعدة هذه الفئة من المواطنين على اقتناء مسكن.

وتم بموجب تعديل 1965 إنشاء صندوق خاص للإسكان تمسك حساباته لدى مصلحة الخزينة في وزارة المالية، يكون تابعاً لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية وذلك لتأمين الأموال اللازمة في سبيل تحقيق أهداف هذا القانون.

في 21/12/1973، صدر القانون الخاص بتحديد مهام وصلاحيات وزارة الإسكان والتعاونيات رقم 31 الذي ألغى “مجلس الإسكان” وأنشأ المديرية العامة للإسكان مكانه، كما نقل جميع المهام الإسكانية التي كانت مناطة بوزارة العمل والشــؤون الاجتماعية (عن طريق مجلس الإسكان) إلى وزارة الإسكان والتعاونيات عن طريق المديرية العامة للإسكان.

وفي 8/1/1977، صدر القانون المنفّذ بالمرسوم رقم 14 تاريخ 15/1/1977 والذي قضى بوضع “مصرف الإسكان” المنشأ عام 1975 موضع التنفيذ، ومن مهامه قبول الودائع لمدة لا تقل عن سنتين وتمويل مشاريع الإسكان من إنشاء وترميم وتحسين المجموعات السكنية والمساكن. وكان رأسماله يتوزّع بين ثلاث فئات من المساهمين، الدولة التي تساهم بما نسبته 20% على الأقل والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يساهم بـ30% على الأقل، والقطاع الخاص بما تبقى أي 50% من الرأسمال.

من ثم، أتى قانون البلديات 118/1977 وسمح في المادة 50 منه ” للمجلس البلدي ضمن منطقته أن ينشئ أو يدير بالذات أو بالواسطة أو يسهم أو يساعد في تنفيذ الأعمال والمشاريع الآتية (ومن ضمنها) المساكن الشعبية”. وتجدر الإشارة إلى أن البلديات لم تستخدم هذه الصلاحية إلا في حالات نادرة[9].

وبتاريخ 17/5/1980 صدر القانون رقم 6/80 المتعلق بإنشاء مؤسسة سكنية جديدة تحت إسم “الصندوق المستقل للإسكان” والذي من مهامه إعطاء قروض لإنشاء 20 ألف وحدة سكنية تموّل من عائدات زيادة عامل الإستثمار. ولكن تمّ إلغاء هذا الصندوق مرّة أولى من خلال المرسوم الإشتراعي 129/1983 الذي قضى بإنشاء المؤسسة العامة للإسكان، وضم جميع موجودات الصندوق إليه. إلا أنه وبعد سنتين، تم بموجب المرسوم الإشتراعي 33 تاريخ 23/3/1985 إلغاء المؤسسة العامة للإسكان (أي المرسوم الإشتراعي 129/1983) وإعادة العمل بجميع المؤسسات الإسكانية (والنصوص القانونية والتنظيمية) التي كانت قد ألغتها، وذلك حتى 1996، تاريخ إعادة إنشاء المؤسسة العامة للإسكان.

على الرغم من تنوّع الصلاحيات الممنوحة للمؤسسات المتعاقبة المعنية بالإسكان وتعدّدها، اقتصرت وظيفتها بشكل رئيسي على تأمين القروض السكنية، متجاهلة تماماً الآليات والصلاحيات الأخرى ووظيفتها الأساسية بوضع سياسات تؤمن الوصول إلى الحق في السكن. وهذا ما يظهر بوضوح في الأسباب الموجبة للقانون 539/1996 الذي أنشأ المؤسسة العامة للإسكان (والذي نعود إليه أدناه)، حيث ورد ما معناه أن الحاجة لإنشاء هذه المؤسسة نبع من مراجعة للسياسات الإسكانية للدولة، التي اعتمدت بشكل رئيسي على تأمين القروض من أجل اقتناء مسكن. وقد نصت الأسباب الموجبة حرفياً على أن “وزارة الإسكان والتعاونيات رأت أن حلّ الأزمة السكنية لا يقتصر على إعطاء قروض إسكانية فقط بل يقتضي أن يصار إلى إنتاج وحدات سكنية بغية زيادة العرض في السوق مما يؤدي إلى توافر المسكن وخفض في ثمنه”. وعلى الرغم من إعادة النظر الواضحة هذه، إلا أن شيئاً في المسار لم يتغيّر وبقيت المؤسسة العامة للإسكان تؤدي الأدوار نفسها التي أدّتها المؤسسات التي سبقتها.

بقي الأمر على حاله، حتى انتهاء الحرب الأهلية، حيث اتضحت ملامح مرحلة جديدة لم تعد فيها السياسة الإسكانية هامشية، بل باتت مفعولاً عرضياً لمنظومة قائمة على خدمة مصالح رأس المال أولاً.

3- مرحلة ما بعد الحرب الأهلية؛ سياسة إسكانية عرضية: مصالح رأس المال أولاً

مع الخروج من الحرب الأهلية اللبنانية وزيادة الطلب على الأبنية، ووجود سيولة فائضة لدى المصارف، قامت سياسة قوامها التسليف من أجل اقتناء مسكن. وكان راعي هذه السياسة المصرف المركزي، خدمةً لسياسته النقدية القائمة على تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار عند 1507.5 ليرة. فسمح المصرف المركزي للمصارف باستخدام إحتياطاتها الإلزامية لإقراض الراغبين باقتناء مسكن بالليرة اللبنانية مقابل أن تعيد المصارف هذه الأموال إلى المصرف المركزي بالدولار.

وهذه السياسة النقدية أولاً، والاقتصادية ثانياً، تختصر السياسة الإسكانية للدولة ما بعد الحرب. بمعنى آخر قامت السياسة الإسكانية على نظرة أحادية قوامها التسليف من أجل الإسكان. ولم تكن هذه السياسة سوى نتيجة عرضية لما كانت تقتضيه المصالح الاقتصادية القائمة ما بعد الحرب[10] (المصارف – المقاولون العقاريون – السياسة النقدية لحاكم مصرف لبنان)، في نظام محكوم لأسباب تاريخية واجتماعية، بسمو الملكية العقارية.

وتؤكد د. منى فواز في حديث مع “المفكرة”: “في 1997 حين تفاعل الجدل حول القروض السكنية، لم يكن الأمر أبداً في سبيل سياسة إسكانية. أجريت مقابلات عديدة مع أنطوان شمعون (رئيس المؤسسة العامة للإسكان سابقاً) الذي أكّد لي فيها أن هناك ملايين من الدولارات مجمدة في القطاع العقاري، وأنه إذا تم إدخال القروض، قد تتحرك هذه الأموال. لذا فإن الأمر متعلق منذ البداية بالسياسة المالية أما السياسة الإسكانية فهي على الهامش”.

بدأت ملامح هذه الحقبة تتضح في العام 1993، حيث صدر في 30/12 القانون 283 الذي قضى بخصخصة “مصرف الإسكان” بإيعاز من البنك الدولي للتعمير والإنماء. فعمد القانون إلى تعديل الأحكام التي ترعاه (أي القانون المنفّذ بالمرسوم رقم 14 تاريخ 15/1/1977)، مخفضاً قيمة مساهمة الدولة والضمان الإجتماعي مجتمعين من 50% على الأقل إلى 20%، مما قضى إذاً بتحويل مصرف الإسكان إلى مصرف خاص. وأهم ما جاء في الأسباب الموجبة أنه “إزاء تردد القطاع الخاص في الاكتتاب بالأسهم المخصصة له في رأسمال المصرف، غطت الدولة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الفروقات (…). ونظراً للظروف الأمنية التي مرت بها البلاد منذ إنشاء مصرف الإسكان، ونظراً لغياب مصادر التمويل المتوسطة والطويلة الأجل، ولعدم تمكن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من تحقيق مشاريعه الآيلة إلى تخصيص قطاع الإسكان بالأموال المتجمعة لديه، وهي كانت تمثل حينئذ مبالغ كبيرة ومهمة، فقد اقتصر نشاط مصرف الإسكان على منح قروض للمستفيدين (…). أما اللجان المكلّفة من قبل الحكومات المتعاقبة دراسة موضوع الإسكان[11]، فقد تقدمت جميعها باقتراحات وتوصيات ترمي إلى ضرورة تفعيل دور مصرف الإسكان وتطوير عملياته وتوسيع مدار نشاطه وتأمين الموارد والسيولة المالية له بمختلف الوسائل (…). وبما أنه أثناء المحادثات التي جرت مع بعثة البنك الدولي للتعمير والإنماء بغية الحصول على قروض طويلة الأجل للغايات الإسكانية، رفض البنك الدولي منح مثل هذه القروض لمصرف الإسكان بسبب مشاركة الدولة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في رأسمال المصرف، وتمثيلها في مجلس الإدارة. وبعد مناقشات مستفيضة، وافق البنك الدولي مبدئياً على إعادة النظر في موقفه شرط أن لا تتعدى حصة الدولة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مجتمعَين 20% من رأسمال المصرف”.

وقبل شهرين من إعادة إنشاء المؤسسة العامة للإسكان، اتّخذ المصرف المركزي قراراً حمل الرقم 6180/1996 (صدر في التعميم 25) يمنح المصارف تحفيزات لوضع برامج إدّخار/ واقتراض سكني، لشراء أو تشييد أو ترميم مسكن، لقاء تنزيل قيمة الودائع العائدة لمثل هكذا برنامج، من مجموع الإلتزامات لأجل التي يحتسب على أساسها جزء من الإحتياطي الإلزامي. بمعنى آخر، سمح المصرف المركزي للمصارف استخدام جزء من إحتياطها الإلزامي للتسليف من أجل تملّك مسكن.

وفي 24/7/1996، وفي أيام حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري، تمّ إلغاء الصندوق المستقل للإسكان بموجب القانون رقم 539 وإنشاء المؤسسة العامة للإسكان (مجدداً). ومن اللافت جداً أنه جاء في الأسباب الموجبة للقانون، بعد التذكير بإعداد “وزارة الإسكان والتعاونيات مشروع مرسوم اشتراعي يتعلق بإنشاء المؤسسة العامة للإسكان (وقد صدر المرسوم الاشتراعي رقم 129 تاريخ 1983/9/16 بإنشاء المؤسسة العامة المذكورة)”، وبتاريخ إنشاء المؤسسات الإسكانية المختلفة، أن “وزارة الإسكان والتعاونيات رأت أن حل الأزمة السكنية لا يقتصر على إعطاء قروض إسكانية فقط بل يقتضى أن يصار إلى إنتاج وحدات سكنية بغية زيادة العرض في السوق مما يؤدي إلى توافر المسكن وخفض في ثمنه. وقد أثبتت التجربة أن تنوّع مصادر تمويل شراء وحدات سكنية للأفراد والجماعات عبر المؤسستين المذكورتين (أي الصندوق والمصرف) لم يعطِ النتائج المرجوة لحل المشكلة السكنية (وإن كانت قد أسهمت في إعطاء بعض الحلول الجزئية والمؤقتة) إلا أن الظواهر السلبية لهما كانت (…): 1. إستحداث أجهزة إدارية وفنية متنوعة ومتشابهة في المؤسستين، وبالتالي زيادة في النفقات غير المجدية بل تكرارها؛ 2. عدم قدرة وزارة الإسكان والتعاونيات – المديرية العامة للإسكان على تنفيذ المهام الملقاة على عاتقها أصلاً والواردة في قانون إنشائها”. وأشارت الأسباب الموجبة كذلك إلى أن “إنشاء هاتين المؤسستين كان في ظروف غير عادية بل وليد الحاجة الناشئة عن الأحداث وما أعقبها من تدمير للوحدات السكنية القائمة ومن تهجير فردي أو جماعي وارتفاع الأصوات المطالبة بإيجاد حلول مؤقتة على الأقل لهذه المشكلة السكنية الطارئة ناهيك عن المشكلة السكنية القديمة التي كانت تتفاقم منذ ما قبل الأحداث”.

وقُدّمت المؤسسة العامة للإسكان كالبديل الفعّال، من خلال إنشاء مؤسسة مركزية ترعى شؤون الإسكان، بدلاً من المديرية العامة للإسكان. وتابعت الأسباب الموجبة بما لا لبس فيه أن “الجديد في مهام المؤسسة العامة للإسكان هو مبادرة الدولة إلى بناء وحدات سكنية عبر هذه المؤسسة (المادة 10 فقرة د)، حيث تبيّن أن مهمة إعطاء قروض مالية لشراء أو بناء مسكن للمواطنين ومن قبلهم، تشكل حلاً خجولاً للمشكلة السكنية”، في تشديد واضح على الأدوار الأخرى للمؤسسة العامة للإسكان.

وبالفعل نصّت المادة 7 من قانون رقم 539/1996 على أن مهمة المؤسسة هي تسهيل إسكان المستفيدين من خلال “بناء المساكن وملحقاتها مباشرة أو بواسطة الغير” و”تشجيع الإدخار والتسليف للسكن”، و”تقديم القروض المتوسطة والطويلة الأجل إلى:

  1. الهيئات المنتفعة لبناء المساكن وتمليكها من المستفيدين الذين تتوفر فيهم الشروط المطلوبة باستثناء الشركات التجارية.
  2. المستفيدين لبناء مساكن على عقارات يملكونها، أو لشراء مساكن مبنيّة أو قيد الانشاء أو لتوسيع مساكنهم أو ترميمها.
  3. الهيئات المنتفعة لبناء المساكن من أجل تأجيرها من العاملين لديها.

إلا أنه وضمن المنظومة القائمة ما بعد الحرب الأهلية، تخلّت المؤسسة العامة الإسكان عن أدوارها في بناء المساكن وتشجيع الإدخار والتسليف للسكن، وتحوّلت إلى مجرّد كفيل للمقترض تجاه المصارف الخاصة[12]. بالفعل، سُخّرت المؤسسة العامة للإسكان لخدمة السياسة الأحادية للتسليف من أجل إقتناء منزل، برعاية مصرف لبنان. وللتذكير، حتى إن توجّهت سياسة التسليف من قبل المؤسسة العامة للإسكان لذوي الدخل المحدود من خلال شروط سقف الأجر الشهري، إلا أنه يقتضي على المستفيدين أن يتمتّعوا برأس مال أولي كافٍ لتسديد الدفعة الأولى لشراء المسكن، مما يترك الشرائح الأضعف إجتماعياً خارج إمكانية الإستفادة من هذه القروض.

ووصل عدد القروض المدعومة من المؤسسة العامة للإسكان إلى 5000 ملف سنوي في السنوات الخمس الأخيرة. ويبلغ “إجمالي عدد القروض السكنية المتراكمة (ما) يزيد راهناً على 130 ألف قرض من جميع الأنواع (المؤسسة العامة للإسكان، بنك الإسكان، المصارف المحلية، مشاريع إسكان العسكريين…)، وتتجاوز قيمتها 13 مليار دولار”[13].

ومن نتائج سياسة التسليف أنها أدت إلى تضخّم مفتعل في الطلب على شراء العقارات وتالياً إلى ارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق خصوصاً منذ 2010، مما أدى مباشرة إلى توسّع شريحة الأفراد العاجزين عن تأمين مسكن لائق لعدم قدرتهم على الإيفاء بشروط التملّك. وهذا ما أثبتته دراسة ماجستير لجميلة يوسف في الجامعة اللبنانية الأميركية LAU، أظهرت أن سقف القروض المصرفية جعل المطورين العقاريين يطرحون الشقق للبيع بأسعار نسبها الدنيا سقف القروض هذا[14].

المؤسسة العامة للإسكان بالأرقام:

منذ العام 2000، تمكّنت 82000 عائلة من تملّك مسكن

معدّل ملفّات التسليف السنوي: 5000 ملف

1000 مليار ليرة يتم ضخّها سنوياً في السوق العقارية

ولدى سؤال “المفكرة” رئيس المؤسسة العامة للإسكان عن سبب امتناعها عن القيام بالأدوار الأخرى، ردّ ذلك إلى “قلّة همة ربما” وبمكان آخر إلى التنوع الطائفي الذي فرض الإجابة عند كل تفكير بالمبادرة نحو بناء المساكن، عن السؤال التالي: “أين نبني وفي أي منطقة؟”.

كما “انتفت مع قوة القطاع الخاص الحاجة إلى الإعمار، فالهدف ليس منافسة القطاع الخاص” و”طالما الأمور تسير على ما يرام لمَ التوسع في المهام؟”… أخيراً، يكمن أحد أسباب الإنكفاء عن أداء الأدوار الأخرى بحسب السيد روني لحود إلى الخشية الأكبر من عدم قدرة الدولة على إستيفاء القروض، مقارنة مع المصارف الخاصة.

وفي العام 2000، تمّ إلغاء وزارة الإسكان والتعاونيات ودمج المديرية العامة للتعاونيات بوزارة الزراعة من خلال القانون 247/2000. وقد بدت هذه الخطوة استكمالاً لتخلي الدولة تماماً عن أي دور لها في وضع سياسات إسكانية شاملة تحقق الوصول إلى سكن لائق للجميع.

4- 2018: أزمة القروض السكنية

أدّت أسباب عديدة إلى تجفيف مصادر تمويل القروض السكنية، منها ارتداداتها على تضخّم الطلب على الدولار وتهديدها لسعر صرف الليرة بعد الهبوط الحاد في حجم التحويلات والإستثمارات الخارجية (foreign direct investment) (هبط إلى ثلث ما كان عليه، ومصادره بشكل رئيسي الدول الخليجية من جهة والمغتربين اللبنانيين فيها من جهة أخرى)، وعدم تمييز سياسة التسليف بين ذوي الدخل المحدود والمتموّلين الكبار، بحيث وصلت سقوف القروض إلى حدود مليار ومئتي مليون ليرة لبنانية. ولا يعتبر ذلك سوى برهان إضافي على أن سياسة التسليف من أجل الإسكان لم تتجه يوماً نحو تأمين “الحق في السكن” بل ارتبطت بأولويات نقدية واقتصادية أخرى.

ومع إصدار المصرف المركزي التعميم 503/2018 الذي ضبط استخدام المصارف لإحتياطها الإلزامي وأدى إلى إيقاف القروض السكنية، وجدت الدولة الغائبة الصامتة نفسها في مواجهة مع الناس، وبخاصة أن وقف القروض جاء في موازاة تحرير الإيجارات القديمة. وفي سياق محاولة امتصاص آثار البلبلة التي أحدثها إيقاف هذه القروض في صفوف المتعهدين والمواطنين على حد سواء، تمّ تقديم أكثر من اقتراح قانون[15] بهدف دعم فوائد القروض الممنوحة من المؤسسة العامة للإسكان.

وأكّد وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال عندها علي حسن خليل، خلال جلسة مناقشة إقتراحات قوانين دعم القروض السكنية[16] في 25/9/2018، أن تدخّل المصرف المركزي في سياسة التسليف الإسكانية لم يكن إلا من باب تطبيق سياسة نقدية، تقف نفسها اليوم وراء انسحاب المصرف المركزي وعزوفه عن لعب أي دور في هذا الشأن (بسبب زيادة الطلب على الدولار). كما أن السياسة المعتمدة من قبل المصرف المركزي نبعت من “رغبته بتحريك قطاع معين”. وأقّر مجلس النواب في الجلسة نفسها، تحت الرقم 95، قانون فتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة لعام 2018 قدره مئة مليار ليرة لبنانية في باب وزارة الشؤون الإجتماعية- المؤسسة العامة للإسكان.

على الرغم من توقيت إقراره لإحتواء تداعيات إيقاف دعم مصرف لبنان للقروض السكنية، وتقديمه إعلامياً أقلّه وكأنه إحدى إجابات الدولة على أزمة السكن، فإن “الحق في السكن” بقي الغائب الأكبر من القانون الذي لا يعتبر سوى جرعة هزيلة لإنعاش السياسة القائمة منذ ما بعد الحرب الأهلية في هذا المجال.

وهذا ما نقرأه في الأسباب الموجبة للقانون التي ربطت القروض السكنية بدون أي مواربة وبشكل صريح وشبه حصري بـ”إنعاش القطاع العقاري” من دون أي إلتفاتة إلى “الحق في السكن”. كما نقرأ “أن القروض السكنية التي تعطى من خلال المؤسسة العامة للإسكان تحرك قطاع البناء وعجلة الاقتصاد في البلاد ما يساهم في تحريك وتنشيط أكثر من 38 قطاع عمل في الأسواق المحلية من يد عاملة لأكثر من عشرة اختصاصات (باطون-حدادة-كهرباء…) وتبادل تجاري للمواد المستعملة من قبل هذه اليد العاملة، إضافة إلى تشغيل تجار البناء (…) كما تؤدي إلى استقطاب أموال الشباب وتثبيتهم في أرضهم ووطنهم، ما يساهم أيضاً في دعم العملة الوطنية والحد من الهجرة”. كما أشارت الأسباب الموجبة إلى “الأزمة الحالية التي تمرّ بها المؤسسة العامة للإسكان والتي تنعكس بصورة مباشرة على القطاع العقاري في لبنان، إذ تؤدي إلى تعرّض منشئي الأبنية لانهيارات مالية وإفلاسات متعددة وخلافات بين مالكي الشقق وطالبي القرض (…) فضلاً عن إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بالمواطنين المرتبطين بعقود مع تجار البناء على أمل الحصول على قروض سكنية من المؤسسة (…)”.

وعليه، لم يعمد القانون سوى إلى إمداد المؤسسة العامة للإسكان بمائة مليار ليرة من خلال فتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة لعام 2018 في سبيل دعمها لرزمة جديدة من القروض السكنية. وتغيب تماماً عن القانون أي خطة أو معالجة ولو جزئية لأزمة السكن. فجميع الإقتراحات صبّت في اتجاه واحد ألا وهو تأمين استدامة نظام تمويل القروض السكنية الذي برهن محدوديته في تأمين “الحق في السكن” للجميع، على الرغم من وجود طروحات بديلة عديدة حرّكتها الأزمة أبرزها إعادة تفعيل الإيجار التملّكي.

5- الإيجار التملّكي: حبر على ورق، ولا “سكن” خارج “الملكية”

في 11/11/2006، صدر القانون رقم 767 الذي عدّل قانون إنشاء المؤسسة العامة للإسكان (539/1996)، مضيفاً[17] إلى الوسائل التي يمكن للمؤسسة اعتمادها لتسهيل الوصول إلى الحق في السكن “تقديم القروض المتوسطة والطويلة الأجل مباشرة أو بالمشاركة مع مصادر تمويل أخرى إلى الأشخاص الطبيعيين والمعنويين والهيئات المنتفعة لبناء المساكن بهدف تأجيرها من المستفيدين إيجاراً تملّكياً“. وعرّف القانون الإيجار التملّكي على أنه “عقد الإيجار الذي يعطي المستأجر حق تملك المأجور لقاء ثمن متفق عليه عند إجراء عقد الإيجار مع احتساب الأقساط المدفوعة منه كبدلات إيجار من أصل الثمن”. فيُنشئ إذاً هذا العقد للمستأجر حقاً في اختيار شراء المأجور عند انقضاء مهلة محدّدة – خمس سنوات بحسب القانون. كما حدّد القانون مدّة الإيجار التملّكي بـ30 سنة كحدّ أقصى.

وفرض القانون على المؤسسة وخلال ثلاثة أشهر من تاريخ نفاذه أن تضع نظاماً خاصاً للإيجار التملّكي، تحدّد فيه شروطه وإجراءاته، يصادق عليه بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء. لم يبصر هذا المرسوم النور إلى يومنا هذا.

من الواضح من مقاربة آلية الإيجار التملّكي أنها لا تخرج عن منطق تأمين الحق في السكن من خلال التملّك، كما أنها تتوجّه حصراً إلى شريحة محدّدة إجتماعياً تتمتّع بشروط الإستفادة من الإيجار التملّكي، وأنها عاجزة إذاً عن الإجابة عن حاجة ذوي الدخل المحدود بالوصول إلى الحق في السكن.

لم يتضمّن القانون أي تحفيزات تحث المالكين على إبرام عقود إيجار تملّكي، مما جعلها مجرّد حبر على ورق.

وفي إثر مبادرة وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك وائل أبو فاعور، أحيل إلى مجلس النواب بموجب المرسوم 8198/2012، مشروع قانون لتعديل قانون الإيجار التملّكي، بغية تقديم حوافز للإستثمار في البناء لإنشاء وحدات سكنية معدة للإيجار التملّكي، من خلال إعفاء المقاولين الذين يقومون بإنشاء وحدات سكنية من كافة الرسوم، مقابل تأجير نسبة 80% من هذه الوحدات وفقاً للإيجار التملّكي، وفق “البدل الرائج”، لمدة 5 سنوات. ويكون للمستأجر ضمن هذه المهلة أن يختار شراء الشقة السكنية على أن تحتسب البدلات المدفوعة سابقاً كجزء من الثمن الإجمالي للشقة. إلاّ أن المشروع لم يتسنّ له حتى الآن التقدم في المسار التشريعي.

6- قوانين الإيجارات: تحرير الإيجارات واستكمال سياسة لا “سكن” خارج “الملكية”

يعتبر الإيجار من أبرز وسائل تطبيق سياسة إسكانية تؤمن الوصول إلى سكن ميسّر، من خلال ممارسة الدولة لدورها الرقابي على تحديد معدّلات بدلات الإيجار.

وصدر قبل قانون الإيجارات 160/1992 ما يقارب 25 تشريعاً رقابياً على عقود الإيجار[18]، تنشئ ضمانات ضدّ إخلاء المستأجرين القدامى (أوّلها قرار صادر عن سلطة الانتداب في عام 1940) وتحدّد الحدّ الأقصى للزيادات على بدلات الإيجار الجديدة، مؤسسةً لإستقرار في أوضاع السكان المستأجرين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن القانون الصادر في 30/3/1948 يعتبر القانون الأوّل الذي كرّس الإنخفاض في بدلات الإيجار[19].

وأتى القانون 160/1992 ليحرّر عقود الإيجارات المعقودة ما بعد 1992 مما يمكن اعتباره تراجعاً تاماً للدولة عن دورها في ضبط الزيادات على بدلات الإيجار.

وأدى انكفاء الدولة عن دورها هذا بالإضافة إلى الإرتفاع المطّرد والمفتعل لسعر الأراضي، إلى إزدياد كبير جداً في بدلات الإيجار.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن رئيس المؤسسة العامة للإسكان روني لحود أكد في حديث مع “المفكرة” أن من ضمن الأفكار المطروحة ضمن السياسة الإسكانية التي تعمل عليها المؤسسة مع المجتمع المدني[20]، فكرة وضع مؤشر لضبط بدلات الإيجار. وعلمت “المفكرة” أن ذلك أتى بإيعاز مباشر من رئاسة الجمهورية إلى المؤسسة لضبط الإيجارات، وعدم الإكتفاء بدورها كجهة تسليف من أجل اقتناء مسكن.

أما بالنسبة للإيجارات القديمة، فبعدما كانت التشريعات المتتالية وصولاً إلى القانون 160/1992 تؤمن إستقراراً ما للمستأجرين القدامى في التمتّع بالحق في السكن، أتى القانون 0/2014 (بناءً على مشروع قانون مقدّم من الحكومة) والقانون التعديلي عليه 2/2017، لمنح مهلة نهائية للتمديد القانوني تفضي عند انتهائها إلى تحرير الإيجارات. ويقضي هنا تقديم الملاحظات الآتية:

  • من جهة أولى، أقرّ قانون الإيجارات عام 2014 منفرداً من بين رزمة من إقتراحات القوانين كانت أعدّتها لجنة الإدارة والعدل، كحلّ متكامل لمسألة الإيجارات القديمة في إطار سياسة إسكان شاملة (تتضمّن لا سيما إقتراح تعديل قانون الإيجار التملّكي، وإقتراحاً لإنشاء “أبنية سكنية اجتماعية”)[21]. ولم يشهد القانون أو الإقتراحات الأخرى نقاشاً نيابياً جدياً في الجلسة النيابية المنعقدة في 1/4/2014[22]. وإن دلّ ذلك على أمر فعلى إنكفاء الدولة عن دورها بوضع سياسة إسكانية جدّية ومتكاملة، وعلى نية مبيّتة للسلطة الحاكمة بتصفية “إشكالية” المستأجرين القدامى بمعزل عن إتخاذ مسؤولياتها في تأمين حق السكن لهم.
  • من جهة ثانية، أتى قانون الإيجارات الجديد المعدّل نتيجة فلسفة “إسكانية” مفادها تحرير المالكين وحق الملكية من عبء تأمين مساكن لشريحة المستأجرين القدامى بسبب انكفاء الدولة عن دورها، مقابل تشجيع هذه الشريحة على التملّك. وهذا ما جاء حرفياً في الأسباب الموجبة للقانون 0/2014 التي اعتبرت أن مشروع القانون “يرتكز إلى قاعدة شراكة بين الدولة والمالك والمستأجر ويركز على ما يمكن أن تقدمه الدولة في إطار سياسة إسكانية تقضي بتشجيع تملّك المستأجر للمأجور الذي يشغله، أو في تملك مسكن آخر بعد إخلائه المأجور”، من خلال رزمة من الإجراءات: أولاً استفادتهم من مجموعة من الإعفاءات، كما منح المستأجر حق الأفضلية في الإستفادة من القروض السكنية الممنوحة من مصرف الإسكان أو المؤسسة العامة للإسكان (ولم توضع إلى اليوم التشريعات القاضية بتعديل قوانين كل من هاتين المؤسستين في سبيل تفعيل هذا الحق بالأفضلية).
  • من جهة ثالثة، وضع قانون الإيجارات الجديد المعدّل بعض الآليات لحماية الحق في السكن، والتي شكّلت الأساس لاعتبار المجلس الدستوري[23] كلا التشريعين دستوريين لتوفيقهما بشكل عادل بين الحق في الملكية والحق في السكن الدستوريين. وأبرز هذه الآليات: إنشاء صندوق لمساعدة المستأجرين القدامى من ذوي المداخيل المحدودة واللجان ذات الطابع القضائي التي تنظر في الخلاف على بدل المثل وتبتّ بأحقية الحصول على مساهمة الصندوق.

 إلا أن الصندوق لم يدخل حيّز التنفيذ إلى اليوم، كما لم تُنشأ اللجان إلا في أيار 2019[24]، مما جعل أوضاع المستأجرين القدامى أكثر هشاشة بعد حرمانهم من الآليات الحمائية للحق بالسكن، وجعل الأجزاء الوحيدة من القانون القابلة للتطبيق لدى جزء من الإجتهاد هي تلك المؤدية إلى استرداد المأجور للهدم أو للحاجة العائلية[25].

في الخلاصة، يدفع ارتفاع بدلات الإيجار تبعاً لارتفاع سعر الأرض، كما الأوضاع الهشة التي تركت التشريعات المتتالية المستأجرين فيها، نحو جعل الوصول إلى الحق في السكن مرادفاً للتملّك، مما يضرب الإيجار في لبنان كوسيلة فعّالة للتمتّع بالحق في السكن.

 

في الختام، أمكن القول إن الدولة اللبنانية عجزت منذ نشأتها عن وضع سياسات إسكانية تخدم الوصول إلى سكن لائق وميسّر للجميع. فأدى تشابك عوامل عديدة إلى هذا الإستنتاج: إن إنكفاء الدولة عن أي دور في وضع السياسات الإسكانية الشاملة، كما السياسة القائمة أحادياً على الدمج بين حقي السكن والتملّك من خلال التسليف (1996 وما يلي)، كما غياب أي رقابة على المضاربة العقارية أو إستحداث إجراءات ضريبية على الريع العقاري مما أدى إلى تضخّم أسعار العقارات[26]، كما خصخصة مصرف الإسكان (1994) وإلغاء وزارة الإسكان (2000) وتحرير الإيجارات القديمة (2014 و2017)، هي أبرز العوائق أمام تمتّع أوسع شريحة من القاطنين في لبنان بـ”الحق في السكن”.

  • نشر هذا المقال في العدد | 60 |  حزيران 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
  • منحة السكن ومحنته

 

 

[1] الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 25 فقرة 1 منه، التي تنص على أنه: “لكل فرد الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصّة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية”؛ المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والإجتماعية والثقافية (1966) الذي صادق عليه لبنان في 3 تشرين الثاني 1972؛ المادة 14(ح) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي صادق عليها لبنان بموجب القانون رقم 572/96 تاريخ 24/7/1996؛ المادة 27(3) من اتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها لبنان عام 1990.

[2] لا سيما القرارين 6/2014 و3/2017.

[3] ك. حمدان، “مشكلة السكن في لبنان مشكلة ضاغطة تبحث عن حلّ”، ندوة رابطة أصدقاء كمال جنبلاط – 19 أيلول 2018 (غير منشور).

[4]http://docstore.ohchr.org/SelfServices/FilesHandler.ashx?enc=FhOD6sgqgzAhFXD9F%2

FeKaEJI2%2FxgoMstRAco6nVCah%2BsuEZWG0anj

LBrhZ08UuAa%2FRfc9fMnCMfx6qtzevJAhD8EBzFU0QfQm0my8CFi%2BHF8hq9P0rOGFIBfKMYKoCxh

[5] https://www.ohchr.org/Documents/Publications/FS21_rev_1_Housing_ar.pdf

[6] مقابلة مع الصحافي محمد زبيب، منشورة في هذا العدد.

[7] المرجع نفسه.

[8]بحسب أستاذة الدراسات الحضرية والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت منى فواز وفي حديث مع “المفكرة”، يتضمّن مشروع “إليسار” للتطوير العقاري أول اعتراف في النص بـ”حق القاطن” أي بوجود قاطنين لا يمكن طردهم من دون إعطائهم سكناً بديلاً. وهذا الإعتراف بـ”حق القاطن” هو اعتراف ضمني بـ”الحق في السكن”. وفي الإتجاه نفسه يذهب مشروع بناء مساكن حي التعمير في صيدا (وللنائب بهية الحريري دور محوري فيه) حيث كرّس حق القاطنين في السكن – بعد مسح أجري مع البلدية ومديرية الإسكان – من خلال إعطائهم “صكوك ملكية”.

[9] https;//www.lbcgroup.tv/news/d/news-reports/345856/مشروع-سكني-ضخم-يشيد-في-برج-حمود/ar

In: Fawaz M., Pietrostefani E., Feghali D., Abdo N., Salamé D., Serhan I., (2017) Inclusive Housing Policies for Beirut: Mar Mikhael as an urban laboratory, Social Justice and the City Program, IFI (forthcoming)

[10] بهذا المعنى، ك. حمدان، “مشكلة السكن في لبنان مشكلة ضاغطة تبحث عن حلّ “، المرجع المذكور أعلاه: “بعد إلغاء وزارة الإسكان واستبدالَها بالمؤسّسة العامّة للإسكان، اختصرت الدولة السياسة السكنية – عبر هذه المؤسسة أساسا – في إعطاء القروض للتملّك فقط، إستنادا الى برامج تمويل مدعوم أدارها مصرف لبنان. والهمّ الأساسي لهذا الأخير كان مزدوجا: مساعدة المصارف التجارية من جهة على استثمار فائض سيولتها في الإقراض السكني كي تستفيد من فوائد مرتفعة ومدعومة، ومساعدة المطوّرين العقاريين من جهة أخرى في الحفاظ على أسعار مرتفعة تحفّز استدامة نمو العرض السكني (وفي أحيان كثيرة بمعزل عن مواصفات الطلب على السكن). ويعتبر هذان الهدفان من الركائز الأساسية لنمط الاقتصاد الريعي السائد منذ التسعينيات، ومن أجل تحقيقهما تمّ تباعا تطويع قوانين البناء والتنظيم المدني والتصاميم التوجيهية وتوزيع مرافق البنى التحتية وزيادة عوامل الاستثمار، فضلا عن تحرير عقود الإيجارات تمهيدا لإقفال ملف الايجارات القديمة وتغليب بيع المساكن على حساب تأجيرها”.

[11] ومنها اللجنة المكلفة بتاريخ 1991/7/31 دراسة أوضاع المصارف التابعة للدولة، واللجنة المؤلفة بتاريخ 1991/7/31 لدرس أوضاع وزارة الإسكان والتعاونيات وتقديم المقترحات اللازمة لإعادة تفعيلها وتنظيمها وتطويرها، واللجنة المؤلفة بموجب القرار رقم 1/52 ت تاريخ 1992/6/26 لوضع وتحديد شروط توظيف الضمانات وأموال الاحتياط العائدة لشركات الضمان في لبنان لدى مصرف الإسكان.

بهذا المعنى تراجع لطفاً المقابلة مع الصحفي محمد زبيب، منشورة في هذا العدد. [12]

[13] ك. حمدان، “مشكلة السكن في لبنان مشكلة ضاغطة تبحث عن حلّ”، المرجع المذكور أعلاه.

[14] أطروحة ماجستير لجميلة يوسف تحت إشراف وليد مرّوش، LAU (2017)، يُراجع لطفاً: https://www.executive-magazine.com/real-estate-2/no-stimulus-no-problem

[15] م. مهنّا، “القروض السكنيّة”، المفكرة القانونية العدد 59، ص. 21.

[16] ر. حمزة، “جدل نيابي بشأن القروض السكنية في لبنان: اليوم نبيّض وجهنا مع الناس، وغداً نفكر في السياسة الإسكانية، موقع المفكرة القانونية، 15/10/2018.

[17] من خلال إضافة فقرة (د) إلى المادة 7 منه.

[18] يُراجع لطفاً:

Fawaz M., Pietrostefani E., Feghali D., Abdo N., Salamé D., Serhan I., (2017) Inclusive Housing Policies for Beirut: Mar Mikhael as an urban laboratory, Social Justice and the City Program, IFI (forthcoming)

[19] المرجع نفسه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني