تم تعديل هذه النسخة في 6 أيار 2025 تبعا لتصحيح وردنا بشأن تعديل طرأ على مشروع قانون تنظيم القضاء العدلي.
أقرّت الحكومة يوم الجمعة المؤرّخ في 2 أيار 2025 مشروع قانون تنظيم القضاء العدلي، الذي أعدّه وزير العدل عادل نصّار عملا بالبيان الوزاريّ. ويأتي إقرار مشروع القانون بمثابة فصل جديد في مسار محاولات إصلاح القضاء العدليّ، حيث أنّ وزير العدل بنى مشروعه على نسخة اقتراح قانون استقلاليّة القضاء العدلي كما عدّلته لجنة الإدارة والعدل والتوصيات التي انتهى إليها منتدى العدالة والذي شارك فيه مختلف الأطراف المعنيّين بورشة استقلال القضاء.
وإذ نسارع إلى القول أن مشروع القانون حقّق خطواتٍ هامّة إلى الأمام على صعيد تحقيق استقلاليّة القضاء، فإنّنا نشير في الوقت نفسه إلى أنه بقي مثقلًا في بعض جوانبه بتأثير بعض الحساسيّات القضائيّة والقطاعيّة والطائفيّة، والتي حالتْ دون اعتماد معايير استقلالية القضاء بصورة كاملة. وهي حساسيات نأمل أن يتمّ تجاوزها في إطار المناقشات النيابية عليه.
وقبل المضي في استعراض أهمّ ما تضمّنه مشروع القانون من إيجابيات أو سلبيّات، يجدر التذكير بأهمّ المراحل التي قطعها خلال السنوات الأخيرة.
المراحل الأساسية للمشروع
بدأت رحلة العمل على إصلاح القضاء العدلي في 2014 حين أعلنت المفكرة القانونية عن مباشرة عملها على إصلاح القضاء العدلي، وذلك في سياق رؤية إصلاحيّة عامّة، تشمل أعمالًا بحثيّة فضلًا عن إطلاق نقاشات عامّة بهدف إشراك أوسع شريحة اجتماعيّة في عملية الإصلاح القضائي، آملة أن يكتسي الإصلاح المنشود “أولويّة اجتماعيّة”. وقد ترافق هذا الإعلان مع تأكيد أهمية إشراك القضاة في إصلاح القضاء وحقهم في إنشاء جمعيّات تضمن هذه المشاركة، وهو أمر دخل ضمن أول أولويّات مؤسّسي المفكرة القانونية منذ 2006 ونجح القضاة في تكريسه بعد عدد من المحاولات المتعثّرة في نيسان 2018. وفي موازاة ذلك، أطلقت المفكرة القانونية المرصد القضائي الذي يهدف إلى مراقبة العمل القضائي وتفعيل علانية المحاكمات، مع استمرار المفكرة في نهجها في التقاضي الاستراتيجي بهدف تكريس دور القضاء الاجتماعي.
الثمرة الأهم لهذا العمل تمثلت في إنجاز اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي وشفافيته على ضوء مجمل الإشكاليات التي استنبطتها المفكرة القانونية. وقد وقع الاقتراح عدد من النواب، هم أسامة سعد وبولا يعقوبيان وجورج عقيص وشامل روكز وعلي درويش وفؤاد مخزومي وميشال موسى ونجيب ميقاتي وياسين جابر وتمّ تسجيله الاقتراح في قلم المجلس في 11 أيلول 2018 بعدما كانت المفكرة نجحت في تنظيم ندوة في مكتبة البرلمان لهذه الغاية.
إلا أنّ النّقاش لم يأخذْ مداه اجتماعيّا إلّا بعد انتفاضة 17 تشرين 2019 حين تحوّل تحقيق استقلالية القضاء إلى أحد أهم مطالب المجموعات الناشطة فيها، وهو الأمر الذي تمثّل في عقد عشرات الندوات في خيم الانتفاضة التي انتشرت على طول لبنان وعرضه.
ورغم إعلان رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان في مطلع سنة 2019 سنة استقلال القضاء، فإن اللجنة لم تضع الاقتراح موضع مناقشة إلا في كانون الأول 2019 وبضغطٍ من مطالب الانتفاضة. وقد حذّرت المفكرة من منهجيّة عمل اللجنة وبطئها، وبخاصّة أنّها امتنعت عن مناقشة مواد الاقتراح لتنتهج العصف الذهني بشأن أبوابه مع تكليف بعض القضاة إعادة صياغة هذه الأبواب. وقد تحصّل عن ذلك نتاج هجين ينتقص إلى الرؤية الموحّدة والدقّة في الصياغة.
أول النصوص في هذا الخصوص أنتجتها اللجنة المصغرة المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل في أيار 2021. ورغم احتفاظها ببنية اقتراح المفكرة، فإنّ النصّ أتى مشوبا بشوائب كثيرة سارع ائتلاف استقلال القضاء إلى رصدها والدّعوة إلى تصحيحها. وهنا برز دور وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم التي أنشأت لجنة قضائيّة داخل الوزارة انتهت إلى وضع ملاحظاتها على مواد الاقتراح واحدة واحدة مع إبداء مقترحات بديلة كلما رأت ذلك مناسبًا. والأهمّ من ذلك، هو أن الوزيرة نجم عمدتْ للمرّة الأولى في تاريخ لبنان إلى طلب رأي لجنة البندقية (وهي لجنة استشاريّة تابعة لمجلس أوروبا) وذلك بناءً على طلب رسميّ قدّمه إليها ائتلاف استقلال القضاء، وهو الأمر الذي سيفتح بابًا واسعًا أمام إنضاج اقتراح القانون وترسيخ مرجعية المعايير الدولية.
