بتاريخ 30 أذار 2023، تقدّم النائبان جورج عقيص وجورج عدوان من كتلة الجمهورية القوّية باقتراح قانون لتعديل قانون القضاء العسكري لعام 1968، وهي أوّل مبادرة تشريعية لمراجعة هذا القانون بشكل شامل من أجل إصلاحه. فعلى خلاف الاقتراحات المقدّمة سابقاً، لم يكتفِ هذا الاقتراح بالحدّ من اختصاص القضاء العسكري لجهة محاكمة المدنيين، بل ذهب أيضاً في اتجاه تعديل تنظيم هذا القضاء وأصول المحاكمات لديه. وقد برر ذلك في أسبابه الموجبة، بتوسّع اختصاص القضاء العسكري في العقود الأخيرة ليشمل محاكمة المدنيين في جرائم عدّة “بشكل يتنافى مع مفهوم المحاكم العسكرية وفقاً للقانون الدولي، وبشكل يناقض المعايير العالمية للمحاكمة العادلة، بحيث خرجت المحكمة العسكرية عن وظيفتها القضائية كمحكمة استثنائية”، وأصبحت وفقاً للمنظمات الحقوقية الدولية “عامل مزعزع للاستقرار القانوني في لبنان”.
يهدف الاقتراح إلى تعديل كامل للكتابين الأوّل والثاني من قانون القضاء العسكري المتعلّقين بتنظيم القضاء العسكري وأصول المحاكمات الجزائية العسكرية، من دون أن يعدّل في الكتاب الثالث الذي ينصّ على الجرائم العسكرية وعقوباتها. وفي نيسان 2023، شكّلت لجنة الإدارة والعدل النيابية لجنة فرعية برئاسة النائب جورج عقيص (أحد مقدمّي هذا الاقتراح) لدراسة هذا الاقتراح، بالإضافة إلى الاقتراح المقدّم من النائب بلال عبد الله (2021) للحدّ من اختصاص القضاء العسكري، علماً أنّ “المفكّرة” كانت رصدت ورود اقتراحات سابقة إلى المجلس النيابي تتعلّق باختصاص القضاء العسكري مقدّمة من النوّاب ايلي كيروز (2013)، وسامي جميّل (2016)، وبولا يعقوبيان (2019) من دون أن يتبيّن مدى شمولها ضمن دراسة اللجنة. وقد أتت هذه الاقتراحات كترجمة للخطاب الحقوقي الذي يطالب بالحدّ من صلاحية القضاء العسكري في ما يتعلّق بمحاكمة المدنيين، عملاً بمبدأ “القاضي الطبيعي”.
مواكبة لهذا النقاش التشريعي الهام، تقدّم “المفكّرة القانونية” أبرز ملاحظاتها على الاقتراح المقدّم من النائبين عدوان وعقيص من خلال مراجعة التعديلات المقترحة فيه ، وذلك على ضوء المعايير الدولية التي يطمح الاقتراح في ترجمتها في نظام قانون القضاء العسكري، بالإضافة إلى الممارسات القضائية الحالية التي رصدتها “المفكّرة”. تتناول في هذا الجزء الأوّل ملاحظاتنا حول تعديل الاقتراح لاختصاص القضاء العسكري، فيما نتناول في جزء ثانٍ ملاحظاتنا حول تعديله لبنيانه وأصول المحاكمات أمامه.
تجاوز المعايير الدولية المتعّلقة باختصاص القضاء العسكري
يذهب اقتراح النائبيْن عقيص وعدوان في اتّجاه حصر اختصاص القضاء العسكري، معتبراً أنّ هذا التعديل يُعيد “المحاكم العسكرية في لبنان إلى الاختصاص المعطى لها وفقاً للمعايير الدولية”. ومن المعلوم أنّ القضاء العسكري في لبنان يحتلّ حيّزًا هامًّا من النظام القضائي اللبناني، إذ بالرغم من صفته الاستثنائية، فهو يتمتّع حالياً بصلاحية جدّ واسعة لملاحقة عدد كبير من الجرائم، لا تقتصر على تلك التي يرتكبها الموظّفون العسكريون في إطار الوظيفة العسكرية، بل تمتدّ إلى عدد كبير من الجرائم التي يرتكبها عناصر الأجهزة العسكرية والأمنية والمدنيون، بمن فيهم القاصرون. ويؤدّي توسيع اختصاصه على هذا النحو إلى إخضاع المدنيين لمحاكمات لا تتوّفر فيها ضمانات المحاكمة العادلة وإلى منح القوى العسكرية والأمنية امتيازات قضائية واسعة، غالبًا ما تسهم في إفلات عناصرها من العقاب وإنكار حقوق ضحاياهم في الإنصاف القانوني. وقد تقاعس مجلس النوّاب عن إجراء أي مراجعة شاملة لاختصاص القضاء العسكري باستثناء تعديل جزئي في السبعينات، وذلك خلافاً للمعايير الدولية.
يشكّل “مشروع المبادئ بشأن إقامة العدالة عن طريق المحاكم العسكرية” (المعروف ب “مبادئ ديكو“) الذي صدر في العام 2006 المرجع الدولي الأساسي لتقييم التشريعات المتعلّقة بالمحاكم العسكرية. وبالفعل، أوصت هذه المبادئ ب “إخضاع قوانين القضاء العسكري لمراجعة دورية منتظمة تجري على نحو مستقلّ وشفاف من أجـل ضمـان توافـق اختصاصات المحاكم العسكرية مع الضرورة الوظيفيّة البحتة، من دون التعدّي على الاختصاصات التي يمكن، بل وينبغي، أن تعود للمحاكم المدنية العادية” (المبدأ رقم 20). كما شددت هذه المبادئ على أهميّة “إجراء نقاش حول وجود القضاء العسكري في ذاته بشكل شفاف تماماً في مجتمع ديمقراطي” وإخضاعه لضمانات المحاكمة العادلة الواردة في المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي يعتبرها لبنان ذا قوة دستورية. وكانت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان قد أوصت لبنان في عام 1998 بأنه يتوجّب على الدولة اللبنانية أن تعيد النظر في “اختصاص المحاكم العسكرية، وأن تنقل اختصاص المحاكم العسكرية في جميع المحاكمات المتعلقة بالمدنيين وفي جميع القضايا المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان من جانب الأفراد العسكريين، إلى المحاكم العادية.”
وعليه، يُخالف اختصاص القضاء العسكري الحالي المعايير الدولية و”مبادئ ديكو” التي لا تكتفي بتوصية منع محاكمة المدنيين عسكرياً، بل تتجاوزها لإخراج جرائم أخرى مرتكبة من قبل عناصر الجيش والأجهزة الأمنية، بعضها في إطار ممارسة وظيفتهم. ويمكن تلخيص المبادئ الدولية المتعلّقة باختصاص القضاء العسكري بثلاثة مبادئ رئيسية:
- عدم جواز محاكمة المدنيين، بمن فيهم القاصرون، أمام المحاكم العسكرية (المبدئان 5 و7 من مبادئ ديكو)، وذلك لاعتبارها مخالفة لمبدأ القاضي الطبيعي وللحقّ في محكمة مستقلّة وحيادية.
- حصر اختصاص القضاء العسكري في الجرائم ذات الطابع العسكري البحت التي يرتكبها موظفون عسكريون (مبدأ رقم 8)، أي من دون عناصر الأجهزة الأمنية الأخرى التي تبقى خاضعة للمحاكمات العادية حتى في حال ارتكابها لجرائم تتعلق بالوظيفة.
- عدم جواز محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد المدنيين وفقاً للقانون الدولي أمام القضاء العسكري، وهو ما يشمل مثلاً حالات الإعدام خارج نطاق القضاء والاختفاء القسري والتعذيب (المبدأ 9). ووفقاً ل”مبادئ ديكو”، يستند هذا المبدأ إلى اعتبار أن هذا النوع من الجرائم تخرج بطبيعتها عن نطاق الوظائف التي يمارسها العسكريون، فلا يجوز اعتبارها من الأفعال التي تُرتكب لدى أداء الوظائف العسكرية. وهو يجد تبريره بأن السلطات العسكرية قد تميل إلى التستّر على هذه الانتهاكات من خلال التشكيك بملاءمة الملاحقات أو حفظ القضية من دون تحقيق على حساب الضحايا، مما يجعل من اختصاص القضاء العادي ضمانة ضد الإفلات من العقاب. كذلك برر المقرر الخاص بشأن إفلات مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان (المدنية والسياسية) من العقاب هذا المبدأ بغياب معايير الاستقلالية في المحاكم العسكرية.
وإذ يعلن واضعا الاقتراح في أسبابه الموجبة سعيهما من خلاله إلى إعادة المحاكم العسكرية في لبنان إلى الاختصاص المعطى لها وفقاً للمعايير الدولية، فإن التدقيق في تفاصيل الاقتراح (بخاصّة المواد 23 و24 و27 و28 منه) يظهر أنّه، وإن كان يحدّ بشكل واسع من اختصاص القضاء العسكري من خلال إخراج الجرائم المرتكبة من المدنيين وتلك المرتكبة من موظفي الجيش والأجهزة الأمنية التي لا تتعلق بالوظيفة، إلا أنّه لا يتلاءم بشكل كافٍ مع المبادئ الثلاثة المذكورة أعلاه. فعدا عن أنّه يُبقي على صلاحية القضاء العسكري للنظر في بعض الجرائم المرتكبة من قبل المدنيين (كالإرهاب والأسلحة وإثارة النعرات الطائفية)، فإنه يبقى على صلاحيته في النظر في الجرائم المرتكبة من قبل الأجهزة الأمنية المتعلقة بالوظيفة الأمنية، وكذلك العديد من الجرائم التي تشكّل انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان، وفقاً لما نفصّله أدناه.
منع محاكمة المدنيين عسكرياً مع استثناءات مبهمة
وفقاً لأسبابه الموجبة، يكرّس الاقتراح “قاعدة جوهرية تنصّ على منع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية تحت أيّ ظرف كان، إلا في حال تدخّلهم في جرائم الإرهاب المنصوص عنها في القانون الصادر بتاريخ 11/11/1958”. لكنّ تبيّن مراجعة الاقتراح أنّه لم يأخذ بهذه القاعدة بصورة كاملة وفق ما نتناوله أدناه.
ينصّ الاقتراح بشكل واضح على عدم صلاحية القضاء العسكري للنظر في “الجرائم المرتكبة من قبل المدنيين أيّا كان نوعها وأينما وردت” في أيّ من القوانين العامّة أو الخاصّة. كما أنّه يُلغي صراحة صلاحية القضاء العسكري لمحاكمة كلّ فاعل أصلي أو شريك أو متدخل أو محرض في جريمة محال بها أمام القضاء العسكري أحد الأشخاص الخاضعون لصلاحيتهم الشخصية (كعناصر الجيش والأجهزة الأمنية)، بحيث تُصبح محصورة بهؤلاء من دون غيرهم من المدنيين.
من هذه الزاوية، يؤدي الاقتراح، في حال إقراره، إلى إنهاء مظلمة كبيرة تستمرّ منذ عقود عبر إخضاع المدنيين للمحاكمات العسكرية التي لا توّفر ضمانات المحاكمة العادلة من خلال إخراجه العديد من القضايا التي يُلاحق بها اليوم المدنيون من اختصاص القضاء العسكري، ومنها الجرائم المرتكبة من قبل المدنيين ضدّ الجيش والأجهزة الأمنية وعناصرهم كالمعاملة بالشدّة والقدح والذم التي لطالما استندت إليها السلطات القضائية لملاحقة المتظاهرين ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أمام القضاء العسكري.
لكنّ الاقتراح يُضيف استثناءات لهذه القاعدة العامّة قد تؤدّي عملياً إلى إدخال جرائم جديدة ضمن صلاحية القضاء العسكري، إذ يُجيز الاقتراح محاكمة المدنيين عسكرياً في ثلاث حالات:
الأولى، ارتكاب أيّ من “الجرائم المتعلّقة بالأعمال الإرهابية أو بإثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال أو النعرات الطائفية المنصوص عنها بالقوانين المرعية الإجراء لا سيما قانون 1958”. وهو القانون الذي صدر على إثر أحداث عامي 1957 و1958 بشكل مؤقت واستثنائي ولا يزال ساري المفعول لغاية اليوم بعد 65 عاماً، ويشكّل السند القانوني لنظر القضاء العسكري في قضايا الإرهاب. وتأتي هذه العبارة المبهمة لتدحض ما ورد في الأسباب الموجبة، إذ لم يأت استثناء قانون العام 1958 على سبيل الحصر بل على سبيل المثال، وهو ما قد يُتيح توسيع صلاحية القضاء العسكري لتشمل مجدداُ جرائم أخرى غير تلك المنصوص عنها صراحة في هذا القانون، وأبرزها الجرائم الواردة في قانون العقوبات كما هي حال جرم إثارة النعرات الطائفية (المادتان 317 و318 من قانون العقوبات) أو تبييض الأموال بما يتصل بتمويل الإرهاب (المادة 316 مكرر) أو بأي جريمة تهدف إلى هذه الغاية. وعليه، قد تؤدي صياغة الاقتراح المبهمة إلى توسيع صلاحية القضاء العسكري لمحاكمة المدنيين في حال الاشتباه بارتكابهم ما قد تصفه النيابات العامّة ب “إثارة النعرات الطائفية” (وهو مفهوم ضبابي يفتح المجال للتوّسع في تفسيره خلافاً لمبدأ شرعية الجريمة كما حصل ويحصل) في حين أنّها تخرج اليوم عن صلاحيته. وليس أدلّ على خطورة ذلك من التذكير بأنه تمّ مؤخراً إدانة صحافية بجرم إثارة النعرات الطائفية على خلفية انتقادها لتيار الوطني الحر.
والثانية، ارتكاب الجرائم المنصوص عنها في قانون الأسلحة والذخائر من دون اشتراط أن يحصل ذلك “ضمن الشروط المحددة فيه” كما هي الحال حالياً، علماً أنّ هذا القانون لا يولي القضاء العسكري صلاحية النظر في جميع الجرائم المنصوص عنها فيه. فقانون الأسلحة والذخائر يميّز بين نوعين من الجرائم (المادتان 79 و80 من المرسوم الاشتراعي رقم 137/1959):
- الأولى تتعلّق بالأسلحة والذخائر الحربية والتي تدخل ضمن اختصاص القضاء العسكري إلا في حال كانت متلازمة مع جرم خاضع لصلاحية القضاء العدلي؛
- والثانية تتعلّق بالأسلحة والذخائر غير الحربية التي تشمل مثلاً الأسلحة المعدّة للصيد والأسلحة الخفيفة كالخناجر والعصي… والتي تبقى خاضعة لصلاحية القضاء العدلي إلا في حال ارتُكبت في آن واحد مع جرم من اختصاص القضاء العسكري.
وعليه، يؤدّي الاقتراح في حال إقراره إلى توسيع اختصاص القضاء العسكري ليشمل الجرائم المرتكبة من قبل المدنيين المتعلّقة بالأسلحة غير الحربية وتلك المتعلّقة بالأسلحة الحربية المتلازمة مع جرم خاضع لصلاحية القضاء العدلي. وما يؤكّد نية معدّي الاقتراح في هذا الاتجاه هو إلغاء الاقتراح للفقرة الأخيرة من المادة 28 من قانون القضاء العسكري التي تنصّ على أنّه “إذا كان الجرم من صلاحية القضاء العادي وكان ثمة جرم سلاح حربي متلازماً معه فإن القضاء العادي ينظر بالجرمين معا.”
والثالثة، في حال إنشاء محاكم عسكرية مؤقتة في زمن الحرب، بحيث يكون لها صلاحية محاكمة “المدنيين المشتبه في ارتكابهم الأعمال المخلة بالأمن والواقعة على أمن الدولة الداخلي والخارجي وفقاً لما نصّ عليها قانون العقوبات اللبناني، والأعمال الإرهابية وأسرى الحرب”، وهو ما يشكّل توسيعاً لصلاحية هذه المحاكم المؤقتة إذ ينصّ القانون الحالي على أن تكون هذه المحاكم “خاصّة بالقوى المسلحة” وأن يتمّ تحديد نطاق اختصاصها بموجب مرسوم إنشائها.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أنّ الاقتراح لم يمنع صراحةً محاكمة القاصرين أمام القضاء العسكري بحيث يبقى ذلك ممكناً في الاستثناءات التي يشملها الاقتراح إذا كان جرمهم متلازماً مع جرم مرتكب من قبل راشدين، في حين أنّ المعايير الدولية توصي بمنع المحاكمات العسكرية للقاصرين استناداً إلى المادة 14 من العهد الدولي واتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل وإلى وجوب إخضاع الأطفال لنظام عدالة جزائية يتلاءم مع أعمارهم (المبدأ رقم 7 من مبادئ ديكو).
قضاء متخصص بالوظيفة العسكرية… والأمنية أيضاً
فيما توصي المعايير الدولية بحصر اختصاص القضاء العسكريّ بالجرائم ذات الطابع العسكريّ البحت التي يرتكبها موظفون عسكريون، يُبقي الاقتراح على اختصاص أوسع لا ينحصر بالوظيفة العسكرية بل يشمل الوظيفة الأمنية أيضاً.
يحدّد الاقتراح اختصاص القضاء العسكريّ بالجرائم المرتكبة من قبل العسكريين التي لها علاقة بالوظيفة وهي الجرائم التي حدّدها في متنه بشكل حصريّ. وتبقى صلاحية القضاء العسكري محفوظة ليس لمحاكمة العسكريين فحسب، بل أيضاً لمحاكمة المماثلين للعسكريين ورجال الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والضابطة الجمركية “ما لم تكن الملاحقة تتعلق بجرائم لا علاقة لها بالوظيفة”. واللافت أنّ الاقتراح يُوّسع بصورة تتناقض مع غاياته المعلنة هذه الصلاحية لتشمل جرائم موظفي “الضابطة الجمركية” التي لها علاقة بالوظيفة، علماً أنّهم يخضعون حالياً لصلاحية القضاء العادي.
كما تبقى صلاحية القضاء العسكري قائمة لمحاكمة الموظفين المدنيين لدى وزارة الدفاع الوطني والجيش والأجهزة الأمنية الأربعة (قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والضابطة الجمركية) إذا كانت جرائمهم ناشئة عن الوظيفة أو واقعة تحت طائلة هذا القانون، بالإضافة إلى الأسرى ورجال قوى الجيوش الأجنبية والموظفين المدنيين فيها ما لم يكن هناك اتفاق مخالف بين السلطات اللبنانية والسلطات التابعة لها هذه الجيوش.
في المقابل، ينصّ الاقتراح على إخراج بعض الجرائم المرتكبة من قبل عناصر الأجهزة الأمنية الأربعة التي لها علاقة بالوظيفة، وهي تلك المرتكبة من قبلهم “أثناء التحقيقات العدلية التي يقومون بها والتي لها علاقة بهذه التحقيقات المرتكبة بسببها أو بمعرضها”، من دون أن يشمل ذلك عناصر الجيش، وهو ما سنعود إليه لاحقاً في الفقرة الثالثة المخصصة للانتهاكات الخطيرة والتي يجدر إخراجها من اختصاص القضاء العسكري.
بالإضافة إلى ذلك، تشمل صياغة الاقتراح بنودا إضافية تنصّ صراحة على إخراج بعض الجرائم من صلاحية القضاء العسكري، من دون أن يتضح سبب إدراجها في متنه طالما أنّها غير مشمولة بموجب الصلاحية النوعية والشخصية التي يعتمدها الاقتراح. ومن ضمن هذه الجرائم الواردة في الاقتراح: الجرائم غير العسكرية التي يرتكبها عسكري أو التي يشترك فيها أشخاص من المدنيين (فاعلاً أو متدخلاً أو شريكاً أو محرضاً)، المخالفات كافة والجنح المنصوص عليها في قانون السير، وجرائم القدح والذم والجرائم الإلكترونية أينما وردت. ويُخشى أن تُؤدّي هذه الصياغة إلى تفسير إختصاص القضاء العسكري على أنّه يشمل كل ما لم يُخرجه الاقتراح صراحة من اختصاصه.
ويلحظ أن الاقتراح لا يزال يستخدم عبارة “رجال” القوى الأمنية التي وردت في القانون الصادر في العام 1968 بدلاً من “الموّظفون” أو “العناصر”، علماً أن العديد من هذه الأجهزة أصبحت اليوم تضمّ نساءً ضمن عناصرها، ما يستوجب ترجمة هذا التطوّر في النصّ التشريعي.
وعليه، وإن كان الاقتراح يؤدّى في حال إقراره إلى نزع اختصاص القضاء العسكري عن الجرائم التي يرتكبها موظفو الجيش والأجهزة الأمنية التي لا تتعلق بالوظيفة العسكرية والأمنية (كالعنف الأسري ومخالفات السير والنزاعات بينهم وبين المدنيين ذات الطابع الفردي)، إلا أنّه، خلافاً للمعايير الدولية، يُبقي على اختصاصه للنظر في الجرائم المرتكبة من قبل عناصر الأجهزة الأمنية في إطار الوظيفة الأمنية ويوّسعها لتشمل عناصر الضابطة الجمركية.
هل تبقى جرائم التعذيب في عهدة القضاء العسكري؟
فيما توصي المعايير الدولية بعدم جواز محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد المدنيين وفقاً للقانون الدولي أمام القضاء العسكري، يبقى أن أخطر ما أغفله الاقتراح هو النصّ صراحة على عدم صلاحية القضاء العسكري للنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يرتكبها العسكريون وعناصر الأجهزة الأمنية ضدّ مدنيين، وبخاصّة جرائم التعذيب والإخفاء القسري والقتل المنصوص عنها في المواد 401 و547 إلى 553 من قانون العقوبات وقانون معاقبة التعذيب رقم 65/2017 وقانون المفقودين والمخفيين قسراً رقم 105/2018. ففي حين ينصّ الاقتراح صراحة على إخراج الجرائم المرتكبة من قبل عناصر الأجهزة الأمنية “أثناء التحقيقات العدلية” والتي “لها علاقة بهذه التحقيقات المرتكبة بسببها أو بمعرضها” من اختصاص القضاء العسكري (وهو غالباً ما يشمل جرائم التعذيب)، لم ينصّ على إخراج هذه الجرائم من اختصاصه في حال ارتكابها من قبل عناصر الجيش، طالما أنهّا تُفسّر على أنّها مرتبطة بالوظيفة العسكرية.
بالإضافة إلى ذلك، يُبقي الإقتراح الغموض قائماً بشأن مدى اختصاص القضاء العسكري للنظر في الجرائم المرتكبة من قبل عناصر الأجهزة الأمنية في إطار التحقيقات العدلية “العسكرية” (وليس العادية) أي التي تحصل تحت إشراف القضاء العسكري. وتكمن أهمية هذه الإشكالية تبعاً للتفسير القانوني الذي اعتمده القرار الاتهامي الصادر في نهاية 2022 عن قاضية التحقيق العسكري نجاة أبو شقرا في قضية مقتل بشار السعود تحت التعذيب في مركز لأمن الدولة، إذ ميّز بين التحقيقات العدلية “العادية” و”العسكرية”، وخلُص إلى اعتبار أنّ المحكمة المختصّة لمحاكمة جرائم التعذيب هي نفسها المحكمة المختصة لمحاكمة الجرائم التي حصل التعذيب بمناسبة التحقيق فيها. ورغم انتقاد “المفكّرة” لهذا التفسير، يُخشى أن يؤدي الاقتراح إلى اعتبار أنّ جرائم التعذيب التي يرتكبها عناصر من الأجهزة الأمنية في إطار التحقيقات العدلية “العسكرية” تخضع لصلاحية القضاء العسكري، مع ما يستتبع ذلك من مخاوف حول افلات مرتكبي التعذيب من العقاب.
وما يعزز هذه المخاوف هو تقاعس الاقتراح عن تضمين إلغاءً صريحاً لنصوص أخرى تتعلق بصلاحية القضاء العسكري كان استند إليها القرار الاتهامي المذكور، ومنها:
- المرسوم الاشتراعي رقم 110 تاريخ 30 حزيران 1977 الذي أولى القضاء العسكري صلاحية النظر في الجرائم المرتكبة من قبل عناصر الأجهزة الأمنية أثناء الخدمة وبسببها، كما في الجرائم المرتكبة على مراكزهم أو في هذه المراكز بما فيها السجون،
- المرسوم رقم 1460 تاريخ 1971 الذي ينصّ على اختصاص القضاء العسكري في حال ارتكاب أي من عناصر قوى الأمن الداخلي أو قوى الأمن العام مخالفات أثناء قيامهم بمهمات من اختصاص القضاء العسكري.
هذا ما أمكن قوله بشأن التضييق المقترح لصلاحيّة القضاء العسكري. بقي أن نناقش في جزء ثانٍ الجوانب الأخرى للاقتراح وبخاصة الجوانب المتصلة بتطوير هيكليته وتعزيز مبادئ المحاكمة العادلة.
للاطلّاع على اقتراح القانون، إضغطوا هنا