سوريّات أمام مقرّ الأمم المتحدة في جنيف. المصدر: الموقع الإلكتروني لرابطة "عائلات من أجل الحرية"
أطلقت مجموعة من خمس روابط سوريّة، تمثّل جميعها الضحايا والناجين/ات وأفراد أسر ضحايا الإخفاء القسري والاعتقال التعسّفي وجميع الانتهاكات المرتبطة بالإخفاء القسري والاعتقال التعسّفي والإعدام خارج نطاق القانون والتعذيب والانتهاكات الجنسيّة في سوريا، “ميثاق الحقيقة والعدالة” الذي يُعتبر بمثابة نداء الاستغاثة الجماعي الأوّل من أجل إنصاف هؤلاء الضحايا.
ويدعو الميثاق إلى أن يكون الضحايا وأسرهم في مركز مسار العدالة والحقيقة والمحاسبة من أجل الدفاع عن حقوقهم وإرساء الأسس لدولة سورية تحترم حقوق وكرامة مواطنيها. ويطالب بالإفراج الفوري عن جميع المعتقلين والمعتقلات وكشف مصائر المخفيين والمخفيّات قسراً قبل أي حديث عن مستقبل لسوريا أو عملية تفاوضية. ويشدد على التعامل معهم كمدنيين بحكم التوصيف القانوني وتطبيق موجبات الحماية المنصوص عليها في المبادئ والأعراف القانونية كافة وليس كمشاركين/ات في الأعمال العدائية.
تتضامن “المفكرة القانونية” مع ذوي المفقودين في سوريا، وتعدّ تلبية مطالبهم استحقاقاً هاماً في سياق بناء سوريا ديمقراطية وعادلة لجميع أبنائها (المحرّر).
98 ألف مغيّب ومغيّبة حتى آب 2019
لطالما شكّل الاعتقال التعسّفي والإخفاء القسري سِمَتين من أبرز سمات الحكم في سوريا، منذ ستينيّات القرن الماضي مروراً بفترة نهاية السبعينيّات ومطلع الثمانينيّات خلال المواجهة العنيفة بين النظام والإخوان المسلمين. واعتُقل في تلك المواجهة عشرات الآلاف، أُفرج عن بعضهم خلال فتراتٍ قصيرة نسبيّاً، فيما اختفى نحو 17 ألف شخص يُعتقد أن معظمهم قُتل تحت التعذيب أو في إعداماتٍ ميدانيّة. ومع الانتهاء السّريع لما يعرف بـ”ربيع دمشق” مع مجيء بشار الأسد إلى الحكم، عادت الاعتقالات السياسية وشملت شخصيات معروفة.
ومع اندلاع الاحتجاجات الشعبيّة في آذار 2011، استخدم النظام السّوري الإخفاء القسري والاعتقالات التعسّفيّة – ولا يزال – على أوسع نطاق كإحدى أدواته القمعيّة المفضّلة لمنع انتشار الاحتجاجات وتوسّعها. وشهدت الفترة الممتدّة بين عامَي 2011 و2013 أعلى مستويات الاعتقال والاختطاف ثم الإخفاء القسري، قبل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في نيسان 2013، الذي أدّى – إلى جانب النظام – دوراً فاعلاً ومؤثّراً في سياسة الاعتقالات والإخفاءات القسريّة والاعدامات الميدانيّة في سوريا.
بحسب إحصائياتٍ أجرتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بلغ عدد المُغيّبين قسراً الذين تمّ توثيقهم منذ اندلاع الثورة وحتى شهر آب 2019 98 ألفاً و279 مغيّبة ومغيّباً، منهم عشرة آلاف و594 غُيّبوا على يد التنظيمات الإسلامية المتطرفة (داعش وهيئة تحرير الشام بأسمائها المتلاحقة)، و2234 غُيّبوا على يد فصائل المعارضة المسلّحة. أما الباقون، وعددهم 85 ألفاً و451، فقد تمّ تغييبهم على يد النظام السوري. وقد أشارت الشبكة إلى أنّه، في عام 2013 وحده (والذي سُمّي بـِ”عام الخطف”)، تمّ توثيق 19 ألفاً و656 مُغيّبة ومُغيّباً، منهم 527 على يد داعش والنصرة، و312 على يد فصائل المعارضة المسلّحة.