وعلى ضوء ملاحظات ائتلاف استقلال القضاء ووزارة العدل، انتهت لجنة الإدارة والعدل إلى صيغة منقحة للاقتراح المنجز من اللجنة المصغرة وذلك في تاريخ 21/12/2021 وقد اعتبر ائتلاف استقلال القضاء هنا أيضا أن الصيغة غير مناسبة ولا تضمن استقلالية القضاء، طالبًا إرجاء مناقشته في الهيئة العامّة بانتظار رأي لجنة البندقية، بعد تأكيد وزير العدل هنري خوري على طلب الوزيرة نجم مشورتها. وبالفعل، تمّ إرجاء مناقشة الاقتراح بناء على طلب الوزير في جلسة الهيئة العامة لمجلس النواب المنعقدة في تاريخ 21 شباط 2022.
في إثر ذلك، أصدرتْ لجنة البندقيّة بعد الاستماع إلى مختلف الفاعلين ومنهم ائتلاف استقلال القضاء،رأيها في 20 حزيران 2022. وقد تضمّن الرأي توصيفًا مفصّلا للمادة 95 من الدستور وانعكاساتها على المجال القضائي. ومن أهمّ ما نصّت عليه في هذا المجال هو أهميّة إرساء آليات ترشيح لتغليب اعتبارات الكفاءة والالتزام بعدم تخصيص أيّ مركز طائفي لأية طائفة. كما ناقشتْ مسألة المناصفة داخل مجلس القضاء الأعلى من دون أن تصل إلى نتيجة حاسمة في هذا المجال. كما انتهت اللجنة إلى توصيات واضحة تمحورت حول عدد من المسائل أهمّها وجوب زيادة تمثيلية الفئات الشابة من القضاة في المجلس الأعلى للقضاء، ووجوب تعيين القضاة الحكميين في المجلس الأعلى للقضاء من بين المرشحين المقترحين من المجلس ومن دون أن يكون لوزير العدل إضافة ترشيحات إضافيّة، ووجوب تخفيض الغالبية المطلوبة في مجلس القضاء الأعلى لحسم مشروع التشكيلات في حال حصول أي خلاف مع وزير العدل، ووجوب تعديل آليات تعيين أعضاء هيئة التفتيش القضائي وهيئة التقييم القضائي في اتجاه الحدّ من هيمنة السلطة التنفيذية على هذه التعيينات، وإرساء آليات واضحة لضمان الأخذ بمعيار الكفاءة في التعيينات القضائية بدءًا من إرساء نظام تقييم ونظام شفاف للترشيحات وآلية اختيار المرشح الأفضل، وضمان حريّة القضاة بإنشاء جمعيات مهنية من دون وضع قيود غير مبرّرة، وضرورة توفير آلية قانونية للطعن بالقرارات التي تبدو تعسفية بشكل واضح أو تتسم بعيوب إجرائية جديّة.
وقد سارع ائتلاف استقلال القضاء إلى الترحيب بهذا الرأي طالبا تعديل اقتراح القانون على ضوء توصيات لجنة البندقية. إلا أن لجنة الإدارة والعدل آثرت إهمال هذه التوصيات فلم تأخذ إلا بواحدة منها (وضع آلية لتعيين الأعضاء الحكميين في حال تخلّف الحكومة عن تعيينهم انطلاقا من قوائم المرشحين المعدة من مجلس القضاء الأعلى)، فيما أهملت كل ما تبقى رغم أهميته. وعليه، أنجزت لجنة الإدارة والعدل وضع الصيغة الثالثة للاقتراح في تاريخ 7/3/2023. وهنا أيضًا، سارع ائتلاف استقلال القضاء إلى رفضها. وإذ تمّ وضع الاقتراح على جدول أعمال جلسة الهيئة العامة المنعقدة في تاريخ 14/12/2023، طلب رئيس الحكومة آنذاك نجيب ميقاتي التريّث في مناقشته والتّصويت عليه.
في موازاة هذا الجهد، تمّ في آخر شباط 2024 إطلاق “منتدى العدالة” الذي ضمّ بالإضافة إلى لجنة الإدارة والعدل النيابية ووزارة العدل والهيئات القضائية المختلفة، مجموع الجهات الفاعلة، بما فيهم ائتلاف استقلال القضاء ونادي قضاة لبنان ونقابتيْ المحامين وكليات الحقوق في الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصّة. وقد شكّل المنتدى إطارًا فاعلًّا لمناقشة مجمل النقاط العالقة والتوصّل إلى أوسع اتّفاقات ممكنة انطلاقا من المعايير الدولية لاستقلالية القضاء وما قد يراه الفاعلون ضروريا في النظام اللبناني، ودوما مع تسجيل الآراء المخالفة. وقد أنهى المنتدى أعمال مجموعته الأولى في شباط 2025 ورفع خلاصات نقاشاته إلى مختلف الجهات الفاعلة.
وقد قيّض لهذا الجهد المجتمعيّ والمؤسساتيّ أن يتلاقى في توقيت مثاليّ مع التطورات السياسيّة الحاصلة ابتداء من كانون الثاني 2025. وقد تمثّلت في خطاب القسم، حيث تعهّد رئيس الجمهورية ب “إقرار مشروع قانون جديد لاستقلالية القضاء” وفي البيان الوزاري الذي تعهد ب “ترسيخ استقلال القضاء العدليّ والإداريّ والماليّ وتحسين أوضاعه وإصلاحه”، بمعنى أن وزير العدل الجديد عادل نصّار وجد عند تولّيه الوزارة الطريق معبّدا أمامه لكي يقود الإصلاح القضائي إلى محطّته الأخيرة. وهذا ما تحقّق من خلال جلسات ماراثونية جمعتْ إليه رئيسيْ مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود وهيئة التفتيش القضائي أيمن عويدات وعميدة كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف ماري كلود نجم والمدير التنفيذي للمفكرة القانونية نزار صاغية بالإضافة إلى ممثل منتدى العدالة فادي عنيسي فضلا عن قاضيين توليا الصياغة النهائية هما زياد أيوب وجوزيف تامر ومستشارة الوزير لارا سعادة. وقد هدفت الاجتماعات بالدرجة الأولى إلى إدخال توصيات منتدى العدالة ضمن مشروع القانون، على نحو يحفظ النهج التشاركيّ الذي أرساه المنتدى. وكان من المتّفق عليه منذ البداية أنّ الوزير يلتزم بالاستماع إلى جميع الآراء على الطاولة بعد التّذكير بتوصيات منتدى العدالة، على أن يكون له في النهاية قرار الحسم في حال عدم التوصّل إلى تفاهم واضح. وقد مارس فعلًا الوزير هذه الصلاحيّة بالنسبة إلى بعض نقاط المشروع ومنها حفظ حقّ السّلطة التنفيذيّة في تعيين عضويْن في مجلس القضاء الأعلى. كما برزت الحساسيّة القطاعيّة في المشروع من خلال حصر استئناف القرارات التأديبيّة في هيئة منبثقة عن مجلس القضاء الأعلى، بما يتعارض مع مبدأ القاضي الطبيعي. وعليه، أمكن القول أن مشروع القانون جاء حصيلة نقاشات مجتمعيّة واسعة، تكلّلت بأعمال المنتدى وعبّرت عن مستوى نضج النّقاش العامّ في شأن إصلاح القضاء، وإن تركتْ بعض الحساسيّات السياسيّة والقضائيّة والقطاعيّة آثارها على بعض أحكامه، بما حال دون الالتزام التامّ بالمعايير الدولية فيها.
في قراءة متأنيّة للمشروع
على ضوء ما تقدم، سنحاول هنا تقييم ما ذهب إليه مشروع القانون، في إيجابيّاته وسلبيّاته، وذلك على ضوء ما وضعته لجنة البندقية.
- مجلس القضاء الأعلى، تعزيز استقلاليته وصلاحياته
استقلاليّة مجلس القضاء الأعلى
في هذا الخصوص، اعتمد المشروع الخيارات الآتية:
أولا، أقرّ مبدأ انتخاب خمسة أعضاء من المجلس من قبل القضاة. وقد توزّع عدد المنتخبين على النحو الآتي: 1 من محكمة التمييز و2 من كلا من درجتي الاستئناف والبداية أحدهما قاضٍ منفرد. ويسجل هنا للمشروع أنه وسّع دائرة الانتخاب لتشمل جميع القضاة من دون استثناء، فيما أن القانون الحالي يحصرها بقضاة محكمة التمييز. كما يسجّل له أنّه وسّع دائرة الترشّح لتشمل جميع القضاة ممّن بلغوا الدرجة الخامسة وما فوق (أي ممّن له خبرة 8 سنوات) فيما هي محصورة اليوم ب “رؤساء محكمة التمييز” (وعددهم 10 فقط)، على نحو أعاد الاعتبار لمستشاري محكمتي الاستئناف والتمييز من دون أن يلغي تمامًا التمييز بينهم وبين رؤساء الغرف. إذ بات بإمكانهم الترشّح لمنصبيْن من أصل 3 مخصّصة لهاتيْن الدرجتيْن. كما كرّس مشروع القانون مبدأ تمثيل الفئات الشابة (القضاة المنفردين) وإن بقي تمثيلهم غير متناسب مع عديدهم (100 قاضيا منفردا على الأقل).
وفيما ينسجم المشروع مع المعايير الدوليّة التي تفترض انتخاب نصف أعضاء المجلس على الأقلّ من قبل أقرانهم، يبقى أنّه سجّل تراجُعًا بالنّسبة إلى اقتراح القانون الصّادر عن لجنة الإدارة والعدل الذي كان حدّد في أحد خياراته عدد المنتخبين بسبعة، بعدما تمسّك وزير العدل بوجوب ترك تعيين عضوين للحكومة. وقد برّر هذا الأخير موقفه بضرورة تنوّع طرق تعيين أعضاء المجلس، وبخاصة أنّ الانتخابات القضائية ستكون تجربة جديدة في النظام اللبناني لا يمكن التنبّؤ في كيفية تفاعل القضاة معها. كما برّر موقفه بوجوب إيجاد آليّات لتصحيح ما قد تسفر عنه الانتخابات من خللٍ في تمثيل فئات معينة من القضاة، طائفيا أو جندريا.
ويلحظ أن الوزير عاد وأدخل تعديلا إيجابيا على مسودة مشروع القانون بالتّنسيق مع رئيس الحكومة نوّاف سلام قبل عرضه للتصويت على مجلس الوزراء، قوامه أن يتم تعيين العضوين المذكورين من ضمن قائمتين من 3 أسماء: الأولى، يحددها أعضاء محكمة التمييز، والثانية، يحدّدها رؤساء غرف محاكم الاستئناف. وبذلك، يكون مشروع القانون قد جرّد السلطة التنفيذيّة من تفردها في اختيار هذين العضوين.
وكانت المفكرة القانونية قد اقترحت بدورها في اقتراحها في سنة 2018 إيجاد طرق تصحيحية لما قد تسفر عنه الانتخابات، قوامها أن يجري تعيين عدد من القضاة من قبل أعضاء المجلس المنتخبين والحكميّين، بعد ضمان انتخاب نصف القضاة من بين أقرانهم. وقد اعتمد مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل هذا الطرح نفسه في التوصيات التي أرسلت في 2022 إلى لجنة الإدارة والعدل، وأعادت لجنة الإدارة والعدل التذكير به في تقريرها النهائي في هذا الخصوص.
من جهة أخرى، كرّس مشروع القانون مبدأً آخر كانت اقترحته المفكرة القانونية في اقتراح قانون 2018 وقوامه وجوب تجريد الحكومة من صلاحية التفرد في تعيين الأعضاء الحكميين الثلاثة (وهم رئيس محكمة التمييز والنائب العام التمييزي ورئيس هيئة التفتيش القضائي) وذلك من خلال إلزامها بتعيين هؤلاء من ضمن قوائم يعدّها مجلس القضاء الأعلى تضمّ 3 مرشّحين لكلّ منصب. وإذ جرّد المشروع وزير العدل من إمكانية إضافة أيّ إسم إضافيّ، انسجامًا مع توصيّات لجنة البندقيّة في تعليقها على اقتراح لجنة الإدارة والعدل، فإنه لم يتضمّن أيّة آليات تحسّبا لأيّ رفض أو مماطلة من قبل وزير العدل أو الحكومة لإجراء التعيينات اللازمة، سوى تولي القاضي الأعلى درجة في الهيئات المذكورة مهام المركز الشاغر.
وفيما يشكّل تسمية هؤلاء من بين قوائم المجلس حصرًا ضمانةً هامّة، فإنّ هذه الضمانة تتعزز بقدر ما تتوسّع خيارات المجلس وما ينجح في إرساء شروط ترشيح متناسبة لإشغال هذه المناصب. وبالطبع، تتعزّز هذه الخيارات في حال التزم المجلس بالمادة 95 من الدستور التي تحظر تخصيص أيّ مركز قضائيّ أو إداريّ لأي طائفة. بالمقابل، تضعف هذه الضمانة في حال تضاءلت خيارات المجلس بفعل ارتفاع الدرجة أو تخصيص المراكز. فضلا عن ذلك، تجدر الإشارة إلى أن المشروع وضع مدّة قصوى لولاية الأعضاء الحكميين وإن أطال المدة لتكون ستّ بدل أربع سنوات التي كانت اقترحتها المفكرة.
فضلا عن ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحساسيّة القضائيّة الفائقة لدى الهيئات القضائية والقضاة عموما حالتْ دون قبول اقتراح “المفكرة” بتعيين أعضاء من خارج القضاء من بين المحامين أو الأساتذة الجامعيّين، رغم تشديد لجنة البندقيّة على أهميّته لتعزيز انفتاح مجلس القضاء الأعلى على المجتمع والحدّ من مخاطر نشوء الروح النقابية الفئوية. ورغم الوقت الطّويل الذي استغرقهُ التفكير حول هذا القانون، فإن هذه المسألة تبقى حتى اليوم بمثابة تابو قضائي، بما يتعارض مع طبيعة المجلس والغاية منه. وكانت المفكرة القانونية دعتْ خلال المنتدى إلى إنشاء هيئة استشاريّة للمجلس تضمّ أعضاء غير قضاة، وذلك كاختبار بانتظار إنضاج الرأي العامّ القضائيّ في هذا الخصوص.
أخيرا، تضمن الاقتراح موادّ تمأسس إنشاء أمانة السر لدى مجلس القضاء الأعلى وتعزز موارده البشرية والمادية، فضلا عن استقلاليته المالية.
صلاحيّات مجلس القضاء الأعلى
تم منح مجلس القضاء الأعلى للمرة الأولى صلاحية شاملة في كل ما يتّصل بالمسارات المهنية للقضاة. وهذا ما نقرأه في المادة 7 من مشروع القانون حيث جاء حرفيا: “يتولى المجلس السهر على حقوق القضاة المعنوية والمادية وضماناتهم وإنصافهم، وكل ما يختص باستقلاليّتهم وتعيينهم وتشكيلهم ونقلهم وتأديبهم، وسائر الشؤون المتعلقة بهم.”
وعليه، وإذ أكّد مشروع القانون على صلاحيّة المجلس وضع مشروع التشكيلات القضائيّة، فإنّه استعاد ما كانت لجنة الإدارة والعدل اقترحته من أجل تخويل المجلس من تجاوز ممارسات التعطيل والفيتوات السياسية. إذ نصّ مشروع القانون في المادة 71 منه على أنّ التّشكيلات تصبح نافذةً ويبدأ العمل بموجبها في حال عدم صدور مرسوم إصدارها خلال مهلة شهرٍ من تاريخ ورود المشروع إلى ديوان وزارة العدل. وإذ أبقى مشروع القانون على صلاحيّة الوزير بإبداء ملاحظات على مشروع التشكيلات، فإنه خوّل المجلس إمكانية تجاوزها بأكثرية 7 أعضاء، مُخالفا بذلك ما كانت أوصتْ به لجنة البندقية وأيّده ائتلاف استقلال القضاء لجهة وجوب تحديد الأغلبية المطلوبة بالأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس من دون زيادة (أي 6 أعضاء في حالة المجلس الحالي).
كما أناط مشروع القانون بمجلس القضاء الأعلى وظيفةً جديدةً قوامها إجراء التقييم الدوريّ للقضاة على أساس معايير يتولى وضعها، وذلك من خلال لجان تقييم يعيّن كلا من المجلس وهيئة التفتيش القضائي إثنين من أعضائها (وهي توصية من منتدى العدالة).
كما يتولّى المجلس تأديب القضاة من خلال هيئتيْن ابتدائيّة واستئنافيّة يعين الأولى المجلس التأديب والثانية مجلس القضاء الأعلى.
كما تمّ منح المجلس صلاحيّة وضع وثيقتين بالغتي الأهمية: الأولى وثيقة الأخلاقيّات القضائيّة، والثانية وثيقة حول السياسة التواصليّة للمحاكم. ويلحظ هنا أن النص بدا وكأنه يدعو مجلس القضاء الأعلى إلى استشارات واسعة، وإن كان من الأصحّ فرض التشاركية في هذا المجال.
ضمان شفافية المجلس
عزّز مشروع القانون شفافيّة المجلس الداخليّة والخارجيّة، علمًا أنّ أغلب مواده مأخوذة من اقتراح القانون الذي أعدّته المفكّرة القانونيّة في 2018.
فمن جهة أولى، يتولّى المجلس وضع نظام داخليّ خلال مهلة 6 أشهر من بدء ولايته. ومن شأن هذا النظام أن يضع قواعد عمل المجلس على نحو يقلّل من الاستنسابيّة ويعزّز الشفافيّة الداخلية.
ومن جهة ثانية، ينشر المجلس جداول أعماله ومقرراته.
ومن جهة ثالثة، أخضعت المادة 21 القرارات الصادرة عن المجلس والمتصلة بدوره في تنظيم القضاء للطّعن أمام مجلس شورى الدّولة، إلا ما استثنيَ منها بنصّ آخر. ويشمل هذا الأمر حكما التشكيلات القضائية وأي قرارات أخرى يتخذها المجلس في إطار صلاحياته في السهر على المرفق القضائي واستقلال القضاء، وإن كان من الملائم أكثر الإشارة حرفيا إلى شمول الطعون أي قرارات فردية أو تنظيمية يتخذها المجلس في هذا الشأن. وبذلك، يكون المشروع قد اعتمد جزئيا مفهوم القاضي الطبيعي، متجاوزًا حساسيّة قضائيّة قطاعيّة قوامها رفض إخضاع قرارات مجلس القضاء العدلي للمحكمة الإدارية. إلا أنّ اعتماده هذا المفهوم لم ينسحب على القرارات التأديبيّة (والتي تخضع لمراجعة أمام المجلس الأعلى للتأديب ) والقرارات المتصلة بإعلان عدم الأهلية (والتي تخضع لمراجعة أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز)، والتي هي ربما القرارات الأخطر. وكان المجلس الدستوري قد اعتبر في قرار سابق له رقم 5/2000 تاريخ 27/06/2000 أن تجريد مجلس شورى الدولة من صلاحيّة النّظر في القرارات التأديبيّة إنّما يضعف من الضمانات القضائيّة. وهنا نكون أمام حساسيّة قضائية أخرى تُضاف إلى الحساسيّة القضائيّة حيال تعيين أعضاء من خارج القضاء، على نحو حالتْ دون التزام النصّ بكامل المعايير الدولية.
استقلاليّة هيئة التفتيش القضائي
هنا، كرّس مشروع القانون استقلاليّة هيئة التفتيش القضائي، من خلال إلغاء الإشارة إلى أنها تخضع لإشراف وزير العدل. وهنا عالج المشروع أحد أخطر التوجهات في اقتراح لجنة الإدارة والعدل، التي كانت تركت للسلطة التنفيذية تعيين كامل أعضاء هيئة التفتيش القضائي من دون أيّ دور لمجلس القضاء الأعلى. وعليه، بموجب المشروع، بات تعيين المفتّشين العامّين والمفتّشين العاديّين يتمّ بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل من ضمن لائحة يرفعها المجلس الأعلى للقضاء ومكتب مجلس شورى الدولة ومكتب ديوان المحاسبة كل في ما خصّه. إلا أنه هنا أيضا، لم يلحظ المشروع أيّ آلية لتجاوز مماطلة الحكومة إجراء التعيينات المذكورة.
الحريات والحقوق الأساسية الملازمة للقضاة
إلى جانب ما تقدّم، تناول مشروع القانون الحريّات والحقوق الملازمة للقضاة.
فمن جهة أولى، أعاد مشروع القانون التأكيد على أنّ القاضي يمارس دوره باستقلالية بما يتعلّق في إجراء بمهامه القضائية، ضمائاً لحقوق المتقاضين وحرياتهم. وقد أعاد النص التأكيد على الاستقلالية في مواضع عدة منها: تمتّع القضاة بجميع الحقوق والحريات المكرسة في الدستور والقوانين المرعية الإجراء، ولا يحدّ من هذه الحقوق والحريات إلا ما تفرضه استقلالية القضاء ومناقبيته، وعدم إمكانية تعيين القضاة أو نقلهم أو تقييمهم أو تأديبهم أو فصلهم إلا وفقا لأحكام هذا القانون.
ومن جهة ثانية، أعلن مشروع القانون للمرّة الأولى في تاريخ القضاء اللبناني “مبدأ عدم جواز نقل القاضي إلا برضاه”. ولم يستثنِ من هذا الحق إلا حالتين: صدور عقوبة تأديبية بحقه باستثناء التنبيه أو اللوم، وانقضاء 5 سنوات من تعيينه في مركز معيّن. وفي هذه الحالة الأخيرة، اشترط النص أن يتمّ نقل القاضي إلى مركز موازٍ للمركز الذي يشغله أو أعلى. وهنا أيضا صحّح مشروع القانون إحدى الثغرات الكبرى في اقتراح قانون لجنة الإدارة والعدل والذي كان حصر هذا المبدأ في النقل خارج التشكيلات القضائية.
ومن جهة ثالثة، أعلن مشروع القانون للمرّة الأولى أيضا تمتّع القضاة بحرية التعبير والتجمع وتأسيس جمعيات أسوة بجميع المواطنين. وقد اعتمد لهذه الغاية حرفيّة ما ورد في وثيقة بنغالور للأخلاقيات القضائية والتي تمّ إقرارها كوثيقة مرجعيّة في الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة. فقد جاء فيها حرفيا: “يتمتع القاضي بحرية التعبير والعقيدة والتجمع والانتساب إلى جمعيات، ولكن يتعين عليه دائماً، عند ممارسته تلك الحقوق، أن يتصرف بشكل يحافظ فيه على هيبة المنصب القضائي وحياد السلطة القضائية واستقلالها ومبادئ أخلاقيات القاضي”. والمفيد في الإحالة إلى بنغالور هو الاستفادة من كل الشروحات الدوليّة لهذه المادة بهدف إحداث توازن بين حرية القاضي ووجوب المحافظة على حياديّته واستقلاليّته. وقد ورد في المشروع فقرة ثانية حظرتْ على القضاة “ممارسة العمل السياسي والمشاركة بأي شكل من الأشكال في أي تجمع أو جمعية أهدافها تتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان والعدالة والمساواة”. ورغم أهمية هذه النصوص لجهة تكريس الحرية ضمن ضوابط معقولة مسلّم فيها دوليّا، تمّ إضافة فقرة مفادها أنه “يتوجب على القاضي الذي يرغب بالظهور على وسائل الإعلام أن يطلع رئيس المجلس الأعلى للقضاء بذلك قبل 48 ساعة على الأقل”.
وإذ تُثير هذه الفقرة مخاوفَ من أن يتحوّل الإعلام المُسبق إلى وسيلةٍ لممارسة ضغوط لتقييد هذه الحريّة بصورة أو أخرى، يبقى هذا التخوّف محدودًا في ظل إعلان مبدأ الحريّة بصورة واضحة من دون لبس وبالاستناد إلى المعايير الدولية، مما يجعل أيّ ضغط يمارس في هذا الخصوص بمثابة إكراه معنوي لمنع القضاة من ممارسة حريتهم يعاقب عليه القانون.
ومن جهة رابعة، أعلن مشروع القانون مبدأ المساواة بين القضاة في أكثر من مكان. فعدا عن إعادة الاعتبار للمستشارين والفئات الشابة من خلال فتح باب الترشيح والانتخاب أمامهم أسوة برؤساء الغرف، تكرّس هذا المبدأ أيضا في نص صريح جاء فيه حرفيّا: “يُحظر إجراء أي تمييز من أي نوع في التشكيلات القضائية، ولا سيما التمييز على أساس العنصر أو الجنس أو الدين أو المذهب”. وبالطبع، تنسجم هذه المادة مع المادة 95 من الدّستور التي تمنع “تخصيص أي مركز قضائيّ أو إداري لأيّ طائفة” وتغلب الكفاءة والاختصاص على أيّ اعتبار طائفي. ويُرجى تاليّا أن تشكّل هذه المادّة مدخلًا لتجاوز تخصيص المراكز الطائفية. كما هدف مشروع القانون إلى التخفيف من الممارسات التمييزيّة بين القضاة والتي تقوم على تعيينهم في لجان، بحيث حصر التعيين في حدود لجنة واحدة ولمدة 5 سنوات على الأكثر في اللجنة ذاتها، بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء المبنيّة على تقرير لجنة التقييم.
كما برز مبدأ المساواة في إخضاع جميع القضاة من دون استثناء للتقييم الدوري.
ومن جهة خامسة، صحّح مشروع القانون إحدى أخطر المواد في القانون الحالي والتي تمّ تطبيقها تعسّفا على نحو يُجيز عزل قضاة من دون محاكمة عادلة مع حرمانهم من حقّ المراجعة أمام مرجع قضائي محايد، وهي المادة الشهيرة 95 من قانون تنظيم القضاء العدلي الحالي. وقد تمثّل التصحيح في تعريف حالات عدم الأهلية حيث حصرت في إثنتين: حالة فقدان الأهلية الجسدية أو النفسية وعلى أن يتم إثباتها في تقرير خبير، وحالة الحصول على أدنى تقييم لمرتين متتاليتين. وأحيط تعديل المادة على هذا الوجه بأن يتم إعلان عدم الأهلية بأكثرية معززة في التفتيش القضائي كما في مجلس القضاء الأعلى وأن يخضع إعلان عدم الأهلية لمراجعة قضائية أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز. كما فتح المشروع أمام القاضي المعلنة عدم أهليته إمكانية الطعن أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، وذلك بخلاف القانون الحالي الذي يحرمه من أي حق من حقوق المراجعة القضائية.
ومن جهة سادسة، كرّس مشروع القانون حقّ التقاضي والمحاكمة العادلة. يتأتّى هذا الأمر من فتح باب الطعن في قرارات المجلس أمام القاضي الطبيعيّ (مجلس شورى الدولة) كما سبق بيانُه، وإن تمّ تضييق هذا الحق بما يتّصل بالطعن في القضايا التأديبية وفي مسألة إعلان عدم الأهلية التي هي القضايا الأكثر خطورة، كما سبق بيانه.
كما يسجّل للمشروع إصلاحات عدّة في القضايا التأديبيّة أهمها الآتية:
أولا، إنه أعاد تعريف الخطأ التأديبيّ انطلاقا من التعريف الذي كانت اقترحته المفكرة في 2018 على النحو الآتي: “كل إخلال بواجبات العمل القضائي وكل عمل أو امتناع عن عمل من شأنه أن يمس مبادئ الأخلاقيّات القضائيّة أو أن يزعزع الاحترام والثقة بالعمل القضائيّ المرفق العام للقضاء يعدّ مخالفة تأديبيّة قابلة للملاحقة”. وعليه، يكون المشروع قد جرّد الخطأ التأديبيّ من ثقل مفاهيم مطاطة مثل الشرف والكرامة والأدب، وهي المفاهيم التي حذّرت لجنة البندقية من خطورتها. ولئن لم يؤخذ باقتراح المفكرة بتفصيل المخالفات التأديبية بعد تصنيفها وفق خطورتها، فإنه بالمقابل ألزم مجلس القضاء الأعلى نشر الحيثيّات الهامّة في القرارات التأديبيّة على نحو يسمح بتحديد مفهوم الخطأ التأديبي ومدى خطورته، على ضوء الاجتهاد القضائي. كما أضاف مشروع القانون بناء على توصية لجنة البندقية وتيمّنا باقتراح المفكرة في 2018 وجوب تناسب العقوبة مع خطورة الخطأ التأديبي.
ثانيا، حصر إمكانية وقف القاضي عن العمل بالمجلس التأديبي ومجلس القضاء الأعلى مع تجريد وزير العدل من هذه الصلاحية. وإذ ضمن النصّ هنا للقاضي الموقوف عن العمل تقاضي راتبه كاملا طوال فترة توقيفه، فإنه منعه بالمقابل من الطعن في هذا القرار على نحو يعدّ انتقاصًا من مبادئ المحاكمة العادلة.
ثالثا، أدخل المشروع للمرّة الأولى إمكانيّة تحويل المحاكمة التأديبية إلى محاكمة علنية بطلب من القاضي موضوع الملاحقة أو من هيئة التفتيش القضائيّ، عملا بمبدأ علانية المحاكمة، وفق ما كانت اقترحتْه المفكّرة في 2018.
ومن جهة سابعة، نصّ الاقتراح على ضمانات للقضاة تحول دون تعسف الرؤساء القضائيين في استخدام سلطتهم لتوجيه ملاحظات. ومن أهمّ الضّمانات التي تمّ إدخالها في هذا المجال، عدم جواز توجيه ملاحظة في هذا الخصوص في حال انقضاء شهر من أخذ العلم بموضوع الملاحظة فضلا عن وجوب سحب الملاحظة حكماً من ملف القاضي في حال عدم تعرّضه لأي ملاحقة تأديبيّة أو جزائيّة خلال مدة سنة من تاريخ تبلغها. وكان يجدر هنا أن يضاف إلى الضمانات عدم جواز اتخاذ أي ملاحظة من دون الاستماع مسبقًا إلى القاضي المعني بها.
ومن جهة ثامنة، نصّ الاقتراح على إنشاء جمعية عمومية للقضاة تنعقد سنويا، مع منح مجلس القضاء الأعلى أو أي مجموعة من 50 قاضيا إمكانية الدعوة لجمعية مماثلة. ومن شأن إنشاء هذه الجمعية أن يسمح للقضاة بالتداول جماعيا في شؤون القضاء، وهو يعوّض عن غياب جمعيات عمومية على صعيد محاكم الاستئناف.
بالمقابل، شاب مشروع القانون ثغرةٌ تتّصل بعدم تنظيم أصول التّرشّح للمراكز القضائيّة الهامّة، وذلك خلافا لما كانت لجنة البندقية شدّدت عليه. ومن الممكن تجاوز هذه الثغرة، من خلال تحميل مجلس القضاء الأعلى تنظيم أصول الترشّح لأي مركز قضائي يتطلب حيازة الدرجة السادسة وما فوق. كما بإمكان مجلس القضاء الأعلى أن يتجاوز هذه الثغرة في نظامه الخاص.
الحقّ بتولّي الوظيفة القضائيّة على قدم المساواة
في هذا الخصوص، عمل مشروع القانون على وضع شروط معقولة لولوج القضاء. وقد اعتبر أن مباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائيّة تبقى هي الطريق الاعتيادية، بدليل أنّه وضع أنّه لا يجوز أن يتعدى عدد القضاة الذي يجري تعيينهم من خارج المعهد (من بين المحامين أو المساعدين القضائيين) نسبة 10% من عدد القضاة العاملين في أي حين.
وقد أخذ مشروع القانون هنا بتوصيّات منتدى العدالة لجهة إلغاء السنة التحضيرية لما تفرضه من قيود غير مبررة لولوج الوظيفة القضائية. كما تضمن نصا من شأنه أن يفتح الباب أمام ترشح أشخاص معوّقين كلما ثبت بموجب شهادة من اللجنة الطبية الرسمية أنّه سليم من الأمراض والعاهات التي تحول دون قيامه بأعباء وظيفته، وذلك تيمنا بما ورد في اقتراح المفكرة في 2018. وإذ أبقى مشروع القانون على صلاحية مجلس القضاء الأعلى في استبعاد مرشّحين بناء على مقابلة شفهيّة خلافًا لما ورد في اقتراح “المفكرة”، فإنّه فتح بالمقابل باب الطعن في قرارات الاستبعاد من المباراة، على نحو يؤمل منه الحدّ من الاستنسابية في ممارسة هذه الصلاحية.
كما ألغى مشروع القانون موانع الطعن للراسبين في مباريات الدخول إلى القضاء أو إلى معهد الدروس القضائية، والمعلنة عدم أهليّتهم من بين القضاة المتدرجين، على نحو يكرس حقّ التقاضي.
ضمان الطّاقات القضائيّة اللازمة
فضلا عما تقدم، تضمن مشروع القانون موادّ عدة من شأنها أن توفّر الطاقات القضائية اللازمة في موازاة العمل على تعزيزها ومنع هدرها، بما يضمن للمواطنين كافة التمتع بحقوقهم بالتقاضي إلى قاض كفؤ وفاعل.
فمن جهة أولى، أولى مشروع القانون مجلس القضاء الأعلى مهمة تحديد حاجة القضاء العدلي من القضاة الجدد بحسب معايير واضحة على أن يعلن وزير العدل عن المباراة فور تأمين الاعتمادات اللازمة.
ومن جهة ثانية، كرّس مشروع القانون حقّ القاضي بالتكوين المستمر وواجبه في الخضوع له ضمن معهد الدروس القضائية. وقد تمثل ذلك في تخصيص مركز لمدير التكوين المستمرّ والبحث القضائيّ. ومن شأن ذلك أن يضمن التطوّر العلميّ للقضاة وأن يعزّز التواصل فيما بينهم والتفكير الجماعي في توجهات الاجتهاد القضائي.
ومن جهة ثالثة، أوجب مشروع القانون تكوين ملف رسميّ لكلّ قاضٍ فضلا عن التقييم الدوري للقضاة (كل أربع سنوات)، مع إمكانية إعلان عدم أهلية القاضي في حال حصل على أسوأ درجات التقييم لمرتين متتاليتين.
ومن جهة رابعة، حدّ مشروع القانون من قيام القضاة بنشاطات غير قضائيّة. وهو إذ استثنى التدريس، فإنه وضع حدّا أقصى له ب 120 ساعة في السنة خارج أوقات الدوام الرسمي وبعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء.
ومن جهة خامسة، حصر الانتداب في التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية والهيئة العليا للتأديب. كما منع تعيين أيّ من القضاة في أكثر من لجنة أو هيئة إدارية ذات صفة قضائية، وذلك بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء المبنية على تقرير لجنة التقييم، ولفترة خمس سنوات على الأكثر في اللجنة ذاتها.
النيابة العامة التمييزية
هنا، نسجّل أحد أهمّ الإصلاحات تيمّنا بما كانت المفكّرة اقترحته وما كانت نجحت وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم في إدراجه في تعليقها على اقتراح قانون لجنة الإدارة والعدل. هذا الإصلاح يتمثل في ضبط السلطة الهرمية التي منحها قانون تعديل أصول المحاكمات الجزائية في 2001 للنائب العام التمييزي، والتي كان أدخلها آنذاك النائب العام التمييزي عدنان عضّوم.
يتأتى هذا الأمر من ضوابط عدة أهمها الآتية:
- أن حُصرت تعليمات النائب العام التمييزي الخاصة بتعليمات خطية ومعلّلة وأن يتم إيداعها في ملف القضية المعنية على نحو يحمل النائب العام التمييزي مسؤولية التعليمات التي يعطيها ويحد من استنسابية ممارسة هذه السلطة، كما يخوّل المتقاضي المعني ممارسة حقوقه كافة على ضوء اطلاعه على التعليمات المودعة في الملفّ.
- إن تعليمات النائب العام التمييزي تمارس بالصورة التسلسلية، بمعنى أن توجه التعليمات إلى المحامين العامين ليس مباشرة إنما من خلال النواب العامين المختلفين، مما يسمح لهؤلاء من ممارسة دور ما في الحدّ من الاستنساب.
بالخلاصة، يكتسي مشروع القانون أهمية خاصّة من ثلاث زوايا:
أولا، إنّ أغلب الإصلاحات الواردة فيه استندت إلى أعمال منتدى العدالة التي عكست حالة النضج المجتمعي في هذا الشأن. ومن شأن ذلك أن يضفي الطابع التشاركيّ عليه وأن يخفّف من وطأة أيّ ممانعة حيال تنفيذه. فنحن أمام إصلاحات سلكت طريقها في النفوس نتيجة النقاش العامّ واعتماد الآليات التشاركية المناسبة قبلما تسلك طريقها إلى النصوص، ولئن أتت أقل مما يأمل البعض فلها بالمقابل (أقله معظمها) ميزة انبثاقها على الوجه الذي تقدم مما يجعلها أكثر ثباتا وقوة،
ثانيا، إذ التزم المشروع عموما بالمعايير الدولية، فإنه شذّ عنها بالمقابل في بعض جوانبه التي اتّصلت في أغلبها بحساسيّات قضائية قطاعية أو بحساسيّات سياسية أو طائفية. ويؤمل تاليا أن يولّد المشروع بيئة جديدة للقضاة تسهم في توطيد أواصر الثقة فيما بينهم وثقة المجتمع بهم، على نحو يضعف هذه الحساسيات ويولد بيئة أكثر قابلية لإصلاحات لاحقة. ولربّما ترشح المحطة الأخيرة في مجلس النواب عن توافقات جديدة تؤدي إلى تعزيز طابعه الإصلاحي سواء لجهة مزيد من الضمانات لاستقلالية القضاء أو من الضمانات للمتقاضين. والأهم هو أن تعمل الهيئات القضائية والجهات المعنية على أن يصار إلى مواكبة النص القانوني الذي قد يقره مجلس النواب بممارسات مثلى في مجالات عدة أهمها التفتيش والتقييم وآليات الترشيح. ولا نبالغ إذا قلنا أن نجاح القانون سيرتبط بشكل مباشر في نجاح إرساء ممارسات فضلى في هذا الخصوص.
ثالثا، أخيرا، يأتي المشروع في ظلّ تعهد السلطات العامة في إنجاز الإصلاحات اللازمة لتعزيز مؤسسات الدولة بل في وقت يسوده شعور عامّ بضرورة إنجاز الإصلاحات من أجل استعادة أمل اللبنانيين بوطنهم وغدهم، بعد عقود شهدت تدميرا ممنهجا لمؤسّسات الدولة.
ملاحظات نهائية وتوصيات
عملا بكل ما تقدّم، وإذ ترحب المفكرة القانونية مجددا بمشروع القانون والأهم انخراط الحكومة في الإصلاح القضائي عملا بوعودها في البيان الوزاري، فإنها تبدي بالمقابل التوصيات الآتية بهدف تعزيز مواءمة المشروع مع مبادئ استقلالية القضاء. وهي الآتية:
- تخويل الأعضاء الحكميين (3) والمنتخبين (5) تعيين العضوين المتبقيين في مجلس القضاء الأعلى، وذلك بدلا عن السلطة التنفيذية، بما يتوافق مع توصيات “منتدى العدالة”،
- تكليف مجلس القضاء الأعلى إرساء أصول للترشّح للمراكز القضائية التي تتطلب حيازة درجة ستة وما فوق، بما يتوافق مع توصيات لجنة البندقية لجهة إرساء آليات واضحة لتغليب معيار الكفاءة،
- تخفيض الأكثرية المطلوبة في مجلس القضاء الأعلى لتجاوز أي اختلاف مع وزير العدل في شأن التشكيلات القضائية من أكثرية 7 أعضاء إلى الأكثرية المطلقة عملا بتوصيات لجنة البندقية،
- تأكيد قابلية جميع قرارات مجلس القضاء الأعلى بوصفه هيئة إدارية، الفردية والتنظيمية والتأديبية للطعن أمام مجلس شورى الدولة عملا بمبدأ القاضي الطبيعي،
- إلغاء موجب الإبلاغ المسبق للظهور الإعلامي تحسبا لأي ضغط قد يمارس على حرية التعبير،
- إيجاد آلية لتجاوز التعطيل الحكومي في تعيين أعضاء المجلس الحكميين أو المفتشين العامين والمفتشين لدى هيئة التفتيش القضائي، كأن يعطى مجلس القضاء الأعلى سلطة الحسم في حال عدم صدور مراسيم التعيين خلال مدة معينة.