بتاريخ 17 آب 2017، ناقشت الهيئة العامة لمجلس النواب اقتراح القانون المتصل بمناهضة التعذيب، والذي كان استغرق سنوات قبل إقراره في لجنة الإدارة والعدل. وفيما كانت الحكومة اللبنانية جابهت الاتهامات الموجّهة إلى الإدارات اللبنانية بارتكاب أعمال تعذيب بأن التعذيب الحاصل فردي وغير منهجي بدليل أن الدولة هي في صدد إنجاز قانون جديد لمعاقبة التعذيب، فاجأ عدد من النواب الرأي العام بحدة اعتراضاتهم على اقرار قانون مماثل. وقد ذهب بعضهم إلى حد إعلان أن مكافحة التعذيب تمنع لبنان من مكافحة الإرهاب وأنها تعرض تاليا الأمن القومي للخطر. وقد ذهب البعض إلى القول بما معناه (من دون تعذيب، على الدنيا السلام) والبعض الآخر إلى التنظير لما أسموه "الكفّ (أو الصفعة) الأمني". وقد انتهت الجلسة من دون اتخاذ قرار نهائي بفعل فقدان النصاب، وينتظر أن يعاد وضع القانون على جدول أعمال الجلسة القادمة للهيئة العامة. بانتظار ذلك، تستعيد المفكرة في هذا المقال مجرى النقاشات الحاصلة خلال شهر نيسان أمام لجنة مناهضة التعذيب في نيسان 2017 في جنيف (المحرر).
تأخر لبنان في تنفيذ إلتزاماته التي تفرضها الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة"[1] لجهة تنظيم تقارير دورية لأكثر من 15 سنة. فقد تعين الانتظار حتى 2016 حتى يصدر لبنان تقريره الأولي. ولمناقشة هذا التقرير، مثل لبنان خلال شهر نيسان من عام 2017 الجاري أمام لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في جنيف، بحضور وفد لبناني ضمّ ممثلين عن وزارة العدل، ووزارة الدفاع، ووزارة الداخلية والبلديات، ووزارة الخارجية، والمدّعي العام التمييزي القاضي سمير حمود واللجنة البرلمانية لحقوق الإنسان. كما قدمت جمعيات مدنية تقاريرها الموازية في هذا الشأن. أبرز هذه تقارير ملُعد من قبل إئتلاف جمعيات مدنية[2] حول تطبيق إتفاقية التعذيب في لبنان. بالإضافة الى التقرير المنجز من قبل المركز اللبناني لحقوق الإنسان الذي جاء مدعماً بالأرقام والبيانات.
إلى ذلك، تطرّق التقرير الأولي إلى مقاربة التعذيب ومكافحة الإرهاب. فقد ادّعت الدولة اللبنانية أن المجلس العدلي أجرى تحقيقات معمّقة في جميع ادّعاءات التعذيب وسوء المعاملة والمقدمة من الذين تم اعتقالهم عام 2007 خلال مواجهات الجيش في نهر البارد. وقد عاودت الممثلة الدائمة للبنان لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف نجلاء رياشي عساكر، في سياق تقديمها للتقرير، التذكير أنه "على الرّغم من الظروف الصعبة التي يمرّ بها لبنان، من الأزمة السورية الناتج عنها تدفق اللاجئين، إلى تواجد الإرهابين على الحدود الشرقية وفي الداخل اللبناني وصولاً إلى التحديات الاقتصادية، ظلّ لبنان متمسكاً بالتزاماته بمكافحة التعذيب وسوء المعاملة".
وسنحاول هنا الإضاءة على أبرز المسائل التي أحاطت بهذا التقرير ومناقشته.
التعذيب بالأرقام
أٌخذ على التقرير الأولي عند نشره عام 2016 أنه لا ينطبق على الواقع بالإضافة إلى كونه مفرغاً من الحجج والدعائم الصلبة كالأرقام والإحصاءات أو أقله معلومات واضحة حول نتائج تحقيقات أجريت حول التعذيب. في هذا السياق، قدّم المركز اللبناني لحقوق الإنسان تقرير ظل أمام اللجنة، ينتقد فيه التقرير الرسمي مستنداً إلى إحصاءات وشهادات وثّقها عن حالات التعذيب منذ عام 1996.[3] كذا بيّن التقرير أن "منظومة ممارسة التعذيب لا تقتصر فقط على عناصر قوى الأمن الداخلي، الأمن العامّ، مخابرات الجيش، والتحري، بل تطال الجسم القضائي". في هذا الإطار لا بدّ من التذكير أنّ لبنان كان تجاهل، في تقرير أولي، ما وثقته هيومن رايتس ووتش من ممارسات تعذيب، [4] كما لم يولِ مساحة كافية للتعليق على نتائج التحقيق السري الذي قامت به الأمم المتحدة والذي أكد أنّ التعذيب هو ممارسة منهجية وأنها تطال الفئات المهمشة بشكل أساسي[5].
لبنان تحت المساءلة
تمحورت أسئلة أعضاء اللجنة الموجهة إلى لبنان حول التعديلات القانونية والخطوات الجدّية الواجب تحقيقها انطلاقاً من إقرار قانون تجريم التعذيب، مروراً بإنشاء هيئة وطنية لحقوق الانسان تكون بعيدة عن المحاصصات الطائفية. سلّط المجتمعون الضوء على صلاحيات المحكمة العسكرية، لاسيما أنّ "محاكمة المدنين[6] أمامها يشكل إنتهاكا للإلتزامات الدولية اللبنانية". شملت الأسئلة مصير ضحايا التعذيب إضافةً لسياسة إعادة التأهيل المعتمدة في لبنان، وتفعيل قانون نظام حماية الشهود. والحال أن السؤال الجوهري كان حول ما نفذه لبنان من توصيات اللجنة الـ 34 لعام 2014.[7].
فيما يخص اللاجئين، وجهت أسئلة حول قيام الأمن العام بترحيل لاجئيين[8] في ظل وجود قرار قضائي يمنع ذلك، وهو ما قد يشكل مخالفة للمادة الثالثة من اتفاقية مناهضة التعذيب. بالإضافة إلى إجراءات السلطات اللبنانية التعجيزية فيما يتعلق بالإقامة، والتي أدت إلى زيادة عدد اللاجئين السورين المقيمين بشكل غير شرعي.
كذا وجهت أسئلة حول مدة التوقيف الاحتياطي التي لا تحترم وحول وجود جهات أمنية غير رسمية لبنانية تلقي القبض على أشخاص وتضبط الممنوعات وتسلمها إلى الاجهزة الأمنية اللبنانية[9]. بالإضافة لصحّة المعلومات حول الاحتجاز السري الممارس من قبل الجهات الحكومية أو غير الحكومية .
تبرير التقصير
بالنسبة لإقرار قانون مناهضة التعذيب، فقد أشار الوفد إلى أن "لجنة الإدارة والعدل النيابية أقرت مشروع القانون المتعلق بالتعذيب، ومن المتوقع، أن يعتمد البرلمان مشروع القانون في وقت لاحق". من جهته، فضّل الوفد عدم الإجابة على الأسئلة المتعلّقة بالأعمال الأمنية الصادرة عن جهات غير حكومية كون "هذا الملف خارج صلاحياته". كما نفى صحّة مزاعم وجود أماكن إحتجاز سريّة، مشيراً إلى "عدم تلقي الدولة أي شكوى بشأن حالات إعتقال أو تعذيب على يد جهة غير حكومية". كما اعتبر أنّ "إمكانية زيارة أماكن الإحتجاز، تشكل دليلا على أن التعذيب ليس ممنهجاً؛ مؤكّداً عدم وجود مراكز تعذيب تحت رعاية وزارة الدفاع"[10].
وعن عمليات ترحيل اللاجئين، أكّد الوفد "احترام لبنان لحقوق اللاجئين وطالبي اللجوء على الرغم من عدم توقيعه اتفاقية اللاجئين لعام1951". مضيفاّ أنّ "القوانين اللبنانية تمنع ترحيل أي لاجئ، رغم إدانته بجرائم إذا شكل ترحيله خطراً على حياته أو إمكانية تعذيبه".
اللافت أن الوفد اعتبر أن عدم حل المحكمة العسكرية في لبنان مرتبط بوجود ظروف إستثنائية مستمرة منذ نشأتها (عام 1960)[11]، وأنه "سيتم حلها فور انتهاء هذه الظروف". كما وعد الوفد بـ "نقل كلّ قضايا القاصرين من أمام المحكمة العسكرية إلى محكمة قضاء الأحداث".
كذا أشار الوفد إلى الجهود التي يبذلها لبنان والتي من شأنها الحدّ من إكتظاظ السجون. فوفقاً لما جاء في تقريره أيضاً، يقوم القضاء بالتحقيق بجميع إدعاءات التعذيب. في هذا الإطار أكّد مدّعي العام التمييزي "ملاحقة أي عنصر من الضابطة العدلية لارتكاب أعمال تعذيب". كما أن الدولة، وفقاً للوفد، شجّعت على إستخدام التسجيلات الصوتية أو الفيديو بانتظام في مراكز الاحتجاز. كما "تقوم القوى الأمنية برصد جميع حالات الإحتجاز لضمان حماية السجناء من العنف الجنسي" بحسب تقريره. وأخيراً أكّد الوفد أنّ القانون حدد مهلة زمنية لفترة الحبس الانفرادي وهي تتراوح ما بين أربعة إلى 30 يوماً.
توصيات اللجنة
أصدرت لجنة مناهضة التعذيب بيانا ختاميا، تضمن العديد من التوصيات المتصلة بمناهضة التعذيب. من بين هذه التوصيات، توصيات ترددت مؤخرا في إثر قضية الموقوفين المتوفين تحت الاحتجاز لدى المؤسسة العسكرية ولم يتم الإلتزام بها من قبل الدولة اللبنانية[12]. فقد تطرقت التوصيات لمسألة "الوفيات أثناء الاحتجاز واستخدام الاعترافات المنتزعة بفعل التعذيب". واعتبرت اللجنة أنه "ينبغي للدولة أن تتخذ التدابير اللازمة لضمان قيام هيئة مستقلة بالتحقيقات اللازمة بسرعة وبنزاهة في حالات الوفيات أثناء الإحتجاز". كما ينبغي "تزويد جميع الأطراف المعنية بمعلومات مفصلة عن أسباب وحالات الوفاة". وجاءت هذه التوصيات بشكل خاص "في ظلّ المعلومات التي قدمتها الدولة بين عامي 2012 و2016 والتي تفيد بأنّ مجموع الوفيات التي حدثت في نظام السجون بلغ 81 حالة دون ذكر أي تحقيقات عن أسباب تلك الوفيات".
هذا وقد أعربت اللجنة عن قلقها "لعدم وجود حكم واضح في لبنان حول حظر التعذيب بشكل مطلق، إذ ينبغي على الدولة أن تضمن مبدأ الحظر المطلق للتعذيب من خلال دمجه في التشريعات". الأهم لهذه الناحية هو عدم تضمين هذه التشريعات أي "إستثناءات من شأنها إعادة العمل بالتعذيب كحالة الحرب أو أعمال الإرهابية أو الجرائم العنيفة، فضلاً عن الصراعات المسلحة الدولية أو غير الدولية، أو أي حالة طوارئ أخرى".
إلى ذلك طالبت اللجنة لبنان بإتخاذ تدابير فعالة لمنع إساءة معاملة الموقوفين "خاصةً الموقوفين من الفئات المهمشة". إضافةً إلى ضمان "التحقيق في جميع حالات الإعتداء". على أن يتم "إجراء تحقيقات في جميع الشكاوى تزامناً مع تعليق عمل المشتبه بإرتكابهم هذه الممارسات". وذلك بهدف "معاقبة كل مرتكبي التعذيب". كما طالبت اللجنة لبنان "إلغاء صلاحية المحاكم العسكرية للنظر في قضايا المدنيين، ولا سيما الأطفال دون مزيد من التأخير".
فيما يتعلق بمسألة الإعادة القسريّة، ذكرت اللجنة بأن المادة 3 من الاتفاقية توفر الحماية المطلقة لأي شخص يخضع لولاية الدولة. ويقتضي بالتالي عدم طرد أي شخص أو إعادته في حال وجود أسباب حقيقية تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيخضع للتعذيب. ويجب اعتماد قانون شامل للجوء يتفق مع المعايير الدولية. بالتالي من المهم تأمين ضمانات إجرائية ضد الإعادة القسرية مثل قيام هيئة قضائية مستقلة بمراجعة طلبات تعليق الترحيل.
أخيراً طلبت اللجنة من لبنان الامتناع عن احتجاز اللاجئين وملتمسي اللجوء والمهاجرين غير النظاميين لفترات طويلة، مقترحةً استخدام الاحتجاز كتدبير أخير فقط ولأقصر فترة ممكنة وتعزيز بدائل الاحتجاز.
في إجراءات المتابعة، تطلب اللجنة من لبنان أن يقدم، بحلول 12 أيار 2018، معلومات عن متابعة توصيات اللجنة، تمهيداً لتقريرها الدوري الثاني، بحلول 12 أيار2021.
[1] – صادق لبنان على الإتفاقية في نفس السنة التي إنضم فيها اليها وذلك بموجب القانون رقم 185 بتاريخ 5 تشرين الأول 2000.
[2] – الجمعيات المشاركة: عدل ورحمة، الكرامة، مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب، جمعية ألف-تحرك من أجل حقوق الإنسان، مركز ريستارت لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، جمعية إنسان دفاعأً عن حقوق الإنسان، براود ليبانون.
[3] – . تشير إحصاءات هذه الدراسة على سبيل المثال إلى أن "60% من الأشخاص الذين اعتقلوا لأكثر من سنة (بين 2009 و2015) تعرّضوا لضروب خطيرة من التعذيب وسوء المعاملة خلال اعتقالهم".
[4] كريم نمور: "أساليب التعذيب ضد الفئات المستضعفة في تقرير هيومن رايتس ووتش: الهشاشة كمدخل للتعذيب، أي توصيات للحد من هذه الهشاشة؟ "، المفكرة القانونية ، 5/8/2013.
[5] سارة ونسا : مدى تعاون الدولة اللبنانية مع اللجنة، و للجهات المتهمة بالتعذيب و لأنواع التعذيب وللفئات الأكثر تعرضا له ، المفكرة القانونية.
[6] – لم تقتصر الإحالة على المدنين بل شملت أطفالاً.
[7] – سارة ونسا: "34 توصية موجهة إلى الدولة اللبنانية بشأن التعذيب"، المفكرة القانونية، 4/11/2014
– [8] يقصد بها اللاجئين السوريين والعراقيين والسودانيين واللاجئين الفلسطينيين من سوريا.
[9] – وثقت هذه الممارسات بموجب قرار قضائي صادر عن محكمة الجنايات في جبل لبنان برئاسة القاضي جوزيف غمرون وعضوية المستشارين خالد حمود وناهدة خداج لجهة محاكمة عميد متقاعد بجرم التسبب بوفاة أحد الأشخاص في مكتب التحقيقات في دائرة مكافحة المخدرات نتيجة الضرب والتعذيب الممارس عليه.
[10]لم يذكر التقرير الجهة التي قامت بالزيارة الاخيرة إلى أماكن الإحتجاز في وزارة الدفاع لكنه أشار إلى تاريخها في 8 نيسان2017، حيث.
[11] –ميريام مهنا "بمَ ينتهك القضاء العسكري شروط المحاكمة العادلة في لبنان؟" ، المفكرة القانونية ، 9/6/2015. أنشأت المحكمة العسكرية بموجب القانون العسكري لعام 1960 وشملت ولايتها القضائية التجسس والخيانة والاتجار بالأسلحة للأفراد العسكريين والمدنيين على السواء. ومن إختصاصها أيضاً النظر بأعمال الإرهاب.
[12] – يمكن مراجعة المفكرة القانونية : " قضية الموقوفين المتوفين خلف أبواب العسكرية، أي مصادقية بعد إسكات محامية الدفاع"،25/7/2017.