تراجع المعارك في سوريا، أو توقّفها، لم يؤدّ إلى تراجع عمليّات الاعتقال التعسّفي والإخفاء القسري، لا بل على العكس من ذلك. ففي العام 2017، حين تراجعت حدّة المعارك، تزايدت عمليّات الاعتقال في المناطق التي يسيطر عليها النظام، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” التي نشرت تحقيقاً في العام 2018 أشارت فيه إلى أنّ ما يزيد على 128 ألف شخص دخلوا إلى المعتقلات، ولم يخرجوا منها بعد؛ من دون معرفة ما إذا كانوا في عداد القتلى، أو ما زالوا في حالة الأسر.
مئات آلاف المخفيّين قسراً والمحتجزين بشكلٍ تعسّفي لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اللحظة، وهذا يعني مئات آلاف العائلات التي تعيش في دوّامة من القلق والشكّ والترقّب. فالاعتقال التعسّفي والإخفاء القسري جريمتان لا يقتصر أثرهما على من وقع عليه الانتهاك فقط، بل يمتدّ إلى عائلته ومحبّيه، وتتخّذان شكل العقاب الجماعي لشريحةٍ واسعة، بمجرّد اعتقال شخصٍ واحد. وتعيش أُسَر المعتقلين تعسّفاً والمختفين قسراً معاناة إضافيّة، تتمثّل في وضعها تحت الرقابة الأمنية بشكلٍ دائم، بحيث لا تحصل على الموافقات الأمنية ويتمّ استدعاء أفرادها بشكلٍ دوري إلى الفروع الأمنية من أجل التحقيق معهم، كما تنفق مدّخراتها لمعرفة مكان احتجاز أبنائها وما إذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة أو قتلوا. وإن علمت بمقتلهم، فليس أكيداً أنّها ستتمكّن من استلام جثثهم. فعدد كبير من العائلات السورية تمّ تبليغها بخبر مقتل ابنها/ابنتها أو أحد أفرادها رسمياً من دون أن تستلم جثته.
ميثاق الحقيقة والعدالة: للإفراج الفوري عن المعتقلين والكشف عن مصير المخفيّين
إذاً نظراً إلى فداحة هذه المعاناة واتّساع نطاق هذه الممارسة وارتفاع عدد ضحاياها ولأنّ إنصاف ضحايا الإخفاء القسري يعدّ في صلب العدالة الانتقالية في أي بلد شهد أعمالاً عدائية، أطلقت خمس روابط سورية، هي مبادرة “تعافي”، و”عائلات من أجل الحريّة”، و”تحالف أُسَر المختطفين لدى داعش”، ورابطة “عائلات قيصر”، بالإضافة إلى رابطة “معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، ميثاق الحقيقة والعدالة في العاشر من شباط الجاري خلال مؤتمرٍ صحافي عُقد عبر تطبيق “زوم” وهو يختصر جزءاً من قصّتهم وجزءاً أساسياً من القضيّة السّورية ويُعتبر خارطة طريق لكلّ من يريد أن يعرف ماذا يريد ضحايا الاعتقال التعسّفي والإخفاء القسري في سوريا والناجين/ات، ويشكّل منبراً لصوت عائلاتهم: الأم والأب، والأخ والأخت، والزوجة والزوج، والابن والابنة.
تعود مريم حلّاق، خلال مداخلتها في مؤتمر إطلاق الميثاق، بذاكرتها إلى لقائها قبل عامين ومجموعة ضحايا سوريّين وناجين/ات من الاعتقال مع مبعوث الأمم المتّحدة غير بيدرسون في بروكسيل حين كان يستمع إلى قصصهم، فوضع يده على صدره متعهّداً بأن يكون ملفّ المعتقلين والمعتقلات أوّل اهتماماته. مرّت سنتان من دون أن يحدث أيّ تطوّر فعلي في الملفّ. ولهذا، تقول مريم إنّ “المجتمع الدولي خذل السّوريّين، مواطنين ومواطنات وضحايا وناجين وناجيات، وما زالت عشرات الآلاف من الشباب مغيّبة ومخفيّة قسراً في سجونٍ عفنة تحت الأرض وفوقها”. ومن هنا كان لا بدّ من توحيد جهود أهالي الضحايا والناجين حول ميثاقٍيشكّل مبادرة مستقلّة، تعبّر عن أصواتهم وأصوات أُسَرهم الذين ينتظرون منذ سنوات أيّ إشارة حياة أو موت كي يتمكّنوا من متابعة حياتهم بقليلٍ من السلام.
يفرّق الميثاق بين عدالة قصيرة الأمد وعدالة طويلة الأمد. فعلى المدى القصير، هناك إجراءات فورية لا بدّ من اتخاذها لوقف الانتهاكات المستمرّة والتخفيف من معاناة الناجين\ات والضحايا وعائلاتهم، وهي أوّلاً الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين والمعتقلات وكشف مصير المخفيين/ات والمغيبين/ات قسراً، والوقف الفوري للتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والجرائم الجنسية في المعتقلات والسجون وتسليم رفات المتوفين.
ويُشترط لبدء أي عملية سلام حلّ ملفّ المخفيّين قسراً حيث يؤكّد أنّ “مسيرة السلام وإعادة الإعمار في سوريا ومن أجل السوريين تبدأ بمعرفة الحقيقة وتحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات الجسيمة. فلا يمكن أن تنجح محادثات السلام وسبل التفاوض في ظل حرمان عائلات الضحايا من معرفة مصير المعتقلين والمفقودين منهم وفي ظل غياب إجراءات بناء الثقة الّتي نص عليها قرار 2254 ومن دون التطرّق إلى قضية الاعتقال والإخفاء القسري باعتبارها مسائل ذات أولوية قصوى”.
أما على المدى المتوسّط إلى البعيد، فهناك مطالب إضافية لضمان العدالة الشاملة ومنع تكرار الجرائم التي عانوا وما زالوا يعانون منها، أوّلها تشكيل آلية محاسبة عادلة بضمانات دولية من دون أي حصانات للجناة، وأن تتحمّل جميع الدول مسؤولياتها القانونيّة والإنسانيّة في إحالة ملف سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية.
يُشير الميثاق إلى أنّ النظام السوري يواصل منذ العام 2011 ممارسة الاعتقال التعسّفي والإخفاء القسري والتعذيب لإسكات المعارضين على نطاقٍ واسع ومن دون محاسبة أيّ من الجناة وينكر حقوق الضحايا وعائلاتهم. ويؤكّد على أنّ “غالبية الفصائل المسلّحة والتنظيمات الراديكالية وسلطات الأمر الواقع، وبالأخص الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، تُضاف إلى لائحة المنتهكين؛ فتُقدم على تكرار كافة الممارسات الشنيعة، منها الإخفاء في المناطق التي سبق أن كانت تحت سيطرتها”.
ثمّة خصوصية لملفّ المختطفين على يد تنظيم “داعش” أشار إليها خليل الحاج صالح (ممثل “تحالف الأُسَر”) خلال إطلاق الميثاق، حين ذكر أنّ “انهيار داعش وفقدانها السيطرة على الأرض في سوريا كان نقطة البداية في بحث أُسَر المختطفين عن مسارٍ للتوصّل إلى حقيقة ما جرى لأحبّتهم، والعمل على محاسبة المجرمين”. وأشار الحاج صالح إلى أنّ ملف المختفين على يد تنظيم “داعش” يفترض مقاربة مختلفة عمّا جرى حتى اليوم، “إذ يجب وقف نبش المقابر الجماعيّة التي خلّفها التنظيم في مناطق سيطرته السابقة، كما يجب التحقيق مع عناصر داعش المحتجزين والأجانب الذي عادوا إلى بلدانهم بعد انهيار التنظيم”.
لا شكّ أنّ أهميّة “ميثاق الحقيقة والعدالة” هي في كونه أُسِّس من خلال مجموعات من ضحايا وناجين/ات وأفراد أُسَر ضحايا الإخفاء القسري والاعتقال التعسّفي، لذلك تأتي المطالب لتكون أكثر من محقّة. لكن في الوقت نفسه، فإنّ تحقيق هذه المطالب يبدو شديد الصعوبة في ظلّ نظامٍ سوري لم يقدّم ولو خطوة إيجابية واحدة في ملفّ المعتقلين/ات والمخفيّات/ين قسراً. ويعبّرّ أحمد حلمي، مدير “مباردة تعافي”، في حديثٍ لـِ”المفكّرة القانونيّة” عن العوائق أمام هذا الهدف. “هي رؤية للمستقبل. قد تتحقّق في 30 عاماً، وقد لا تتحقّق أبداً، لكن هدفنا كان وضع مطالب الضحايا وأصحاب القضية ورؤيتهم للعدالة بشكلٍ كامل في مكانٍ واحد، يمكن – لمن يريد السعي بشكلٍ حقيقي إلى عدالة مرتكزة على الضحايا – الانطلاق منه”.
يشدّد حلمي على أنّ الروابط تعمّدت تقسيم المطالب في الميثاق إلى قصيرة وطويلة الأمد، لأنهم “واقعيّون ويؤمنون أنّه لا توجد عصا سحريّة من شأنها أن تأتي بالعدالة إلى سوريا، لكن حجرة ورا حجرة ورا حجرة ممكن نبني”. ويؤكد أنّ “المطلب الأوّل والأساسي هو الكشف عن مصير المخفيّين قسراً من خلال منهجيّة إنسانيّة لا تحدّد من هي الجهة المنتهكة. هذا ليس تخليّاً عن حقّنا في المحاسبة، لكنّنا واقعيّون. الواقع قد لا يكون كما نحلم، أو ربما سيصبح أفضل ممّا نحلم، لكن واجبنا وضع رؤية كاملة وصحيحة تُرضي الضحايا وأهلهم”.
لا يعوّل حلمي على النظام السّوري في أيّ خطوة بملفّ المعتقلين والمخفيّين قسراً، “الاعتقال والخطف والإخفاء القسري والتعذيب، كلّها أساليب يرتكز عليها هذا النظام من أجل فرض سيطرته وسلطته. لكننا نعوّل على المجتمع الدولي من خلال محاولاتنا الضغط باتجاه شكل العدالة التي يجب أن تأخذ مجراها في سوريا، في حال جاءت هذه اللحظة”.
عرض ممثّلون وممثلات عن الروابط الخمس، شاركوا في إطلاق “ميثاق الحقيقة والعدالة”، خلال المؤتمر بعضاً من تجاربهم الخاصّة. وفيما يلي معاناة هؤلاء مع الاعتقال والإخفاء القسري، معاناة تحوّلت إلى قصصٍ يروونها مراراً وتكراراً ولا ييأسون.
“اعتُقلتُ في زمن الأسد الأب، ثم اعتُقل زوجي وابني في زمن الأسد الابن. يا خوفي، إذا استمرّ هذا النظام في سوريا، أن يعتقلوا أحفادي”، تقول فدوى محمود، وهي مناضلة ومعارضة سورية، أثناء إطلاق الميثاق. أسَّست فدوى (أو ماما فدوى، كما يحلو للجميع مناداتها) مع أربع سيّدات سوريّات حركة “عائلات من أجل الحريّة” في منتصف شهر أيار 2017، على هامش انعقاد إحدى جولات المفاوضات بين النظام السّوري والمعارضة في مقرّ الأمم المتّحدة في جنيف، للمطالبة بإطلاق سراح جميع المعتقلين والمعتقلات في سوريا.
فدوى (وهي من مواليد العام 1954 في اللاذقية) رَوَتْ في حديثٍ لـِ”تلفزيون سوريا” كيف اعتُقلت العام 1992 حين حضر نحو 60 عنصراً أمنياً وطوّقوا منزلها، بحثاً عن زوجها المعارض عبد العزيز الخيّر وقياديّين في حزب العمل الشيوعي، كانوا للمفارقة محتجزين في السجون السّورية في وقتٍ سابق من العام نفسه. في تلك الليلة حضر أخوها الذي كان يرأس حينذاك فرع التحقيق في الأمن السياسي إلى منزلها، وطلب منها ارتداء بنطلون بدل التنّورة، ففهمت أنه سيتمّ اعتقالها. لاحقاً، علمت فدوى أنّ تُهمتها كانت بثّ إشاعات كاذبة وإيواء خليّة مطلوبين للنظام.
تقول فدوى في حديثها المتلفز: “حين تمّ اعتقالي، قلتُ: معليش، إذا كان هذا هو الثمن مقابل ألّا يعيش أولادنا ما عشناه نحن. لكن أولادنا عاشوا أسوأ ممّا عشناه، وهم معتقلون اليوم”.
لا تعرف فدوى اليوم مكان زوجها وابنها ماهر اللذين اعتُقلا سويّاً في أيلول من العام 2012، حين ذهب ماهر لإحضار والده عبد العزيز الخيّر من المطار. والخيّر هو رئيس مكتب الشؤون الخارجية لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، كان أُلقي القبض عليه برفقة ابنه عند نقطة تفتيش في مطار دمشق، عائداً من رحلة عمل إلى الصين.
“صرلي تسع سنين ما ضمّيته وقلتلّه كلّ سنة وإنتَ بخير”، تقول فدوى خلال مؤتمر إطلاق “ميثاق الحقيقة والعدالة”، وتضيف “اليوم يتمّ ماهر عامه الأربعين”.
دياب سرّية: الناجي من “المسلخ البشري”
اعتُقل دياب سريّة في العام 2006 بسبب نشاطه السياسي الذي تبلور في 2005، عندما أسَّس – مع مجموعة من الشباب الجامعي – تجمّعاً سياسياً ديمقراطياً أطلقوا عليه إسم “شمس” (شباب من أجل سوريا)، كان هدفه إرساء الديمقراطية في البلاد ورفع القبضة الأمنية عن المجتمع وإطلاق الحريّات العامّة.
قضى دياب خمس سنوات (من العام 2006 وحتى قبيل اندلاع الثورة السّورية في 2011) في سجن صيدنايا أو “المسلخ البشري حيث تذبح فيه الدولة السّورية شعبها بهدوء”، بحسب التوصيف الذي أطلقته منظّمة العفو الدولية عندما وثّقت في تقريرٍ نشرته في شباط 2017 إعدامات جماعية بطرق مختلفة نفّذها النظام السّوري بحقّ 13 ألف معتقل في السجن، بين عامَي 2011 و2015، أغلبيتهم من المدنيّين المعارضين.
شارك دياب في تأسيس “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” وهو منسّقها الحالي، وكانت خصّصت تقريرها الأوّل الصادر مطلع العام الجاري تحت عنوان “كانوا هناك ولم يعودوا” لظاهرة الاختفاء القسري. يقول التقرير إنّ النظام في سوريا “يستخدم عمليات الإخفاء القسري والاعتقال كوسيلة لجني ومراكمة الثروات وزيادة نفوذ الأجهزة الأمنية وقادتها وبعض القضاة والمحامين”. وبحسب التقرير، فقد جنى النظام من عمليات الابتزاز المالي التي مارسها على الأهالي، مقابل تزويدهم بمعلومات عن أبنائهم وأحبّتهم أو مقابل وعود بزيارتهم في أماكن الاعتقال، ما يُقارب 870 مليون دولار أميركي منذ العام 2011 وحتى الآن. ويُشير دياب إلى أن “هذا التقرير هو الأوّل من نوعه من حيث الفصل بين قضيّة الاختفاء القسري والاعتقال، ولو أنّ الفصل بينهما صعبٌ جداً كون كلّ معتقل في سوريا هو مشروع مختفي قسراً”.
لا يكلّ دياب في جميع إطلالاته الإعلامية وكتاباته من الحديث عن التعذيب الممنهج الذي تعرّض له داخل السجن هو وجميع معتقلي سجن صيدنايا، منذ اليوم الأول لدخولهم. ويؤكّد أن التعذيب يحدث لأتفه الأسباب “ممكن شكلك اليوم ما عجبه للعسكري، فمستعدّ يضربك ضرب مبرح”، كما يتحدّث عن الحرمان من الأكل والنوم وأيّ معرفة عن العالم الخارجي. وكان سريّة نشر سلسلة مقالات تحت عنوان “منسيّون في الجحيم”، وثّق من خلالها سيرة عدد كبير من المعتقلين وظروف اعتقالهم وتفاصيل ما مرّوا به، بعدما تعرّف إليهم عن كثب وعايشهم في السنوات الخمسة التي قضاها في السجن.
يعيش دياب اليوم في هولندا ويسعى من خلال “رابطة معتقلي صيدنايا”، إلى كشف الحقيقة وتحقيق العدالة للمعتقلين على خلفيّة رأيهم أو نشاطهم السياسي، بالإضافة إلى كشف مصير المختفين قسراً في سوريا بشكلٍ عام وسجن صيدنايا بشكلٍ خاص.
مريم حلّاق التي “حالفها الحظ” بأن تعرف أنّ ابنها قُتِل تحت التعذيب
عملت مريم حلّاق كمدرّسة لسنوات ثم مديرة مدرسة لـِ 25 سنة، وهي والدة أيهم غزّول، ناشط ومدافع عن حقوق الإنسان اعتقله النظام السّوري للمرّة الأولى بداية العام 2011، خلال عمله في المركز السّوري للإعلام وحريّة التعبير، وأُفرج عنه بعد تسعين يوماً. في أواخر العام 2012، اعتُقل أيهم مرّة ثانية. وبعد ثلاثة أشهر من البحث المضني وزياراتها المتكرّرة لفروع الأمن والسؤال عن مصير ابنها، والبحث في قوائم الأسماء التي تعلَّق عادةً على جدار قصر العدل، تلقّت مريم في كانون الثاني 2013 خبر مقتله تحت التعذيب وهو في الخامسة والعشرين من عمره، بعد تسريب مصوّر منشق 6500 صورة لرجال ونساء قُتلوا تحت التعذيب، تعرَّف أحد أصدقاء أيهم (يعمل في توثيق الانتهاكات) إلى جثّته وعلى جبينه ملصق كتب عليه “جثة 320″، وأخبر شقيقة مريم.
المفارقة أنّ مريم تُعتبر “محظوظة” لأنّها عرفت عن طريق الصدفة بموت ابنها تحت التعذيب. فآلاف السّوريّين لا يعرفون شيئاً عن أفرادٍ من عائلاتهم أو أقاربهم الذين اختفوا، لا خبر ولا معلومة عن مصائرهم.
اعتُقل أيهم برفقة ستّة طلاب من السكن الجامعي في دمشق. وبحسب مريم، فقد تمّ تعذيبه في غرفة إدارية في كليّة الطبّ البشري على يد أعضاء اتّحاد طلبة سوريا، الكلية التي تحوّلت إلى مركزٍ أمني لاعتقال الطلّاب بدل حمايتهم. ظلّت مريم تزور القضاء العسكري، طيلة سنة وخمسة أشهر بعد موت أيهم، قبل أن تتمكّن من الاستحصال على شهادة وفاةٍ له، ذُكر فيها أنه توفّي “في أحد الفروع الأمنيّة بجثة رقم 320” من دون أن تستلم الجثّة أبداً، علماً أنّها حين ذهبت للمطالبة باسترداد الجثة قالوا لها أن تعود أدراجها وإلّا “منلحّقك فيه”.
تعيش مريم اليوم في برلين، وقد شكّلت في العام 2018 مع سبع عائلات لضحايا سوريّين قُتلوا تحت التعذيب، “رابطة عائلات قيصر” نسبةً إلى لقب المصوّر الذي سرّب صور قتلى التعذيب وعثرت بينها مريم على صورة جثة ابنها أيهم. وقد جمعت تلك الصور، التي عُرضت في جميع وسائل الإعلام العربية والدولية واحتوت على لقطات تعذيب، عائلات الضحايا معاً في رابطة انطلقت من برلين من أجل المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن مقتل أبنائها. وتقول مريم في هذا الإطار “يجب أن تتمّ محاسبة كلّ الأطراف التي لوّثت يديها بدماء السّوريّين والسّوريّات”.
خليل الحاج صالح: اختُطف شقيقه وزوجة شقيقه
في تمّوز 2013، وخلال عودتهما إلى المنزل في مدينة الرقّة، اعترضت إحدى السيّارات طريق فراس الحاج صالح وصديقه، وأجبرت الرجلين على التوقّف، فخرج منها أربعة مسلّحين اعتقلوا فراس تاركين صديقه مصطفى الذي قال لعائلة الحاج صالح إنه لَحِق بالسيّارة التي اختطفت صديقه، وشاهدها تركن في مبنى المحافظة، وهو مقرّ لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). بعد ساعتين، حين خرجت غدير نوفل زوجة فراس ونحو 70 آخرين في تظاهرة باتجاه مقرّ “داعش”، أنكر العناصر هناك وجود زوجها لديهم وادّعوا أنهم لا يعرفون مكانه.
في حديثٍ لـِ”هيومن رايتس ووتش” في شباط 2020، قال خليل الحاج صالح (وهو شقيق فراس) إن “عناصر داعش كانوا هدّدوا أخاه قبل أسبوعٍ من اختطافه، طالبين منه مغادرة الرقّة وإلا قتلوه”.
مرّت نحو ثماني سنوات على اختطاف فراس، من دون أن تتوفّر لدى عائلته أيّ معلومات عن مكان وجوده وفيما إذا كان لا يزال على قيد الحياة. وفراس، سبق أن اعتقلته قوّات الأمن السّورية مرّتين، بسبب مشاركته في الثورة منذ انطلاقها وعمله في مجال الإغاثة والإعلام. لاحقاً، بعد خروجه من الاعتقال وإبّان نهوض داعش في العام 2013، ساعد فراس في قيادة المعارضة ضدّ التنظيم في مدينة الرقّة. ويعتقد شقيقه، خليل الحاج صالح، إنّ ذلك كان سبباً مباشراً لاختطافه لاحقاً. بعد خمسة أشهر من خطف فراس، وتحديداً في كانون الأول 2013، تعرَّضت سميرة الخليل زوجة أخيه الكاتب السّوري المعارض ياسين الحاج صالح (الذي سبق أن اعتقله النظام طيلة 16 عاماً بسبب نشاطه الجامعي الحزبي مع الحزب الشيوعي سنة 1980)، للاختطاف على يد مسلّحين – تشير معلومات إلى انتمائهم لـِ”جيش الإسلام” – اقتحموا مقرّ مركز توثيق الانتهاكات في دوما (الغوطة الشرقية)، وانقطعت أخبارها هي أيضاً منذ ذلك الحين. وسميرة أيضاً كانت اعتُقلت لمدّة أربع سنوات (1987 – 1991) بسبب انتسابها إلى حزب العمل الشيوعي ومعارضتها لنظام آل الأسد.
تمّ خطف سميرة مع رفاقها رزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي خلال عملهم في مركز توثيق الانتهاكات في دوما، حيث كانت سميرة تعيش كلاجئة مؤقّتة بانتظار الفرصة المناسبة التي تتيح لها الانضمام إلى زوجها في الرقّة أولاً ثم اسطنبول لاحقاً. (يمكن قراءة “قصّة سميرة”، بلسان زوجها ياسين الحاج صالح،هنا).
في العام 2019، شارك خليل الحاج صالح (الذي اختُطف شقيقه فراس وزوجة شقيقه ياسين) في تشكيل “تحالف أُسَر المختطفين لدى داعش”، مع مجموعة من عائلات المختطفين والمختطفات قسراً من قبَل تنظيم “الدولة الإسلامية” في العاصمة الفرنسيّة باريس.
أحمد حلمي الذي لم تيأس أمّه من الاتصال بهاتفه يومياً أثناء اعتقاله
ثلاث سنوات هي المدّة التي قضاها أحمد حلمي في السّجون السّورية، بتُهَم تشكيل منظّمة إرهابيّة وتمويل الإرهاب والتواصل مع المعارضة الخارجية، تنقّل خلالها بين تسعة سجون: مدنيّة، وعسكرية، وفروع أمنية.
حلمي من الأعضاء المؤسّسين لـِ”تنسيقيّة داريّا” التي كانت تنظّم تظاهرات سلميّة في المدينة، وكان قد أصيب بطلقٍ ناري في وجهه خلال إحداها وخضع لخمس عمليات جراحية. كما عمل مع مجموعة أطبّاء على إنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط طبيّة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، من أجل مساعدة المواطنين والمواطنات التي لم تكن تتمكّن من الوصول إلى المستشفيات الرسمية.
وقد وضعه عمله في “تنسيقيّة داريّا”، على قائمة المطلوبين لدى المخابرات الجويّة. في أواخر العام 2012، اعتُقل بسبب حيازته هاتف “ثريّا” أثناء دخوله إلى جامعة الهندسة المدنيّة في دمشق، قبل أن يصل إلى الفرع الأمني حيث تبيّن للضبّاط أنّه مطلوب، لتبدأ رحلة التحقيق والتعذيب، كما يصفها أحمد في حديثه إلى “المفكّرة القانونيّة”.
بقي أحمد 6 أشهر مخفياً قسراً، من دون أن تعرف عائلته أيّ معلومة عن مكان تواجده. وبعد خروجه من السجن في العام 2015، أسَّس مع مجموعة أشخاص ما يُسمّى اليوم “مبادرة تعافي” لمساندة الناجين والناجيات من الاعتقال وضحايا التعذيب في منظّمة “كشّ ملك”. وخلال حديثٍ جانبي أقيم على هامش “مؤتمر بروكسل” الرابع حول سوريا والمنطقة في العام 2019، روى أحمد كيف ناداه العسكري “السجّان” إلى التحقيق بعد مضيّ 52 يوماً على اعتقاله، وأزال العصبة عن عينيه للمرّة الأولى منذ دخوله السجن، وفتح هاتفه (هاتف أحمد) وبدأ يتصفّح الرسائل، قبل أن يتجمّد كلاهما في اللحظة التالية، حين رُنَّ هاتف أحمد وكانت المتصّلة والدته. بعد 52 يوماً على اختفائه، كانت والدته الوحيدة التي لم تيأس وتستمرّ بمحاولة الاتصال به بشكلٍ يومي. يروي أحمد هذه القصّة ليلقي الضوء على حالة الرعب والخوف والترقّب التي تسيطر على عائلة المخفي أو المخفيّة قسراً ومحيطه/ا، وكيف يحاربون ويعانون من أجل معرفة مصير أحبّائهم.
هذه المعاناة والضغط اللذان تعيشهما عائلة المختفي قسراً أو المُعتقل، نقطتان يلحظهما “ميثاق الحقيقة والعدالة” في الفقرة الرابعة، حيث يُشير تحديداً إلى التأثير المتباين للعديد من الانتهاكات التي حدثت أثناء الصراع السّوري على النوع الاجتماعي، بما في ذلك على سبيل المثال حقيقة أنّ معظم المعتقلين هم من الرجال، في حين أنّ عبء التعامل مع غيابهم يقع بشكلٍ أساسي على النساء. كما تتلقى نساء تعرّضن للاعتقال وصمة عارٍ إضافية مقارنة بالرجال.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.