أيّ اختصاص للقضاء العسكري للنظر في جرائم التعذيب؟


2024-07-10    |   

أيّ اختصاص للقضاء العسكري للنظر في جرائم التعذيب؟

تعَدّ مسألة مدى اختصاص القضاء العسكري للنظر في جرائم التعذيب من أكثرِ المسائل التي أثارت جدلًا قانونيًّا خلال السنوات الماضية في لبنان. فقد طالب عددٌ من ضحايا جرائم التعذيب، مثل زياد عيتاني ومتظاهري 17 تشرين وعائلة بشّار السعود، والمنظَّمات الحقوقية، من ضمنهم “المفكّرة” ومنظَّمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش ومنّا لحقوق الإنسان والمركز اللبناني لحقوق الانسان[1]، بإخراج قضايا التعذيب من صلاحية القضاء العسكري وإحالتها إلى القضاء العدلي. ويستند هذا الاعتراض، بشكل أساسي، إلى أنّ القضاء العسكري لا يشكّل مرجعًا قضائيًّا مستقلًّا وحياديًّا، وهو يحرم الضحايا من المشاركة في مسار التحقيق والمحاكمة بحقّ المشتبه بتعذيبهم كما فصّلنا في الورقة البحثية السابقة، بالإضافة إلى اعتبار جرائم التعذيب من الجرائم الجسيمة التي تبرّر انتزاع امتياز العناصر الأمنية المشتبه بارتكابها التعذيب بالخضوع لمحكمة عسكرية. فكيف قاربت المعايير الدولية والقوانين اللبنانية والسلطات القضائية هذه المسألة؟ 

1.1 موقف المعايير الدولية

يشكّل “مشروع المبادئ بشأن إقامة العدالة عن طريق المحاكم العسكرية”، والمعروف بـ”مبادئ ديكو” نسبةً إلى المُقرِّر الخاص في الأمم المتّحدة إيمانويل ديكو الذي وضعها وقدّمها إلى اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان في العام 2006، المرجعَ الأساسي لتقييم التشريعات المُتعلّقة بالمحاكم العسكرية[2]. وإلى جانب إجماع المعايير الدولية على عدم جواز محاكمة المدنيين والقاصرين أمام المحاكم العسكرية لاعتبارها مخالفة لمبدأ القاضي الطبيعي وللحقّ في محكمة مستقلّة وحيادية، كما أوضحنا في الورقة البحثية السابقة، توصي “مبادئ ديكو” أيضًا بحصر اختصاص المحاكم العسكرية في الجرائم ذات الطابع العسكري البحت التي يرتكبها موظَّفون عسكريون (مبدأ رقم 8). كما أنّها تذهب أبعد من ذلك لإقرار مبدأ عدم جواز محاكمة الأشخاص المتّهَمين بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضدّ المدنيين أمام القضاء العسكري؛ وهو ما يشمل مثلًا حالات الإعدام خارج نطاق القضاء، والاختفاء القسري والتعذيب (المبدأ 9)[3].

يستند هذا المبدأ، وفقًا لـ”مبادئ ديكو”، إلى اعتبار أنّ نوع الجرائم هذا يخرج بطبيعته عن نطاق الوظائف التي يمارسها العسكريون، فلا يجوز اعتباره من الأفعال التي تُرتكب لدى أداء الوظائف العسكرية. وهو يجد تبريره بأنّ السلطات العسكرية قد تميل إلى التستُّر على هذه الانتهاكات من خلال التشكيك في ملاءمة الملاحقات أو حفظ القضيّة من دون تحقيق على حساب الضحايا، ممّا يجعل من اختصاص القضاء العادي ضمانة ضدّ الإفلات من العقاب، مع التشديد على أهمِّية أن يتولّى هذا القضاء التحقيق الأوّلي في هذه الجرائم منذ البداية.

كذلك برّر المقرّر الخاص بشأن إفلات مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان (المدنية والسياسية) من العقاب هذا المبدأ بغياب معايير الاستقلالية في المحاكم العسكرية، إذ اعتبر أنّه “يجب أن يقتصر اختصاص المحاكم العسكرية على المخالفات العسكرية التي يرتكبها العسكريون باستثناء انتهاكات حقوق الإنسان في نظر القانون الدولي، التي يجب أن تخضع لاختصاص محاكم عادية، وذلك بسبب نقص استقلالية المحاكم العسكرية بموجب القانون”[4]. كما أشار المقرّر الخاص المعنيّ بالتعذيب إلى أنّ المحاكم العسكرية تُعَدّ أحد العوامل التي تؤدّي إلى الإفلات من العقاب بحكم الأمر الواقع، ما دام أفراد القوّات المسلّحة وسواها من الأجهزة الأمنية يرتكبون أعمال التعذيب[5].

وبالرغم من عدم وجود صكوك دولية تتضمّن أحكامًا خاصة تتعلّق بصلاحية القضاء العسكري للنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلّا أنّ لجنة حقوق الإنسان واللجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان، كما لجنة مناهضة التعذيب، اتّخذت العديد من القرارات تحثّ فيها الدول على استبعاد هذه الصلاحية، على اعتبار أنّها تتعارض مع التزامات الدول بموجب المادّة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية[6]. وفيما يتعلّق بلبنان، أوصت اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان في العام 1998 بأنّه ينبغي للدولة اللبنانية أن تعيد النظر في “اختصاص المحاكم العسكرية، وأن تنقل اختصاص المحاكم العسكرية في جميع المحاكمات المتعلّقة بالمدنيين وفي جميع القضايا المتعلّقة بانتهاك حقوق الإنسان من جانب الأفراد العسكريين، إلى المحاكم العادية”[7]. وكرّرت في العام 2018 توصيتها بإخراج المدنيين من صلاحية القضاء العسكري، وبضمان أن يتمّ التحقيق بدقّة في جميع ادّعاءات التعذيب بموجب آليّة تحقيق فعّالة ومستقلّة بشكل تامّ[8].

1.2 موقف المشرِّع اللبناني

  • توسُّع اختصاص القضاء العسكري

تُظهر مراجعة القوانين المتّصلة بإنشاء القضاء العسكري وبتحديد اختصاصه، والتي تعاقبت بعد استقلال لبنان في العام 1943، أنّه شهد، على طول تاريخه، توسُّعًا مطّردًا لصلاحيات هذا القضاء[9]. ففي العام 1968، صدر “قانون القضاء العسكري” الذي ألغى القوانين السابقة التي كانت تنظّم المحاكم والعقوبات العسكرية، ووسّع صلاحية القضاء العسكري متجاوزًا مفهوم “الخصوصية” الذي برّر إنشاء المحكمة العسكرية، والذي كان مرتبطًا حصرًا بالجيش، لتشمل كلّ المؤسَّسات الأمنية والعسكرية والعاملين فيها، بحيث باتت صلاحيته النوعية تشمل مثلًا الجرائم المرتكَبة في المعسكرات والمؤسَّسات والثكنات العسكرية، والجرائم الواقعة على شخص أحد العسكريين وأحد رجال قوى الأمن الداخلي والأمن العام، والجرائم الواقعة على الموظَّفين المدنيين في وزارة الدفاع الوطني والمحاكم العسكرية أو لدى الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام إذا كانت لهذه الجرائم علاقة بالوظيفة، وجميع الجرائم التي تمسّ مصلحة الجيش أو قوى الأمن الداخلي أو الأمن العام (المادّة 24). أمّا الصلاحية الشخصية، فتوسّعت لتشمل، إلى جانب العسكريين ومن هم بحكم العسكريين، رجال قوى الأمن الداخلي والأمن العام، أيًّا كان نوع الجريمة المسندة إليهم. في المقابل، حصرت صلاحية ملاحقة الموظَّفين المدنيين لدى وزارة الدفاع الوطني والجيش والمحاكم العسكرية أو قوى الأمن الداخلي أو قوى الأمن العام، في الحالات التي تكون فيها الجريمة ناشئة عن الوظيفة (المادّة 27).

وفي العام 1977، أتى المرسوم الاشتراعي رقم 110 ليُبقي على صلاحية القضاء العسكري للنظر في الجرائم الواقعة على عناصر قوى الأمن الداخلي والأمن العام والموظَّفين التابعين لإحدى المؤسَّستَين أو لأمن الدولة أو المرتكَبة من أحدهم، وإن حصرَها بتلك “المرتكَبة أثناء الخدمة أو بمعرضها” (المادّة الأولى). كما نصّ صراحة على إخراج “الجرائم التي يرتكبها رجال قوى الأمن الداخلي والأمن العام، والمديرية العامة لأمن الدولة أثناء التحقيقات العدلية العادية التي يقومون بها، والتي لها علاقة بهذه التحقيقات أو المرتكَبة منهم بسببها أو بموجبها” (المادّة 5) من اختصاص القضاء العسكري، لتعود صلاحية النظر فيها إلى القضاء العادي، وهو ما ينطبق على أعمال التعذيب التي قد تحصل في إطار التحقيقات العدلية العادية.

بالإضافة إلى ذلك، كان قانون “تعليق العمل بصورة موقَّتة ببعض أحكام قانون العقوبات” الصادر في تاريخ 11/1/1958 إثر أحداث عامَي 1957 و1958، قد علّق بعض موادّ قانون العقوبات بصورة موقَّتة واستثنائية، وأدخل الجرائم المنصوص عليها فيه في اختصاص القضاء العسكري مشدِّدًا العقوبات عليها. وما يزال هذا القانون، الذي أُريد له تنظيم وضع استثنائي، ساريَ المفعول لغاية اليوم، أي بعد 65 عامًا، وهو يشكّل السند القانوني لنظر القضاء العسكري في قضايا الإرهاب. وقد استند النظام الأساسي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى هذا القانون لتعريف مفهوم الإرهاب ولتحديد عناصره الجرمية[10]، وهو مفهوم لا نجد له تفسيرًا في المواثيق والمعاهدات الدولية.

  • إصلاح أصول المحاكمات الجزائية

في إطار تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية الشامل في العام 2001 بهدف تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، جاءَت المادّة 15 منه لتقليص صلاحيات القضاء العسكري، حيث نصّت على أنّه “للنائب العام لدى محكمة التمييز أن يراقب موظَّفي الضابطة العدلية في نطاق الأعمال التي يقومون بها بوصفهم مساعدين للنيابة العامة. له أن يوجّه إلى رؤسائهم ما يراه من ملاحظات في شأن أعمالهم الموصوفة آنفًا، وأن يطلب من النائب العام الاستئنافي أو النائب العام المالي أو مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية أن يدّعي بحقّ مَن يرتكب جرمًا جزائيًّا منهم في أثناء قيامه بوظيفته، أو في معرض قيامه بها دون أن يطلب إذنًا بملاحقته. ويكون القضاء العدلي هو الصالح للنظر في هذا الجرم رغم كلّ نصّ مخالف”.

وعليه، أدّى هذا النصّ إلى إخراج أعمال التعذيب، التي تحصل في إطار ممارسة عناصر الأجهزة العسكرية والأمنية لوظائف الضابطة العدلية أو في معرضها، من صلاحية القضاء العسكري. كما سمح بملاحقتهم بموجب قرار من النائب العام التمييزي من دون الاستحصال على إذن بالملاحقة من قياداتهم، ممّا يزيل عقبة أساسية أمام إمكانية الملاحقة. إلّا أنّ ورود عبارة “مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية” في متن هذه المادّة، في حين أنّه ليس لهذا الأخير عادةً صلاحية الادّعاء أمام القضاء العدلي، فتحت الباب أمام تفسيرات مختلفة لهذه المادّة من قبل السلطات القضائية، وهو ما سنعود إليه لاحقًا.

  • إقرار قانون التعذيب في العام 2017

في تاريخ 19/9/2017، صدر قانون معاقبة التعذيب رقم 65/2017 من دون أن يتضمّن نصًّا خاصًّا بشأن صلاحية النظر في جرائم التعذيب، باستثناء ما ورد في أسبابه الموجبة بأن “تناط صلاحية الملاحقة والتحقيق والمحاكمة بالقضاء العدلي العادي دون سواه من المحاكم الجزائية الاستثنائية”. وبمراجعة المناقشات النيابية الحاصلة خلال إقراره، يظهر أنّ النوّاب توافقوا على صلاحية القضاء العدلي للنظر فيها بحسب المادّة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.

فإذ تظهر هذه المناقشات، وفقًا لما وثّقته “المفكّرة”، تبنّي بعض النوّاب للتعذيب كوسيلة لحماية الأمن الوطني، لا سيّما في قضايا الإرهاب والعمالة[11]، دار جدل بين النوّاب لدى مناقشة البند الذي جرّد القضاء العسكري صراحةً من أيّ صلاحية في قضايا التعذيب. ففيما تمسّك بعض النوّاب بإزالة الصلاحية الشاملة للمحاكم العادية بحجّة أنّ المحكمة العسكرية خطّ أحمر أو أنّ ثمّة ضرورة لتحصين الضبّاط الذين استثمرت الدولة مبالغ طائلة في تخريجهم، خَلص النقاش بالنتيجة إلى إزالة البند المذكور على أساس أنّه لزوم ما لا يلزم. وقد تمّ ذلك بعدما لفت النائب السابق بطرس حرب إلى أنّ المادّة 15، التي تجيز للنائب العام التمييزي ملاحقة أيّ خلل في عمل الضابطة العدلية أمام القضاء العدلي، ومن دون حاجة إلى إذن مسبَق، تحسم المسألة لجهة صلاحية القضاء العدلي، بما يجعل من غير الضروري إعادة مناقشتها في قانون معاقبة جرائم التعذيب[12].

وعليه، وبالرغم من اشتداد النقاش حول صلاحيات المحكمة العسكرية، لم يؤخَذ باقتراح تجريدها من أيّ صلاحية في قضايا التعذيب، ليس لأنّ الغالبية عارضته، بل لأنّه اعتُبر لزوم ما لا يلزم. وبذلك، بدا واضحًا أنّ نيّة الغالبية النيابية اتّجهت، أقلّه ظاهريًّا، إلى حصر صلاحية المحكمة العسكرية في هذا الخصوص.

  • اقتراحات القوانين لتعديل قانون معاقبة التعذيب

أمّا على صعيد مراجعة قانون التعذيب الذي أُقِرّ في العام 2017، فقد نظرت الهيئة العامة للمجلس النيابي في العام 2020 في اقتراحَين يهدفان إلى تعديله[13]. وقد جاء الاقــتراحان علــى خلفيّة قضيّة المســؤول في معتقــل الخيــام الســابق عامــر الفاخــوري، حيث كانت قاضية التحقيق العسكري (نجاة أبو شقرا) قد أصدرت قرارًا اتّهاميًّا في 4/02/2020 ضدّ الفاخوري معتبرةً أنّ جرائم القتل والتعذيب التي ارتكبها تشكّل جرائم حرب غير قابلة للسقوط بمرور الزمن، مستندةً إلى الاتّفاقيات والأعراف الدولية[14]. وبالرغم من أنّ القرار لم يتّهم الفاخوري بجرائم التعذيب تحديدًا، حيث اكتفى باتّهامه بجنايات القتل ومحاولة القتل والخطف، إلّا أنّه وثّق إفادات عدد من الأسرى حول تعرّضهم للتعذيب خلال أسرهم في معتقل الخيام في فترة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان[15]. وقد اعتبرَت القاضية في قرار سابق صادر في 29/10/2019 أنّ جرائم القتل والتعذيب المشكوّ منها تُعَدّ من جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي لا تسقط بمرور الزمن بموجب التزامات لبنان الدولية (وبشكل خاص العهــد الــدولي الخــاص بالحقوق المدنية والسياسية، ومعاهدات جنيف الأربع، واتّفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكَبة ضدّ الإنسانية للعام 1968، والمادّة 29 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية للعام 1998)، كما اعتبرت أنّ جريمة الخطف التي لا تزال ضحيّتها مجهولة المصير تُعَدّ من الجرائم المستمرّة التي لا تسقط بمرور الزمن[16]. إلّا أنّ المحكمة العسكرية أصدرت في تاريخ 16/3/2020 قرارًا بكفّ التعقُّبات بحقّ الفاخوري بعدما استبعدت تطبيق المعاهدات الدولية واعتبرت أنّ دعوى الحقّ العام سقطت بمرور الزمن العشري[17]. وعادت محكمة التمييز العسكرية وصادقت على هذا الحكم في 20/04/2020 تبعًا للطعن المقدَّم من النيابة العامة التمييزية، حيث اعتبرت المحكمة أنّ مسألة ضمان عدم سريان مرور الزمن على هذا النوع من الجرائم يعود إلى المشرّع اللبناني[18].

في هذا السياق، تقدّمت النائبة بولا يعقوبيان بالاقتراح الأوّل بصفــة المعجّل المكرّر في تاريخ 24/4/2019، وهو يرمي إلى إقرار مبدأ عدم سريان مرور الزمن على جرائم التعذيب من خلال تعديــل المــادّة 10 مــن قانــون أصــول المحاكمــات الجزائيــة والمــادّة 163 مــن قانــون العقوبــات. وفي الجلسة المنعقدة في 21/04/2020، أسقط مجلس النوّاب صفة العجلة عن هذا الاقتراح وأحاله إلى اللجان النيابية للدراسة.

أمّا الاقتراح الثاني، فتقدّم به النائب علي خريس (كتلة التنمية والتحرير) في 3/10/2019 لتعديل قانون معاقبة التعذيب بهدف تكريس مبدأ عدم سقوط جرائم التعذيب بمرور الزمن، وذلك على خلفيّة قضيّة الفاخوري. لكنّ لجنتَي الإدارة والعدل وحقوق الإنسان في مجلس النوّاب ناقشتا الاقتراح وقرّرتا عدم الأخذ به. لم تبرّر لجنة حقوق الإنسان موقفها، في حين اعتبرت لجنة الإدارة والعدل أنّ “مرور الزمن يعتبر من عوامل الاستقرار في المجتمع، ويعتبر من المبادئ القانونية الراسخة”، بخاصّة أنّ القانون الحالي يقرّر أنّ مرور الزمن في جرائم التعذيب يبدأ من تاريخ خروج الضحيّة من الاحتجاز بدلًا من تاريخ وقوع جرم التعذيب.

غير أنّ اللجنتَين عمدتا إلى إدخال تعديلات إضافية إلى قانون معاقبة التعذيب، فأحالت اقتراحًا للهيئة العامة لمجلس النوّاب تضمّن إصلاحات مهمّة من شأنها، في حال إقرارها، تفعيل المحاسبة في قضايا التعذيب. فقد عالج هذا الاقتراح عددًا من الثغرات القانونية التي أعاقت تطبيق القانون منذ صدوره. ومن أهمّ هذه البنود الإصلاحية: تكريس صلاحية القضاء العادي للنظر في جرائم التعذيب بدلًا من القضاء العسكري، وتوسيع تعريف جريمة التعذيب لكي يتلاءم مع التعريف الدولي، وتشديد العقوبات على نحوٍ يجعل من التعذيب جناية مهما كانت نتائجه، بالإضافة إلى منع المرتكِبين من التذرّع بأيّ تبرير أو حصانات، وكذلك تعزيز حماية الضحايا. وأهمّ ما اتّفقَت عليه اللجنتان يتمثّل في تكريس صلاحية القضاء العادي للنظر في قضايا التعذيب، بما يؤدّي إلى تجريد القضاء العسكري من هذه الصلاحية وقطع الطريق أمام محاولات النيابات العامة الالتفافَ عليه وعلى نيّة المشترع[19]. وفيما عُرِض الاقتراح في جلسة الهيئة العامة المنعقدة في 21/12/2020، تمّ تأجيل النقاش في هذا المقترح إلى وقت لاحق[20]، من دون أن يتمّ ذلك لغاية اليوم.

  • اقتراحات القوانين لتعديل قانون القضاء العسكري

في نيسان 2023، قرّرت لجنة الإدارة والعدل النيابية تشكيل لجنة فرعية لدرس اقتراحات قوانين لتعديل قانون القضاء العسكري[21]، وهي المرّة الأولى التي يقوم فيها مجلس النوّاب بمراجعة شاملة لهذا القانون منذ صدوره في العام 1968، باستثناء التعديلات الجزئية في السبعينيات التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة. وتوصي “مبادئ ديكو” بـ”إخضاع قوانين القضاء العسكري لمراجعة دورية منتظمة تجري على نحو مستقلّ وشفّاف من أجـل ضمـان توافـق اختصاصات المحاكم العسكرية مع الضرورة الوظيفية البحتة، من دون التعدّي على الاختصاصات التي يمكن، بل وينبغي، أن تعود للمحاكم المدنية العادية”، مشدّدةً على أهمِّية “إجراء نقاش حول وجود القضاء العسكري في ذاته بشكل شفّاف تمامًا في مجتمع ديمقراطي” (المبدأ رقم 20).

ناقشت هذه اللجنة الفرعية عدّة إقتراحات تهدف إلى تقليص صلاحيات القضاء العسكري، أبرزها الاقتراح المقدَّم من النائبَين جورج عقيص وجورج عدوان (كتلة الجمهورية القوية) في آذار 2023[22]،  كما الاقتراح المقدَّم من النائب بلال عبد الله (كتلة اللقاء الديمقراطي) في العام 2021[23]، علمًا أنّ المرصد البرلماني في “المفكّرة” كان قد رصد ورود اقتراحات أخرى بهذا الشأن مقدَّمة من النوّاب إيلي كيروز (2013)[24]، وسامي جميّل (2016)[25]، وبولا يعقوبيان (2019)[26]، من دون أن يتبيّن مدى شمولهم في دراسة اللجنة.

وفي 19/12/2023، أنهت اللجنة الفرعية اقتراح القانون لتعديل قانون القضاء العسكري الذي يؤدّي، في حال إقراره بصيغته هذه، إلى حصر صلاحية القضاء العسكري بشكل واسع مقارنة مع الحالة الراهنة ومع مختلف اقتراحات القوانين المقدَّمة سابقًا للحدّ من اختصاصه. ويظهر أنّ الاقتراح الذي أقرّته اللجنة يستند بشكل أساسي إلى الاقتراح المقدَّم من عقيص-عدوان، بخاصّة لجهة تعديل كامل الكتابَين الأوّل والثاني من قانون القضاء العسكري المتعلّقَين بتنظيم القضاء العسكري وأصول المحاكمات الجزائية العسكرية.

وينصّ اقتراح اللجنة الفرعية، بشكل واضح، على عدم صلاحية القضاء العسكري للنظر في “الجرائم التي يرتكبها المدنيون، أيًّا كان نوعها وأينما وردت في هذا القانون أو في قانون العقوبات أو غيره من القوانين الخاصة”، ممّا يؤدّي إلى إنهاء مَظلمة كبيرة امتدّت على مدى عقود من توغُّل القضاء العسكري في حياة المدنيين الذين لا يرون فيه المكان “الطبيعي” لمحاكمتهم.

لكنّ الاقتراح أبقى على صلاحية القضاء العسكري للنظر في الجرائم التي يرتكبها العسكريون وعناصر الأجهزة الأمنية المتعلّقة بالوظيفة الرسمية، ما قد يشمل جرائم التعذيب طالما أنّها تُفسَّر على أنّها مرتبطة بهذه الوظيفة. ولم ينصّ الاقتراح صراحةً على عدم صلاحية القضاء العسكري للنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي يرتكبها العسكريون وعناصر الأجهزة الأمنية ضدّ مدنيين، وبخاصّة جرائم التعذيب، وفقًا لما توصي به المعايير الدولية. ففي حين ينصّ الاقتراح على إخراج الجرائم التي يرتكبها عناصر الأجهزة الأمنية في “أثناء التحقيقات العدلية” والتي “لها علاقة بهذه التحقيقات المرتكبة بسببها أو بمعرضها” من اختصاص القضاء العسكري (وهو غالبًا ما يشمل جرائم التعذيب)، لم ينصّ على إخراج هذه الجرائم من اختصاصه في حال ارتكبها عناصر الجيش، طالما أنّها قد تُفسَّر على أنّها مرتبطة بالوظيفة العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، يُبقي الاقتراح الغموض قائمًا بشأن مدى اختصاص القضاء العسكري للنظر في الجرائم التي يرتكبها عناصر الأجهزة الأمنية في إطار التحقيقات العدلية “العسكرية” (وليس العادية)، أي التي تحصل تحت إشراف القضاء العسكري.

1.3. موقف السلطات القضائية

  • النيابات العامة

على الرغم من أنّ مجلس النوّاب كان قد اعتبر في العام 2017 أنّ تكريس مبدأ صلاحية القضاء العادي للنظر في جرائم التعذيب هو لزوم ما لا يلزم بفعل أحكام المادّة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، إلّا أنّ النيابات العامة، وعلى رأسها النيابة العامة التمييزية، أصرّت على إحالة معظم شكاوى التعذيب التي قُدِّمت أمامها إلى القضاء العسكري.

وفي القضايا الخمس المشمولة في العيِّنة، تقدَّمَ الضحايا بشكاوى مع اتّخاذ صفة الادّعاء الشخصي أمام النيابة العامة التمييزية التي أحالتها جميعها إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية “لإجراء المقتضى”، من دون اتّخاذ أيّ إجراء فيها. وفيما تقدّم وكلاء عيتاني وجابر وشعيب والسعود بطلبات خطِّيّة اعتراضًا على صلاحية القضاء العسكري للنظر في هذه الشكاوى، مطالِبين بإحالتها إلى القضاء العادي سندًا للمادّة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، لم تستجِب النيابتان العامتان التمييزية والعسكرية إلّا مع طلب عيتاني، علمًا أنّ معظم هذه الطلبات قد ترافقت مع بيانات داعمة صادرة عن منظَّمات حقوقية والهيئة الوطنية لحقوق الإنسان.

فبعدما كانت النيابة العامة التمييزية قد أحالت شكوى عيتاني المقدَّمة ضدّ ضبّاط أمن الدولة إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية في 28/11/2018، أعادها هذا الأخير، بناءً على طلب عيتاني، إلى النيابة العامة التمييزية في 10/6/2019 كونها غير مختصّة في التحقيق فيها. وتبعًا لذلك، أحالت النيابة العامة التمييزية الشكوى إلى النيابة العامة الاستئنافية في بيروت في 17/6/2019 لإجراء التحقيقات اللازمة. وقد باشر المحامي العام الاستئنافي في بيروت (زاهر حمادة) التحقيق فيها ليعود ويقرّر حفظها في تاريخ 11/1/2022 من دون أيّ تعليل ومن دون تبليغ الضحيّة.

لم تقدّم أيّ من النيابات العامة المعنيّة في هذه القضايا أيّ تفسير حول مقاربتها لمسألة القضاء المختصّ للنظر في جرائم التعذيب، في حين برّر بعض قضاتها، شفهيًّا، للمحامين هذه الخطوة بأنّ القضاء العسكري أكثر قدرة على التحقيق بشكل فعّال، وبضمان تعاون الأجهزة العسكرية والأمنية وحضور العناصر المشتبَه فيهم أمامه. كما لم يُفهم سبب حصول هذا الاختلاف في توجُّه النيابات العامة بين قضيّة عيتاني والقضايا الأخرى. ونشير في هذا الإطار إلى أنّ أعمال التعذيب المشكوّ منها في هذه القضايا حصلت جميعها في إطار تحقيقات أو في فترة احتجاز تحت إشراف القضاء العسكري، باستثناء قضيّة شعيب حيث أشرف النائب العام التمييزي على التحقيقات الأوّلية ليعود ويحوّلها في 20/01/2020 إلى النيابة العامة الاستئنافية في بيروت، كما وإلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الذي ادّعى بحقّ شعيب أمام المحكمة العسكرية بجريمة معاملة قوى الأمن بالشدّة (المادّة 381 من قانون العقوبات).

بالإضافة إلى هذه القضايا، تجدر الإشارة إلى قضيّتَين أحالتهما النيابة العامة التمييزية إلى القضاء العادي من دون المرور بالقضاء العسكري: الأولى، هي قضيّة حسّان الضيقة الذي توفّي في 12/5/2019 ضمن شبهات بتعرّضه للتعذيب في مقرّ شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، والتي ينظر فيها حاليًّا أحد قضاة التحقيق في بيروت (بلال حلاوي)[27]؛ والثانية، هي قضيّة محمّد علي ربيع الحاج الذي أدلى بتعرّضه للتعذيب في كانون الأوّل 2021 في مفرزة بعبدا القضائية، والتي ينظر فيها حاليًّا أحد قضاة التحقيق في جبل لبنان (بسّام الحاج)، وذلك بناءً على شكوى مباشرة مقدَّمة من الضحيّة وعلى إحالة النيابة العامة التمييزية الإخبار المقدَّم من الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، المتضمّنة لجنة الوقاية من التعذيب، إلى النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان[28]. كما وثّقت “المفكّرة” قيام المحامية العامة الاستئنافية في جبل لبنان (نازك الخطيب)، في تشرين الأوّل 2019، بالادعاء من تلقاء نفسها ضدّ نقيب في قوى الأمن الداخلي بجرم التعذيب أمام القضاء العدلي بعدما ظهرت، في إطار تحقيقات كانت تجريها، أدلّة على ارتكابه أعمال التعذيب بحقّ شخص مشتبَه فيه بالتحرّش بقريبة النقيب[29]. وكانت التحقيقات التي حصلت أعمال التعذيب المدّعى بها في معرضها قد جرت تحت إشراف القضاء العدلي في هذه القضايا الثلاث.

  • القرار الاتّهامي في قضيّة السعود

أمام هذه التساؤلات، جاء القرار الاتّهامي الصادر في 1/12/2022 عن قاضية التحقيق العسكري (نجاة أبو شقرا) في قضيّة وفاة السعود ليقدّم التفسير القضائي الأوّل لمسألة الاختصاص للنظر في جرائم التعذيب منذ صدور قانون معاقبة التعذيب في العام 2017. ففي حين تميّز القرار بضبط وقائع التعذيب بشكل مفصَّل، اعتمد تفسيرًا متحفّظًا بشأن اختصاص القضاء العسكري، بما يخالف المعايير الدولية والتوجُّهات الحقوقية في هذا الشأن[30]. فقد خَلص القرار إلى أنّ المحكمة المختصّة لمحاكمة جرائم التعذيب هي نفسها المحكمة المختصّة لمحاكمة الجرائم التي حصل التعذيب بمناسبة التحقيق فيها. بمعنى أنّ القضاء العسكري يكون مختصًّا للنظر في جرائم التعذيب المرتكَبة في سياق إجراء تحقيق في جرم يخضع لاختصاصه، كما هي حال جرائم الإرهاب أو العمالة. في المقابل، ينحصر اختصاص القضاء العادي للنظر في جرائم التعذيب المرتكَبة في سياق التحقيق في جرائم تدخل ضمن اختصاصه.

وما دفع القاضية إلى مناقشة هذه المسألة هو الطلب الذي قدّمه وكيل ورثة الضحيّة للنيابة العامة التمييزية، طالبًا منها اتّخاذ قرار بإحالة هذه القضيّة إلى القضاء العادي بحجّة أنّ صلاحية النظر في جرائم التعذيب تعود إلى المحاكم العادية وليس إلى المحاكم العسكرية، سندًا للمادّة 15 من أصول المحاكمات الجزائية. لم تنظر النيابة العامة التمييزية في الطلب، إنّما اكتفَت بتحويله إلى قاضية التحقيق العسكري التي كانت قد بدأت تحقيقاتها في القضيّة بموجب ادّعاء من مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية على عناصر من المديرية العامة لأمن الدولة.

وللوصول إلى هذه النتيجة، استند القرار الاتّهامي إلى عدّة حجج، تقبل جميعها الانتقاد على ضوء المعايير الدولية والمبادئ القانونية العامة وفقًا لما سوف نفصّله.

بدايةً، استبعد القرار الاتّهامي تطبيق المادّة 15 من أصول المحاكمات الجزائية التي تكرّس في فقرتها الأخيرة صلاحية القضاء العدلي في هذا الخصوص، بحجّة أنّ “نصّ هذه المادّة يعكس تناقضًا يمنع اعتبارها واجبة التطبيق على جريمة التعذيب تحديدًا”. وقد استخلص القرار التناقض في نصّ المادّة من فقرة أخرى ورد فيها أنّ النائب العام التمييزي يطلب، في حال وجود شبهة على حصول جرم جزائي في أثناء التحقيقات العدلية، من “مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية” الادّعاء بحقّ من يرتكبه، علمًا أنّه ليس لهذا الأخير عادةً الادّعاء إلّا أمام القضاء العسكري. وبنتيجة ذلك، اعتبر القرار ضمنًا أنّ هذه المادّة تقول الشيء وعكسه، ممّا يُوجب استبعادها.

والواقع أنّ التعليل الذي استند إليه القرار يقبل الانتقاد. وإن صحَّ وجود تناقض في المادّة 15، فإنّه يتوجّب على القاضي تفسيرها على النحو الذي يجعلها منسجمة مع الاتّفاقيات والمواثيق الدولية التي التزم بها لبنان، وبشكل خاص مع مبادئ المحاكمة العادلة، سندًا للمادّة 2 من أصول المحاكمات المدنية. ويشكّل هنا تفسير المادّة 15 باتّجاه إقرار اختصاص القضاء العدلي للنظر في جرائم التعذيب شرطًا لتمكين الضحايا من المشاركة في إجراءات التحقيق والمحاكمة ولمنحهم، كما منح المتّهمين، الحقّ في المحاكمة العادلة، لا سيّما لجهة التمتُّع بحقّ المحاكمة على درجتَين، وفقًا لما تمّ تفصيله في الورقة البحثية السابقة. وما يعزّز صحّة هذا التفسير، هو أنّ أيّ تفسير آخر للمادّة 15 يؤدّي عمليًّا إلى إهمال الفقرة الأخيرة منها التي أقرّت باختصاص القضاء العدلي بشكل كامل، ممّا يشكّل مخالفة لمبدأ أنّ “النصّ القانوني وُجِد لإعماله وليس لإهماله” الذي أكّدت عليه محكمة التمييز الجزائية في العام 2013[31]. لذا، كان من الأفضل حلّ التناقض الوارد في المادّة 15 من خلال القول إنّها تمنح مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية صلاحية استثنائية بالادّعاء أمام المحاكم العادية في جرائم التعذيب وأيّ جرم آخر ترتكبه الضابطة العدلية في أثناء التحقيق، بدلًا من إهمال المادّة برمّتها.

كذلك اعتبر القرار أنّ المادّة 15 هي نصّ عام يتعارض مع نصوص خاصة تتعلّق بالنظام العام (أي تتعلّق بالصلاحية القضائية). ومن هذه النصوص: المادّة 5 من المرسوم الاشتراعي رقم 110 تاريخ 1977، التي حصرت صلاحية القضاء العدلي في النظر في الجرائم التي يرتكبها عناصر أمن الدولة خلال قيامهم بالتحقيقات العدلية “العادية”، وأنّ ذلك يعني أنّ القضاء العدلي لا يكون مختصًّا عند قيامهم بالتحقيقات العدلية غير العادية، أي تلك التي تدخل في صلاحية المحاكم الخاصة ومنها المحاكم العسكرية؛ والمادّة 41 من المرسوم 1460 تاريخ 1971، التي تنصّ على اختصاص القضاء العسكري في حال ارتكاب أيّ من عناصر قوى الأمن الداخلي أو قوى الأمن العام مخالفات في أثناء قيامهم بمهمّات من اختصاص القضاء العسكري.

والواقع أنّ هذا التفسير يتناقض مع المبادئ التي يخضع لها حلّ التنازع بين النصوص. فالمادّة 15 وردَت ضمن قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في العام 2001، والذي رمى إلى تعزيز شروط المحاكمة العادلة، في حين أنّ مُجمَل النصوص التي قدّمها عليها القرار الاتّهامي تعود إلى السبعينيات. لذلك، كان يتوجّب على القرار اعتبار أنّ الفقرة الأخيرة من المادّة 15 التي كرّست صلاحية القضاء العدلي في هذا الخصوص، ألغت ضمنًا النصوص السابقة لها والتي تتعارض معها. وما يؤكّد ذلك هو أنّ هذه الفقرة الأخيرة نصّت صراحة على أنّها تنطبق “رغم كلّ نصّ مخالف”. وما يعزّز ذلك أيضًا هو أنّ المادّة 15 عالجت حصرًا المخالفات التي ترتكبها الضابطة العدلية في أثناء التحقيقات الأوّلية، بمعنى أنّها تشكّل بالضرورة نصًّا خاصًّا بالنسبة إلى النصّ العام الذي يمنح القضاء العسكري صلاحية للنظر في الجرائم التي ترتكبها الضابطة العدلية فيما يتّصل بالقيام بوظائفها.

وبعد استبعاد تطبيق المادّة 15، اعتبر القرار أنّ قانون معاقبة جرائم التعذيب 65/2017 لم يحدّد القضاء المختصّ للنظر في الجريمة موضوعه، “ما يوجب العودة إلى النصوص المتعلّقة بتحديد الاختصاص في الملاحقة الجزائية”. وعليه، اعتبر أنّ النصّ الواجب تطبيقه هو النصّ الذي يحدّد خضوع عناصر أمن الدولة لصلاحية القضاء العسكري متى ارتكبوا جرائم تتعلّق بوظيفتهم، وأنّ وظيفتهم كضابطة عدلية هي أهمّ وظيفة (المادّة 27 من قانون القضاء العسكري). إلّا أنّ هذه الحجّة تتجاهل المعايير الدولية ونيّة المشرِّع اللبناني وفقًا لما يظهر من المناقشات النيابية الحاصلة عند إقرار قانون معاقبة جرائم التعذيب في تاريخ 19/9/2017، والتي ذهبت صراحة في اتّجاه اعتبار جرائم التعذيب داخلة ضمن نطاق المادّة 15 التي تقرّ بصلاحية القضاء العادي وفقًا لما أسلفنا.

أخيرًا، يضيف القرار إلى حججه أنّ ثمّة مصلحة في منح المحكمة الناظرة في جرم معيّن صلاحية النظر في جرائم التعذيب المرتكبة في أثناء التحقيق فيه. وقد رأى القرار أنّ هذا التفسير ينسجم مع نصوص القضاء العسكري وتعديلاته، ومع المادّة 4 من قانون معاقبة التعذيب، طالما أنّ القاضي المختصّ في الجرم يكون مدعوًّا إلى إبطال “الأقوال التي يتمّ الإدلاء بها تحت التعذيب”.

إلّا أنّ هذه الحجّة تخالف صراحةً المعايير الدولية التي توصي بأن تكون الجهة التي تتولّى التحقيق في قضايا التعذيب مستقلّة ولا علاقة لها بسلطة التحقيق أو الملاحقة القضائية في القضيّة التي اتّهم فيها الشخص المدّعى تعرّضه للتعذيب[32]. بالإضافة إلى ذلك، تقبل هذه الحجّة الانتقاد أيضًا طالما أنّ إبطال التحقيقات على خلفيّة حصول مخالفات أمر، ومحاكمة جريمة التعذيب أمر آخر. فيبقى على أيّ هيئة قضائية تتثبّت من إدلاء المدّعى عليهم بأقوال تحت التعذيب أن تبطل التحقيقات في الجرم الذي تنظر فيه، في موازاة إحالتها الأدلّة على ارتكاب جرم تعذيب إلى مرجع قضائي مختلف يكون هو المختصّ لمباشرة الملاحقة في جريمة التعذيب. وهذا ما يحصل مثلًا حين يكتشف القاضي المنفرِد الجزائي الناظر في جنحة ارتكاب جناية التعذيب بحقّ المدَّعى عليه الذي يحاكم أمامه. ففي هذه الحالة، يتوجّب على هذا القاضي متابعة محاكمة المدّعى عليه في هذه الجنحة، وإحالة الأدلّة التي في حوزته حول جناية التعذيب إلى النيابة العامة لمباشرة الملاحقة، وصولًا إلى محاكمة من قد يُتَّهم بالتعذيب أمام محكمة أخرى هي محكمة الجنايات.

  • قضيّة عامر الفاخوري

ختامًا، تجدر الإشارة إلى أنّ القضاء العسكري قد ربط اختصاصه في محاكمة عامر الفاخوري بجرائم القتل والخطف التي ترافقت مع أعمال تعذيب على أسرى في سجن الخيام في جنوب لبنان خلال فترة الحرب اللبنانية، وذلك من دون تقديم أيّ تفسير حول هذه الصلاحية. فقد صدر القرار الاتّهامي بحقّه عن قاضية التحقيق العسكري (نجاة أبو شقرا) في 4/2/2020 باتّهامه بموجب الموادّ 549 و569 من قانون العقوبات، ومن ثمّ أصدرت المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت قرارًا في 17/3/2020 بكفّ التعقُّبات بحقّه لمرور الزمن على الدعوى العامة، من دون أن يناقش أيّ من القرارَين اختصاص القضاء العسكري؛ علمًا أنّ قواعد الاختصاص هي من الانتظام العام التي يتوجّب على المراجع القضائية إثارتها عفوًا. وبالفعل، لا تُعَدّ هذه الجرائم من الجرائم العسكرية، كما أنّ الفاخوري لم يكن ينتمي إلى أيّ من الأجهزة العسكرية أو الأمنية التابعة للدولة اللبنانية أو لدولة أجنبية[33].

لتحميل الدراسة بصيغة PDF


[1] بعد 5 سنوات من إقرار قانون معاقبة التعذيب، لا يوجد تقدّم ملموس في تطبيق القانون، بيان مشترك لتسع منظّمات حقوقية، 26/06/2023. لبنان: شكوى تعذيب لاجئ سوري حتى الموتيجب محاكمة عناصر قوى الأمن المتهمين في المحاكم الجزائية العادية، بيان مشترك لأربع منظّمات حقوقية، 26/09/2022. لبنان: أحيلوا تعذيب الممثل زياد عيتاني إلى محكمة مدنية، لا يجوز النظر بقضيته في المحاكم العسكرية، بيان مشترك لثلاث منظّمات حقوقية، 2/04/2019.

[2] مشروع مبادئ بشأن إقامة العدل عن طريق المحاكم العسكرية، تقرير مقدّم من المقرّر الخاص للّجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان، السيّد إمانويل ديكو، إلى الأمم المتّحدة المجلس الاقتصادي والاجتماعي، اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان خلال دورتها الثانية والستّين في تاريــــخ 13/01/2006، والتي نشرها مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوّات المسلّحة (ديكاف) في العام 2009.

[3]وفقًا لمبادئ ديكو، أقرّت الجمعية العامة للأمم المتّحدة بهذا المبدأ لدى إقرارها الإعلان المتعلّق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري في العام 1992، حيث نصّت على أنّه “لا تجوز محاكمة مرتكبي جرائم الاختفاء القسري إلّا بواسطة السلطات القضائية العادية المختصّة في كلّ بلد من دون أيّ قضاء خاص آخر، ولا سيّما القضاء العسكري”. وبالرغم من أنّه لم يتمّ إدراج هذا المبدأ في الاتّفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري التي أقرّت في العام 2010، إلّا أنّه يتكرّر في اجتهادات العديد من المراجع الدولية مثل اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان، ولجنة مناهضة التعذيب، ولجنة حقوق الطفل، واللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، ومحكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، كما والتقارير الصادرة بموجب الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان.

[4] الأمم المتّحدة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان: إقامة العدل وتأمين حقوق الإنسان للمحتجزين “مسألة إفلات مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان (المدنية والسياسية) من العقاب”، تقرير نهائي منقح أعدّه السيد ل. جوانيه تطبيقًا للقرار 119/1996، E/CN.4/Sub.2/1997/20/Rev.1

[5]  فريديريكو أندرو-غوزمان، القانون العسكري والقانون الدولي (اللجنة الدولية للحقوقيين، 2004)، ص 76.

[6]  فريديريكو أندرو-غوزمان، المرجع نفسه، ص 50 و57-63.

[7] CCPR/C/79/Add.78 الفقرة 14.

[8]  CCPR/C/LBN/CO/3 الفقرات 30 و43-44.

[9] ميريم مهنّا، كيف تمدّدت أذرع القضاء العسكري في لبنان؟، المفكّرة القانونية، 15/06/2015.

[10]  https://www.stl-tsl.org/sites/default/files/documents/legal-documents/statute/Statute_of_the_Special_Tribunal_for_Lebanon_Arabic.pdf

[11] رانيا حمزة، نقاشات معيبة في مجلس نواب لبنان: التعذيب عمل أمني، ومن دونه على الدنيا السلام، المفكّرة القانونية، 18/08/2017.

[12] رانيا حمزة، مخيبر يسجل إنجازه الثالث في أقل من سنة: مجلس النواب يعاقب التعذيب شرط مراعاة المحكمة العسكرية، المفكّرة القانونية، 20/09/2017.

[13] المرصد البرلماني في المفكّرة القانونية، أعمال المجلس النيابي لعامَي 2019-2020، المفكّرة القانونية، تشرين الثاني 2021، ص 350-351.

[14] قرار البتّ بدفوع شكلية، صادر عن قاضية التحقيق العسكري في بيروت (نجاة أبو شقرا)، في تاريخ 19/03/2019 في دعوى الحقّ العام ضدّ عامر الياس الفاخوري، المنشور على موقع “محكمة” في تاريخ 19/03/2020.

[15] قرار اتّهام صادر عن قاضية التحقيق العسكري في بيروت (نجاة أبو شقرا)، في تاريخ 4/02/2020 في دعوى الحقّ العام ضدّ عامر الياس الفاخوري رقم 14281/2019، المنشور على موقع “محكمة”: الجزء الأوّل والجزء الثاني في تاريخ 5/02/2020 والجزء الثالث في تاريخ 6/02/2020.

[16] قرار البتّ بدفوع شكلية صادر عن قاضية التحقيق العسكري في بيروت (نجاة أبو شقرا)، في تاريخ 19/03/2019 في دعوى الحقّ العام ضدّ عامر الياس الفاخوري، المنشور على موقع “محكمة” في تاريخ 19/03/2020.

[17] نجيب فرحات، قراءة حقوقية في قرار كفّ التعقبات عن الفاخوري: كأننا لم نقرّ قانونًا حول حقوق المفقودين، المفكّرة القانونية، 21/03/2020.

[18] كلوديت سركيس، التمييز العسكرية أبرمت حكم الفاخوري: المسؤولية على تقصير التشريع، النهار، 2/05/2020.

[19] غيدة فرنجية، اقتراح تعديل قانون التعذيب: إصلاحات لتفعيل المحاسبة لكن ماذا عن مرور الزمن الذي استفاد منه الفاخوري؟، المفكّرة القانونية – المرصد البرلماني لبنان، 20/12/2020.

[20] المرصد البرلماني في المفكّرة القانونية، كامل نتائج الجلسة التشريعية 21 كانون الأول 2020: المجلس النيابي يقارب السرية المدمّرة بخفر، المفكّرة القانونية، 23/12/2020.

[21] لجنة الإدارة والعدل قررت تشكيل لجنة فرعية لدرس اقتراح قانون تعديل بعض مواد قانون القضاء العسكري، موقع مجلس النوّاب اللبناني، 11/04/2023.

[22] غيدة فرنجية، المبادرة التشريعية الأولى لإصلاح شامل للقضاء العسكري (1): حصر اختصاصه مع الإبقاء على ثغرات هامّة، المفكّرة القانونية، 7/12/2023. غيدة فرنجية، المبادرة التشريعية الأولى لإصلاح شامل للقضاء العسكري (2): تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة من دون الاستقلالية، المفكّرة القانونية، 8/12/2023.

[23] نقولا غصن، محاولة جديدة منقوصة للحدّ من اختصاص المحكمة العسكريّة، المفكّرة القانونية – المرصد البرلماني لبنان، 15/04/2022.

[24] اقتراح قانون بحصر صلاحيات المحكمة العسكرية أمام لجنة الإدارة والعدل: المفكّرة تنشر نصّ الاقتراح كاملًا، المفكّرة القانونية، 1/02/2016. استقالة الوزير أشرف ريفي: أي نتائج على صعيد المحكمة العسكرية؟ المفكّرة القانونية، 2/03/2016.

[25] اقتراح تعديل قانون القضاء العسكري في لبنان، المقدّم من النائب سامي جميّل، 23/08/2016.

[26] المرصد البرلماني في المفكّرة القانونية، على خلفية حكم العسكرية ضدّ شمس الدين: اقتراحقانون آدمليعقوبيان لمنع محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، المفكّرة القانونية، 15/03/2019.

[27] رانيا حمزة، التعذيب يقتل؟ أبعد من المسؤولية عن وفاة حسان الضيقة، تعطيل موصوف لآليات الوقاية من التعذيب ومكافحته في لبنان، المفكّرة القانونية، 1/6/2019. بدء التحقيق في قضية وفاة الضيقة: كي لا يبقى قانون مكافحة التعذيب حبرًا على ورق، المفكّرة القانونية، 27/2/2020.

[28]  https://nhrclb.org/ar/Publicity/26 الفقرتان 138-139.

[29] القاضية الخطيب تبادر لتطبيق قانون تجريم التعذيب: تحقيق يكشف ممارسات خطيرة، المفكّرة القانونية، 14/10/2019.

[30] نزار صاغية، لين أيّوب، التعذيب الممنهج في أروقة أمن الدولة (1): تغيَّر الراوي، تغيًّرت الرواية، المفكّرة القانونية، 14/12/2022. نزار صاغية، لين أيّوب، التعذيب الممنهج في أروقة أمن الدولة (2): جرائم التعذيب بعهدة القضاء العسكري، المفكّرة القانونية، 16/12/2022.

[31] محكمة التمييز تقرّ “مبدأ العلاج كبديل عن الملاحقة“: نهار جديد لآلاف الأشخاص المدمنين، المفكّرة القانونية، 30/10/2013.

[32]  https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/training8Rev1ar.pdf الفقرة 20.

E/CN.4/1996/35 paragraph 926 (g) and E/CN.4/1995/34

[33] نجيب فرحات، قراءة حقوقية في قرار كفّ التعقبات عن الفاخوري: كأننا لم نقرّ قانونًا حول حقوق المفقودين، المفكّرة القانونية، 21/03/2020.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم عسكرية ، قرارات قضائية ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني