أين نحن من الحكومة الإلكترونية: التحوّل الرّقمي يضع الإدارة أمام إشكاليّاتها العميقة


2021-01-24    |   

أين نحن من الحكومة الإلكترونية: التحوّل الرّقمي يضع الإدارة أمام إشكاليّاتها العميقة

يعتبر قطاع التكنولوجيا اليوم من أكثر القطاعات نموّاً عالمياً، وقد بدأ التحوّل الرقمي يفرض نفسه على المجالات الخاصّة والعامّة كافّة. وتبنّت الدول مصطلح “التحوّل الرقمي” للدلالة على التأثير الجذري لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات على مقاربة الإدارة، أبعد من اعتبارها مجرّد وسيلة لتحسين أدائها. وتُعتبر الحكومة الإلكترونية بمثابة التطوّر الحتمي في القطاع العامّ، وهي عبارة عن نظام حديث مبني على استخدام شبكة الإنترنت لربط مؤسّسات الدولة بعضها ببعض من جهة وبالجمهور من جهة ثانية، وتحويل وظائف المؤسّسات العامة، وعمليّاتها، وخدماتها كافّة لتتمّ بطريقة إلكترونية. ولهذا التحوّل فائدة كبيرة متعدّدة الأبعاد: تحسين فعالية الإدارة وكفاءتها وتسهيل وصول الجمهور إلى الخدمات والمعلومات في أيّ وقت وأيّ مكان من خلال الحاسوب أو الهاتف المحمول؛ والحدّ من الفساد وتسهيل استشارة المواطنين وإشراكهم في اتخاذ القرارات وإرساء بيئة أفضل للأعمال وتطوير الاقتصاد إلخ…

في سياق أزمة جائحة كورونا العالمية وإجراءات التعبئة العامّة التي فرضت الإقفال التامّ أو الجزئي لمعظم المؤسّسات الخاصّة والعامّة، تجاوز اعتماد الوسائل الإلكترونية هدف تحسين أداء الإدارة أو خدمة المواطنين وتعدّاهما إلى ضمان استمرار المرفق العام ومعه عجلة الاقتصاد وتسيير الشؤون الأساسية للمواطن والدولة بشكل لا يؤدّي إلى التضحية بالصحّة العامّة.

ويفرض هذا الواقع اليوم سؤالاً مهمّاً وهو أين نحن في مسار التقدّم نحو الحكومة الإلكترونية؟ وهو سؤال سنحاول الإجابة عليه في هذه المقالة حيث سنعرض أحدث الاستراتيجيات المرتبطة بالتحوّل الرقمي التي أعدّتها جهات حكومية مختلفة في السنتين الماضيتين، ومن ثم نلخّص بعض التحدّيات التي يطرحها تطبيقها. وقد استندت المقالة إلى 3 مقابلات مع 4 خبراء معنيين ومتابعين لهذا الملف منذ عشرات السنين وهم: ناصر عسراوي، مدير وحدة التعاون الفنيّ في مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية وهو المؤسّسة التي ساهمت بشكلٍ رئيسي في إدخال تقنيات المعلومات والاتصالات إلى معظم إدارات الدولة، وتانيا زاروبي رئيسة فريق التبادل البيني ومديرة مشاريع معلوماتية رئيسية في المكتب نفسه، ود. بيتر سلّوم، منسّق برنامج الدعم التقني للحكومة اللبنانية الذي يتضمّن التعاون مع 93 مؤسّسة عامّة وتنفّذه شركة “كراون إيجنتس” Crown Agents البريطانية بتمويل من الاتحاد الأوروبي، والمهندسة سلام يمّوت منسّقة الاستراتيجية الوطنية لتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات لدى رئاسة مجلس الوزراء بين 2010 و2016.

استراتيجيات التحوّل الرقمي

حفل عاما 2018 و2019 بنشاطات حكومية عديدة مرتبطة بالتحوّل الرقمي الذي وُضع ضمن أولويّات البيان الوزاري لحكومة سعد الحريري (2019) وشكّل رئيس الحكومة لجنة وزارية تضم الوزارات والمؤسّسات العامّة المعنية بالملفّ لتنسيق العمل فيما بينها والاتفاق على حوكمة مسار التحوّل الرقمي. وتطوّر العمل خلال هاتين السنتين على 3 استراتيجيات متوازية: أوّلاً، طوّر مكتب وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية OMSAR استراتيجية التحوّل الرقمي الشاملة، ثانياً، استُحدثت وزارة الدولة لشؤون التكنولوجيا والاستثمار وكلّفت بتطوير استراتيجية التحوّل الرقمي في القطاع الخاص والاقتصاد، ثالثاً، شُكّل فريق وطني من مختلف الوزارات والقطاعات الاقتصادية والهيئات الأمنية والعسكرية لوضع خطّة لمواجهة مخاطر جرائم المعلوماتية وإعداد استراتيجية وطنية لمأسَسة عمل الأمن السيبراني.

أوّلاً – استراتيجية التحوّل الرقمي الشاملة

صدرت النسخة الأولى من استراتيجية التحوّل الرقمي عام 2018 وبنى OMSAR عليها مضيفاً العديد من العناصر المهمّة كتحليلٍ للوضع وتحليل القطاع وخطّة التنفيذ ومشاركة المعنيين عبر أكثر من 300 تفاعل مع أفراد لبنانيين ودوليين مختلفين ومنظمات مجتمع مدني متخصّصة إضافةً إلى القطاعين العام والخاص. ووضعت الاستراتيجية خريطة طريق التحوّل الرقمي في القطاع لفترة 2020-2030 نُشرت بعض ملامحها على موقع OMSAR الإلكتروني. ومن أسس الاستراتيجية، اقتراحها حوكمة إدارة التحوّل الرقمي على ثلاثة مستويات: مستوى المسؤولية الاستراتيجية (STRATEGY) التي يتشاركها أعضاء لجنة وزارية، مستوى مسؤولية تطوير أو بناء قطع الحلول (building blocks) التكنولوجية (BUILD) والتي ستوزّع مسؤوليّتها على مؤسّسات عامّة مختلفة بحسب قدرتها على تطويرها، وأخيراً مسؤولية التشغيل للحلول التكنولوجية (OPERATE) وستوزّع هذه المسؤولية على مختلف المؤسّسات المسؤولة عن تقديم الخدمة المعيّنة.

رسم بياني للحوكمة

رسم بياني لحوكمة إدارة التحوّل الرقمي التي تمّ الاتفاق عليها من قبل رئاسة الوزراء، OMSAR، ومكتب وزير الدولة للاستثمار والتكنولوجيا.

وتلتزم الاستراتيجية أوّلاً بمبدأ الحكومة المفتوحة أي التي تتيح الوصول إلى المعلومات كافّة بشكلٍ شفّاف، وثانياً بمبدأ الأمان من خلال التزام كافة الحلول التكنولوجية بأعلى عوامل الأمان بشكل تلقائي (by default)، وأخيراً بمبدأ الجهوزية وإدارة المخاطر لتأمين استمرارية الأعمال.

وتُرجمت هذه الاستراتيجية إلى 80 مشروعاً تمّ الرصد المبدئي للموارد المالية لها من خلال منح من البنك الدولي بقيمة تتراوح بين 60 و100 مليون دولار. من بين هذه المشاريع، مشروع إعادة تطوير موقع “دولتي” الإلكتروني ليصبح البوّابة المشتركة للحكومة الإلكترونية العتيدة، حيث تقوم مؤسّسات الدولة كافّة بدمج خدماتها الإلكترونية عليها من خلال واجهات برمجة تطبيقات (API). ويضع هذا الموقع في تصرّف المؤسّسات عدداً من الخدمات التكنولوجية الأساسية: تكنولوجيا المصادقة على الهوية، الفوترة الإلكترونية، الدفع الإلكتروني، منصّة قابلية التبادل المعلوماتي (interoperability platform)، المعاملات الإلكترونية، وتطبيق إلكتروني لتتبّع سير العمليات. وقد تقدّم فريق OMSAR في العمل على تطوير منصّة “دولتي” متّخذاً من تنفيذ مشروع منصّة التسجيل في السجلّ التجاري الإلكترونية (التي تربط بين وزارة العدل، ووزارة المالية، ووزارة العمل، والضمان الاجتماعي) فرصةً لتطويرها بالتوازي مع تطوير منصّة القابلية للتبادل البيني. وبحسب تانيا زاروبي، مديرة هذا المشروع تتضمّن فوائده: تنفيذ التبادل الإلكتروني للبيانات وإمكانية التشغيل البيني بين إدارات الدولة من أجل تقليل الازدواجية في جمع المعلومات نفسها ومعالجتها في حالات متعدّدة وتقليل عدد الخطوات والتكلفة المرتبطة بالتفاعل بين مجتمع الأعمال والدولة وضمان صحّة البيانات ودقّتها والحدّ من الاحتيال وتقليل تكرار البيانات وأخيراً تعزيز الشفافية على غرار السجّل التجاري الذي يتيح بياناته للجميع على الإنترنت.

ثانياً – خريطة طريق شاملة للإصلاح الرّقمي في القطاع الخاص

طوّر مكتب وزير الدولة لشؤون التكنولوجيا والاستثمار مع فريق من الخبراء المتطوّعين، من جهته، خريطة طريق شاملة للإصلاح والتحوّل الرقمي في القطاع الخاص والاقتصاد بهدف مضاعفة مساهمة اقتصاد المعرفة في الناتج المحلّي الإجمالي، ومضاعفة التوظيف في هذا القطاع. وتستند خطّته على 7 ركائز هي: إصلاح بيئة الأعمال، جذب رأس المال والاستثمارات، وتحسين المهارات الرقمية على صعيد الوطن، وتحويل لبنان إلى مركز إقليمي رائد في اقتصاد المعرفة، ودعم تصدير المنتجات الإلكترونية، والابتكار. ويندرج من ضمن ركيزة “الابتكار”، العمل على قانونين جديدين يتناولان الجرائم الإلكترونية، وحماية خصوصية البيانات الشخصية، في سبيل الامتثال لمعايير اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR (المعايير الأوروبية المقرّة عام 2016) وسدّ ثغرات قانون المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي رقم 81\2018[1].

وكان وزير الدولة لشؤون التكنولوجيا والاستثمار قد باشر العمل على المراسيم التطبيقية للقانون 81\2018 ومن أهمّها: مرسوم لتنظيم الإجراءات الخاصّة والضمانات المتعلّقة بالأسناد الرسمية ونطاقها (المادة 8)، ومرسوم يحدّد آلية حفظ أو محو المعلومات المتعلّقة بحركة البيانات وماهيّة هذه المعلومات من قبل مقدّمي الخدمات التقنية، ومرسوم آخر يحدّد التدابير التقنيات الملائمة لحفظ البيانات التقنية (المادة 72)، وتأليف الهيئة الوطنية لإدارة النطاقات الخاصّة بلبنان (المادة 79).

ومن ضمن الخطّة المقترحة تحويل لبنان إلى “مجتمع غير نقدي” (cashless society) بالتعاون مع مصرف لبنان المركزي من خلال إنشاء عملة رقمية للاستخدام المحلّي، وهي المبادرة التي بدأ مصرف لبنان التبشير بها منذ 2018، وقد عادت إلى الواجهة مؤخّراً كحلّ لتخفيف التضخّم والسيولة في السوق. وتجدر الإشارة إلى أنّ القانون 81\2018 كان قد أعطى البنك المركزي هذه الصلاحية مباشرة، من دون الحاجة إلى إصدار مرسوم تطبيقيّ. في الاتّجاه نفسه، بدأ العمل بالتوقيع الإلكتروني في المصارف الخاصّة على عكس بقيّة المؤسّسات التي تنتظر في سبيل ذلك تحديد الإجراءات التنفيذية وصدور المراسيم التطبيقية.

ثالثاً – مأسَسة عمل الأمن السيبراني

أخيراً، تهدف الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني إلى حماية الأصول الحكومية والأسواق وقطاعات الأعمال التجارية والمواطنين من التهديد والهجمات السيبرانية، كتهديدات القرصنة والاحتيال الإلكتروني، وهي تهديدات متزايدة نظراً لتزايد المعاملات والبيانات الإلكترونية. تتألّف هذه الاستراتيجية من ثمانية أركان وهي: اتّخاذ إجراءات الدفاع والردع وتعزيز الجهود لمكافحة التهديدات السيبرانية من الداخل والخارج، وذلك من خلال إنشاء نظام على مستوى الوطن يمكنه تنسيق استجابة منسّقة، ضمن قانون موحّد وإطار فني متكامل؛ تطوير التعاون الدولي؛ تنمية قدرات الدولة باستمرار؛ تعزيز القدرات التعليمية المحلية؛ تعزيز القدرات الصناعية والتقنية المحلية؛ دعم تصدير وتدويل شركات وصناعات الأمن السيبراني المحلية؛ تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لا سيّما القطاع المصرفي والمالي؛ وتعزيز دور أجهزة الأمن والمخابرات وتعزيز التعاون والتنسيق المتبادلين بدعم المجلس الأعلى للدفاع وإشرافه.

تشير الاستراتيجية إلى أنّ لبنان يحتلّ موقعاً متأخّراً جداً على مؤشر الأمن السيبراني العالمي الذي يصدره الاتحاد الدولي للاتصالات، وهو عرضة لمخاطر متعدّدة قد تستهدف أمنه وبناه التحتية فضلاً عن سلامة مواطنيه وخصوصيّتهم. وتُشدّد الاستراتيجية على الحاجة الماسّة إلى توحيد جهود الأطراف كافّة وعلى ضرورة تأسيس “الوكالة الوطنية للأمن السيبراني ونظم المعلومات” بشكل طارئ، لتكون هي المسؤولة عن وضع سياسات وإجراءات الأمن السيبراني لكافّة أنظمة المعلومات في لبنان، وعن إنشاء وإدارة فريق وطني للاستجابة لحوادث الأمن السيبراني (CSIRT) من بين مهامها الأخرى، يعمل تحت إشراف المجلس الأعلى للدفاع.

تحدّيات التحوّل الرقمي

يتهيّأ للقارئ، وللوهلة الأولى، عند الاطّلاع على مشاريع واستراتيجيات التحوّل الرقمي المنجزة، أنّ الرؤية واضحة والطريق سالكة للانتقال بعد بضع سنوات إلى عالم افتراضي حيث يصبح لبنان دولة شفافة وفعّالة وتضع المواطنين في صلب أولويّات متخذي القرار (بحسب الأهداف المعلنة للحكومة الإلكترونية). لكن سرعان ما يتبدّد هذا الانطباع عند استشارة بعض الخبراء المعنيين بالملف منذ بدء مساعي لبنان للحكومة الإلكترونية في التسعينيّات والاطّلاع على نتائج أحدث مسح عالمي لتنمية الحكومة الإلكتروني أجرته في 2020 إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية لدى الأمم المتحدة، حيث حلّ لبنان في المرتبة 127 من أصل 193 دولة عالمياً وبمؤشر 0.4955 لتنمية الحكومة الإلكترونية، وحلّ في المرتبة 148 عالمياً وبمؤشر 0.333 بالنسبة للمشاركة الإلكترونية، أي أدنى من المعدل العالمي ومعدل منطقة غرب آسيا التي ينتمي إليها في كلتا الحالتين. وإذ يبدو من الصعب تقييم هذا المسار بالتفصيل أو استخلاص كافّة العبر من التجارب السابقة، تسهم العودة إلى هذا المسار في إبراز ثلاثة تحدّيات أساسية أمام التحوّل الرقمي للإدارة في لبنان.

يقول د. سلّوم بلهجة ساخرة، إنّ كمّ الموارد المالية الذي سبق وأنفق على مشاريع الحكومة الإلكترونية في لبنان – ويقدّرها بمئات ملايين الدولارات – كان كافياً لتجهيز حكومات إلكترونية. وعند سؤال (سلام) يمّوت عن الموضوع، تجيب بسخط أنّها عند استلامها منصبها في مكتب رئاسة مجلس الوزراء في عام 2010، طلبت من خبير دولي مساعدتها لمعرفة كم استثمر لبنان في قطاع التكنولوجيا من دون أن تستطيع الوصول إلى إجابات قاطعة. فتكشف مثلاً أنّ شراء الحواسيب لكلّ إدارة كان يتمّ من خلال باب “اللوازم الأخرى” في الموازنة أي مع مواد التنظيف والمازوت. لكن الأخطر بالنسبة لها استحالة التوصّل إلى تحديد الأرقام التي صُرفت على المكننة (automation) في وزارة الاتصالات نظراً إلى ضخامتها، بسبب السرّية التي تحيط بملفّات شركتَي “ميك1″ و”ميك2” المشغّلتين للخليوي في لبنان، على الرغم من أنّ تجهيز الجيل الثالث والرابع لشبكات الخليوي والألياف البصرية حصل كلّه من المال العام. كما تؤكد يمّوت عدم التمكّن من تحديد كم أنفقت وزارة التربية على المكننة، حيث أنّ جزءاً من المال مرتبط بهبات وجزءاً آخر بمنح. والأمر نفسه ينسحب على وزارة المالية وتحديداً على أيام الوزير السابق فؤاد السنيورة، إذ أنّ الأخير “كان يطلب الاعتمادات من مجلس الوزراء بشكل جزئي على مدى سنوات من دون أن يحدد كيفية صرفها” دائماً بحسب يمّوت.

ويمكن تلخيص أبرز التحدّيات على الشكل التالي:

  • انعدام الجديّة السياسيّة

من الملفت، وخلال أكثر من عقدين من العمل وإنجاز الاستراتيجيات، عدم إقرار الحكومة لأيّ واحدة منها كي تشكّل الرؤية الجامعة لكافة المؤسّسات المنخرطة في تنفيذ مشاريع المكننة، على الرغم من الأموال العامّة الضخمة التي صرفت تحت هذا العنوان. وإن دلّ ذلك فعلى انعدام النيّة السياسية الجديّة للسير في ذلك.

ويمكن الوصول إلى الاستنتاج نفسه عند مراقبة وتيرة التشريعات المتعلّقة بالحكومة الإلكترونية، لا سيما التأخّر في إقرار القانون 81\2018 لمدّة 13 سنة منذ إعداده، أي بعدما أصبح متأخراً بالنسبة إلى التطوّر الحاصل في المجال الإلكتروني والمعايير الدولية المتّصلة به. وفور إقراره بدا من الضروري العمل على قوانين جديدة لسدّ ثغراته، حتّى قبل أن تصبح كامل بنوده نافذة، نتيجة عدم إنجاز مراسيمه التطبيقية. من جهة أخرى، أصدر مجلس الوزراء المرسوم التطبيقي لقانون اعتماد رقم موحّد لكلّ مواطن أمام الإدارات العامّة رقم 241 عام 2017، وهو الرقم الذي من المفترض أن تستخدمه كافة الإدارات في المعاملات المتعلّقة بالمواطن ممّا يسمح بربطها ببعضها.

وتؤكد يّموت هذا الاستنتاج هي التي عانت من عدم وجود مبادئ توجيهية أو سياسة عامة متفق عليها خلال تجربتها في مكتب رئاسة مجلس الوزراء، واقتنعت في نهاية المطاف أنّ النيّة السياسة غير موجودة لاستكمال مسار التحوّل الرقمي حاسمة الأمر بالقول “إنّهم لا يريدون المكننة، لأنّها تعني الشفافية”.

بشكل موازٍ، تتبدّى مفاعيل انعدام الجدّية بالنظر إلى هدر الأموال العامّة في سبيل الحكومة الإلكترونية من دون التوصّل إلى نتائج واضحة كما سبق بيانه.

  • عدم اعتماد الإدارات إجراءات مبسّطة وموحّدة

يفترض العمل على الحكومة الإلكترونية والتحويل المنهجي لكافّة العمليات الإدارية إلى شكل رقمي، وجود دليل إجراءات بها، وهو نصّ يحدّد العمليات الإدارية والمعلومات المرتبطة بها: المستندات المطلوبة، مهل الإنجاز، الرسوم المطلوبة، مسارها داخل الإدارة، هويّة ومهام الوحدات الإدارية والموظفين في كلّ مرحلة، إلخ. أمّا في لبنان، فيكشف د. سلّوم أنّ معظم الإدارات لم تطوّر هذه النصوص بل يعتمد الموظفون مجموعة ممارسات معقّدة وغير مكتوبة وتفسح المجال لتفشّي الفساد، مضيفاً أنّ التحدّي الأساسي يكمن في كيفية العمل داخل الإدارة. فـ”لا يمكن أن نتكلّم عن حكومة إلكترونية عندما يتطلّب إجراء إداري واحد مئة توقيع”، مشيراً إلى التعقيدات البيروقراطية في الإدارة اللبنانية. والملفت أنّه بالنسبة إليه، ترتبط هذه التعقيدات عضوياً بالفساد المستشري والمصالح الخاصّة التي تهيمن على الإدارة، كوجود بعض الموظّفين الذين يعرقلون العمل ما لم يقبضوا “بخشيشاً” أو آليات عمل مركّبة تهدف إلى تعقيد الوصول إلى الشفافية والمحاسبة. وعلى سبيل المثال، يذكر إحدى البلديات التي عمل على مكننتها في السابق، والتي أوجدت في دائرة واحدة 10 أقلام لتسجيل المعاملات ورفضت “توحيدها في قاعدة بيانات واحدة كما هو ضروري للمكننة”.

عند سؤال (تانيا) زاروبي عن مسألة تبسيط الإجراءات، هي التي عملت لمدّة 23 سنة ضمن الفريق التقني في OMSAR، أوضحت أنّ منهجيّة الفريق في جميع مشاريع المكننة التي أُنجزت كانت تبدأ بمرحلة تبسيط الإجراءات الإدارية ومن ثمّ مكننتها. ويقع عبء تنفيذ هذه التوصيات على الإدارة نفسها وليس على الفريق التقني، مما يتطلّب مجهوداً وموارد وتدريب ومهارات لإنجازها. ويؤكّد (ناصر) عسراوي بدوره أنّ عدم التزام الإدارات بتبسيط الإجراءات، وإن كان ذلك لأسباب فنية أو معرفية أو لأسباب أخرى، هو من أهم أسباب فشل بعض مشاريع المكننة السابقة. ولكنّه يعتبر أنّه من ضمن 40 مشروع مكننة نفّذها OMSAR حتى الآن، تصل نسبة النجاح إلى 60%، وهي نسبة جيّدة مقارنةً بالنسب العالمية، على حدّ قوله. أما بالنسبة إلى نقص الموارد الكافية أو قدرة المؤسّسات المهتمّة باستكمال مشروع المكننة فيجيب: “وما عسانا أن نفعل كإدارة عامة، إلّا أن نوجّه كتباً متكرّرة للإدارة المعنيّة لمطالبتها بإرسال كتاب لوزارة المالية لتخصيص اعتماد لذلك؟”

  • ضعف التنسيق والفعالية في الحوكمة

من أهمّ تحدّيات التقدّم في مجال الحكومة الإلكترونية، بحسب كلٍّ من عسراوي ويمّوت، عدم توكيل أيّ جهة بإدارة ملف التحوّل الرقمي بشكل يسمح لها بفرض التزام الإدارات الأخرى بالمقرّرات أو فرض التنسيق معها في مشاريع المكننة. فــ OMSAR يُكلّف بمشاريع ومهام محدّدة من خلال قرارات مجلس وزراء أو تعاميم، ولا يتمتّع بتكليف دائم وشامل في هذا الملفّ. وتصف كذلك يمّوت تجربتها كمنسقة للاستراتيجية الوطنية في مكتب رئاسة مجلس الوزراء بافتقادها إلى الصلاحيات الكافية، ما دفعها إلى الاتّكال على أسلوبها التوفيقي لجعل باقي الأفرقاء يتعاونون معها، وبناء الثقة بين المؤسّسات. وهو ما سمح بحسب رأيها، وعلى سبيل المثال، بإقرار مشروع السجلّ التجاري. ولكن تشير يمّوت إلى أنّه و”خلال 6 سنوات، لم تستطع تمرير معظم الأفكار والمشاريع التي طرحتها”. ولكن الأهم على هذا الصعيد إشارتها إلى محاولتها الطلب من الإدارات الالتزام بمرسوم صادر في التسعينيات اعتبر رئاسة مجلس الوزراء مركز المعلومات في الدولة اللبنانية. ولكن لم تستطع فرض ذلك على أحد “لأن كلّ وزير يريد وزارته أن تكون مملكته”. ويصطدم التحوّل الرقمي في الإدارة اللبنانية إذاً بإشكاليات دستورية وسياسية حول الجهة الصالحة بإدارة ملف الحكومة الإلكترونية وتمركز القرار لديها، بعد إناطة دستور الطائف السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء مجتمعاً.

ويتبدّى سريعاً ضعف التنسيق هذا عند اطّلاعنا على مختلف المؤسّسات التي تقوم بمبادرة فردية للمكننة أو بإطلاق مشاريع إلكترونية من دون التنسيق مع OMSAR، وآخرها تجربة “منصّة البلديات المشتركة للتقييم والتنسيق والمتابعة” التي أطلقها التفتيش المركزي في نيسان 2020 وعرّف عنها على أنّها أوّل منصّة حكومة إلكترونية في لبنان. وقد اعتمدت وزارة الداخلية والبلديات هذه المنصّة واستند عمل السلطات المحلية وعدد من الوزارات إليها، لتنسيق مواجهة تفشي جائحة كورونا وإدارتها.

مخاطر التحوّل الرقمي المجزّأ

ينتج عن ضعف التنسيق بين الإدارات، الذي فصّلناه أعلاه، عددٌ من المخاطر المهمّة، ومنها ضعف الرقابة، وهدر الوقت والموارد المالية، إلى جانب المخاطر الأمنية.

يلفت د. سلّوم النظر إلى أنّ المكننة لا تعني تلقائياً إغلاق باب الفساد أو زيادة إمكانيّة تتبّع العمليات الإدارية، بل يمكن أن تصعّب هذه الرقابة في بعض الأحيان. على سبيل المثال، يفتقر اليوم ديوان المحاسبة إلى القدرة على الرقابة على الحسابات من خلال البرامج (CAAT). وقد تمّ إعداد خطة لـ5 سنوات لتمكينه من ذلك. من جهة أخرى، يزيد اعتماد عدد من الإدارات طريقة الدفع نقداً للخدمات الإلكترونية من خلال طرف ثالث، كـ Liban post وOMT، من صعوبة تدقيق ديوان المحاسبة في حساباتها مقارنةً باستخدام بطاقات الائتمان التي يسهل تتبّعها في النظام المصرفي. ولتفادي مثل هذه الحالات، يجب أن يقوم ديوان المحاسبة بالرقابة المسبقة واللاحقة على مشاريع المكننة والخدمات الإلكترونية من خلال إعطاء الموافقة على استخدام البرامج المعلوماتية، والتدقيق فيها فيما بعد.

من جهة أخرى، تشدّد يمّوت على أهمية العمل على إطار الربط البيني بين المؤسسات (interoperability) قبل تنفيذ المكننة تفادياً للهدر في الوقت والموارد المالية، بعكس ما يحصل اليوم بسبب سوء التنسيق. فاليوم، وعلى حد قولها، لا توجد لائحة موحّدة لأبسط المعلومات الرسمية، كلائحة بأسماء الأقضية، أو عناوين المؤسّسات العامة على سبيل المثال. وإن اعتمدت كلّ مؤسّسة تسميتها وتصنيفاتها الخاصّة للمعلومات التي من المفترض مشاركتها مع الغير، سيكون هناك حاجة إلى ورشة عمل لتوحيد قواعد البيانات فيما بعد مما سيتسبّب بهدر في الوقت وفي الموارد المالية.

وأخيراً – وربما الأخطر –، ينتج عدم التنسيق هذا مخاطر كبيرة على الأمن السيبراني، وهذا ما تؤكّد عليه الاستراتيجية الوطنية بوضوح، إذ تعاني وفقاً لها العديد من المؤسّسات في القطاعين الخاص والعام من هجمات سيبرانية تستهدف مواقعها الإلكترونية بشكلٍ رئيسي وتضعها خارج الخدمة. وقد تكون الجهات المسؤولة عن هذه الهجمات داخلية أو خارجية، وقد تكون أفراداً أو دولاً.

ختاماً، يصطدم التحوّل الرقمي بالإشكاليّات العميقة عينها في الإدارة، إذ أنّ التقدّم في هذا الاتجاه يضع السلطات أمام خيارات جوهرية وليست تقنية بحتة، مرتبطة بالشفافية والمحاسبة وغيرها. وطبعاً المثال الأبرز على ذلك، هو اعتماد رقم تعريف للمواطن وفرض اعتماده من قبل المؤسّسات. فمن شأن ذلك أن يؤدّي تلقائياً إلى إحصاء عدد المواطنين على الأراضي اللبنانية، وهي عملية تطرح اشكالية سياسية عميقة في لبنان بالنظر إلى طبيعة النظام القائم فيه والتحوّلات الكبيرة التي يشهدها، بدليل أنّ آخر إحصاء قامت به الدولة اللبنانية يعود إلى عام 1932. في سياق موازٍ يعتبر د. سلّوم، أنّ المشكلة الأساسية متعلّقة بالرؤية المرتبطة بالقطاع العام ودوره وحجمه، وليست أبداً تقنية مرتبطة بالمكننة. فبحسب تعبيره، “حجم القطاع العام متضخّم جداً اليوم، وهو يضمّ حوالي 350000 موظفاً وعسكرياً، في حين كان يتألّف في عهد فؤاد شهاب من حوالي 40000 موظفاً وعسكرياً، من دون أن يزيد عدد السكان بالنسبة نفسها، فماذا حصل؟”. من هنا يتساءل: “هل تتناسب استراتيجية التحوّل الرقمي التي أعدّها OMSAR ذات المستوى العالي جداً والشبيهة باستراتيجيات أكثر الدول المتقدمة كبريطانيا، مع واقع الإدارة اللبنانية؟”.

  1. سبق لـ”المفكرة” أن علّقت عليه خصوصاً أنّه ولد متأخّراً فكانت التكنولوجيا تطوّرت والمخاطر المرتبطة بها تغيّرت فأصبح من الضروري إصدار تشريعات جديدة.
انشر المقال

متوفر من خلال:

اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة ، البرلمان ، مؤسسات عامة ، الحق في الوصول إلى المعلومات ، الحق في التعليم ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني