أوامر التهجير الإسرائيلية من الجنوب والبقاع: استباحة المدنيين بحجّة حمايتهم


2024-11-02    |   

أوامر التهجير الإسرائيلية من الجنوب والبقاع: استباحة المدنيين بحجّة حمايتهم
رسم رائد شرف

منذ بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي توسيع عدوانه على لبنان في 23 أيلول 2024، عمد إلى تهجير عدد كبير من سكّانه، من خلال إصدار المتحدث باسمه إنذارات على وسائل التواصل الاجتماعي تدعوهم إلى مغادرة قراهم ومدنهم في جنوب لبنان وبقاعه وضاحية بيروت الجنوبية. وقد بلغت نسبة الأراضي اللبنانية الخاضعة لما تسمّيه إسرائيل أوامر إخلاء، 25% بحسب مديرة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الشرق الأوسط، حتى تاريخ 15 تشرين الأول 2024، قبل أن تقع مناطق أخرى إضافية تحت خطر الإنذارات. وقد أدّى العدوان الإسرائيلي على لبنان والإنذارات التي رافقته إلى تهجير ما يُقارب مليون و200 ألف شخص قسرًا وفقًا للحكومة اللبنانية و834,746 وفقًا لمنظمة الهجرة الدولية.

استخدم الجيش الإسرائيلي هذه الإنذارات التي شكّلت بمعظمها منشورات ذات طبيعة دعائية مناهضة لحزب الله أكثر منها تحذيرات قانونية، لترويع الناس وترهيبهم، مترافقة مع غاراته اليومية المستمرّة على كافة الأراضي اللبنانية التي استهدفت المدنيين ومن دون سابق إنذار. وعلى خلاف الإنذارات التي تصدر لسكّان الضاحية الجنوبيّة بوجوب إخلاء مبانٍ محددة والتي شرحنا في مقال سابق كيف خالفت قواعد القانون الدولي الإنساني، توجّهت معظم الإنذارات المتعلّقة بالجنوب والبقاع إلى كافّة السكّان في البلدات والمدن المعنية. فكانت وسيلة فعالة بالنسبة للجيش الإسرائيلي لتهجير آلاف السكّان، ما قد يشكّل جريمة تهجير قسري. 

فكيف استخدم الجيش الإسرائيلي هذه الإنذارات لتهجير السكّان في لبنان وتحوير قواعد الحرب لفرض عقوبة جماعية عليهم؟ يأتي هذا المقال ضمن مسعى “المفكرة القانونية” لتوثيق هذه الجرائم الإسرائيلية خلافًا للدعاية التي يسعى الاحتلال الإسرائيلي للترويج لها حول التزامه بالقوانين الدولية وقوانين الحرب.

إنذاران شاملان وتهجير جماعي في يوم واحد

فجر الإثنين في 23 أيلول 2024، استيقظ سكّان عدد كبير من بلدات جنوب لبنان على قصف عنيف غير مسبوق استهدف عددًا من القرى وجوارها، قبل أن يتلقّى البعض منهم اتصالات هاتفية من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي على هواتفهم المحمولة أو تلك الخاصّة بمنازلهم ومؤسساتهم التجارية. كان مضمون هذه الاتصالات رسالة مسجّلة تطلب من المتلقّي مغادرة المكان فورًا من دون منح أي مهلة أو تحديد أي طريق أو مكان آمن للتوّجه إليه.

وعلى وقع الغارات التي كانت تنهال على سكّان القرى الجنوبية، نشر الجيش الإسرائيلي  تحذيرًا في الساعة 8:00 صباحًا يُطالب سكان جميع القرى في لبنان بإخلاء المباني التي يستخدمها حزب الله لتخزين أسلحة أو وسائل قتالية والابتعاد عنها فورًا. لم يحدّد الإنذار أي مناطق معيّنة في لبنان، مفترضًا علم السكّان بمكان الأبنية التي قد يستخدمها حزب الله لعملياته العسكرية. وما هي إلّا دقائق حتى تصاعد القصف الإسرائيلي للمزيد من القرى الجنوبية بشكل عنيف وواسع ومتواصل ولمدة ساعات عدّة، مدمّرًا الطرقات والبيوت على رؤوس من فيها. 

تسبّب ذلك بحركة سير كثيفة إثر نزوح عشرات آلاف المواطنين على عجل، الأمر الذي منع العديد منهم من توضيب حاجياته الأساسية، فيما بقي آخرون في قراهم لعدم قدرتهم على النزوح. وبقيت الطائرات الإسرائيلية تلاحق النازحين حيث اعتدتْ على عددٍ من السيارات وجوانب الطرقات الرئيسية. فتحوّل درب النزوح إلى درب جلجلة امتدّت عشرات الساعات قبل وصول النازحين إلى أماكن آمنة نسبيًّا. وقد اتّخذ بعض النازحين وجهات عشوائية شمالًا بخاصّة لمن لم يكن لديه أماكن آمنة محددة مسبقًا للنزوح إليها. وبينما توجّه بعضهم إلى البقاع، سرعان ما نشر الجيش الإسرائيلي في الساعة 14:53 تهديدًا جديدًا موجّهًا هذه المرّة إلى سكان البقاع اللبناني بإخلاء المباني التي تحتوي على أسلحة لحزب الله خلال مهلة ساعتين مع خريطة يظهر فيها قسم واسع من البقاع بالأحمر. وبالفعل بدأت الغارات تنهمر على قرى البقاع قبل دقائق قليلة من انقضاء المهلة. وبلغ عدد الشهداء في ذلك اليوم 558 شهيدًا غالبيتهم العظمى من المدنيين.  

من تهجير إلى آخر على وقع الإنذارات

بعد هذا اليوم الأكثر دموية في تاريخ لبنان الحديث، تواصلت الغارات الإسرائيلية على أماكن مختلفة في البقاع والضاحية الجنوبية وجنوب لبنان، معظمها بدون أية إنذارات مسبقة تحدّد الأمكنة المستهدفة، أدّت إلى وقوع مجازر عدّة في حق المدنيين.

وقد تسبّب التهجير المزدوج من الجنوب والبقاع، إلى نزوح عددٍ كبير من العائلات باتجاه الضاحية الجنوبية لبيروت. ولم تنقضِ أيام حتى باشر جيش الاحتلال الإسرائيلي تهجير قاطني عدد كبير من أحيائها من خلال إنذارات بدأ توجيهها في 27 أيلول 2024 وتتابعت بشكل يومي، حتى باتت الضاحية شبه خالية، بعدما اضطر معظم السكّان إلى إخلائها فيما لا يزال آخرون صامدين فيها. وأُجبر النازحون الذين نزحوا إليها على مواصلة مسلسل التهجير بحثًا عن محطة نزوح أخرى تأويهم من البطش الإسرائيلي، بعضهم للمرة الثالثة.

وفي الجنوب، استمرّ الجيش الإسرائيلي بإصدار الإنذارات محذّرًا سكّان جنوب لبنان من التحرّك بالمركبات من منطقة الشمال إلى منطقة جنوب نهر الليطاني. ولغاية 31 تشرين الأوّل، أصدر الجيش 31 إنذارًا بالإخلاء لسكّان أكثر من مئة مدينة وبلدة في جنوب لبنان بشكل محدد، آمرًا السكّان بالابتعاد إلى شمال نهر الأوّلي، ما أدّى إلى حركة نزوح جديدة لسكّان هذه البلدات وللنازحين الذين لجأوا إليها. ويبعد نهر الأوّلي عن الحدود مع فلسطين المحتلة 58 كيلومترًا، وتقع في جنوبه محافظتا الجنوب والنبطية اللتين تبلغ مساحتهما حوالي 2000 كيلومتر مربّع، وهو ما يعادل حوالي خمس مرات ونصف مساحة قطاع غزة الذي سبق أن اعتبرت مفوّضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أنّ إصدار أوامر إخلاء لشماله يعتبر جريمة ضدّ الإنسانية وانتهاكًا للقانون الدولي الإنساني. ولم يكتفِ جيش الاحتلال بذلك، إذ نشر إنذارًا للمستجمّين والمتواجدين على شاطئ البحر وكل من يستعمل القوارب للصيد ولأي غاية أخرى، أمرهم فيه بالابتعاد عن الشاطئ جنوب نهر الأوّلي. 

أمّا البقاع، فقد تعرّض في الأسابيع الماضية إلى مئات الغارات التي تسبّبت أيضًا بمجازر دموية بحقّ المدنيين، وبتدميرٍ للمنشآت المدنية بينها محيط مستشفى المرتضى في بعلبك ما أدى إلى خروجه عن الخدمة. تمّ ذلك بدون أي سابق إنذار وبدون تحذير. وبالإضافة إلى مئات الاعتداءات هذه، نشر جيش الاحتلال بعض الإنذارات إلى سكّان عدد من البلدات البقاعية، حدّد فيها أبنية للاستهداف على الخريطة قبل أن يقصفها.

وضمن هذه الفترة، واظب جيش الاحتلال على نشر تحذيرات عامّة موجّهة إلى جميع سكّان القرى اللبنانية الذين أخلوا منازلهم بعدم العودة إليها حتّى إشعار آخر، وذلك من دون أن يحدّد هذه القرى أو أن يُحدّد أية مناطق آمنة أو خارجة عن نطاق العمليات العسكرية.

إنذارات لمدينتي صور وبعلبك المكتظّتين بالسكّان والنازحين

بعد ذلك، اعتمد جيش الاحتلال نمطًا مختلفًا من الإنذارات تغطّي مناطق مُدنية واسعة من دون تحديد أبنية معيّنة، وذلك في مدينتيْ صور وبعلبك اللتين تضمّان كثافة سكانية واستقبلتا العديد من النازحين من المناطق المهددة والمستهدفة سابقًا. وقد شملت المناطق المهدّدة منشآت وبنى تحتية مدنية، مثل المدارس والمستشفيات، فضلًا عن مواقع أثرية وتاريخية موضوعة على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المناطق ليست قريبة من مواقع العمليات العسكرية حيث تجري الاشتباكات بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله، بل تبعد عنه عشرات الكيلومترات، وبالتالي لا يوجد أي ضرورة عسكرية لتهجير كافّة سكّانها.

ففي صباحي يومي 23 و28 تشرين الأول عند الساعة 8:07 و11:51 تباعًا، نشر إنذاران يضعان ضمن دائرة الاستهداف على الخريطة منطقتين سكنيتين كبيرتين في قلب مدينة صور، تتضمنان عشرات الأحياء، مع تحديد اتجاه عام لإخلائها. وترافق هذا الإنذار مع خطاب إبادي إعلامي يهدّد المدينة وأهلها. بلغت مساحة المناطق المستهدفة 406 آلاف متر مربّع من دون تحديد أيّ مبنى معيّن للاستهداف. وهو ما دفع سكّان المدينة والنازحين إليها إلى الإخلاء بسرعة، قبل أن تبدأ موجة الغارات التي دمّرت مبانٍ سكنية كثيرة. واستمرّت الغارات على صور في الأيام التالية لصدور الإنذار، من دون صدور إنذارات إضافية، وفي مناطق خارجة عن أماكن التهديد في الخريطة المنشورة.

بالطريقة عينها، أنذر جيش الاحتلال في صباح يوم 30 تشرين الأول 2024 عند الساعة 11:06 سكّان مدينة بعلبك وبلدتي دورس وعين بورضاي وإيعات بلدات أخرى شملتها خريطة التهديد الحمراء من دون تسميتها، وقد حدّد في إنذاره طرقات للخروج من المدينة. وتبلغ مساحة هذه المناطق البقاعية حوالي 45 كيلومترًا مربعًا وفقًا لمحافظ البقاع ولا يزال يقطن فيها حوالي 100 ألف شخص، من ضمنهم أكثر من 15 ألف عائلة و5 آلاف عائلة نازحة من مناطق أخرى. أدّى ذلك إلى حالة من الذعر لدى السكّان وإلى حركة نزوح كثيفة جديدة. وقد خرج السكّان والنازحون من المناطق المهدّدة على عجل وفي ظروف خانقة نظرًا لاكتظاظ المنطقة، وفي ظروف مأساوية، حيث قضى 2000 منهم ليلتهم في سياراتهم في العراء وسط معاناة الأطفال جرّاء الجوع والصقيع. 

باشر الطيران الحربي الإسرائيلي قصف المنطقة المهددة بعد ما يُقارب أربع ساعات من الإنذار. ليعود في الليل، بعد جولة الغارات العنيفة، ويحذّر سكان القرى من العودة إلى مناطقهم. قبل أن يعود وينشر في صباح اليوم التالي إنذارًا يتضمّن تهديدًا باستهداف المنطقة المحددة نفسها في الإنذار الأوّل، ليستمرّ القصف على المدينة في ذلك اليوم، وفي اليوم الذي يليه. ولم يكتفِ الاحتلال باستهداف المناطق المحددة في الإنذار بل تجاوزها إلى مناطق مجاورة، ما تسبّب بمجازر في حقّ المدنيين في بلدات شمسطار وبدنايل وبيت صليبي، أدّت إلى سقوط 29 شهيدًا، بالإضافة إلى ارتكابه مجزرة في بلدة سحمر في البقاع الغربي حيث سقط 9 شهداء.

تحوير الغاية الحمائية للإنذارات 

تؤشّر هذه الإنذارات إلى محاولة إسرائيل إعطاء غطاء قانوني مخادع لعمليات التهجير القسري وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية الأخرى التي ترتكبها في لبنان، على غرار ما حاولت أن تفعل في إبادتها للفلسطينيين في غزة. وكانت مسألة عدم قانونية إنذارات الإخلاء في غزة حاضرةً بقوّة في دعوى الإبادة الجماعية التي قدّمتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وفي تقارير مقرّري الأمم المتحدة حول الوضع في غزة، حيث اعتُبرت أداةً استخدمتها إسرائيل من أجل تنفيذ الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين. 

وبالعودة إلى التحذيرات التي نشرها جيش الاحتلال في مناطق الجنوب والبقاع، نجد أنّها تفتقر إلى الشروط القانونية التي يفرضها القانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة. فتلك الإنذارات، ناقضت ما نصّت عليه المادة 57 من البروتوكول الإضافي الأوّل لاتفاقيات جنيف حول وجوب توجيه إنذار مسبق وبوسائل فعّالة من قبل مخطط الهجوم أو من يتّخذ القرار بشأنه، في حالة الھجمات التي قد تمسّ السكان المدنیین. ويستند ذلك إلى مبدأ الوقاية الذي يوجب اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة عمليًا بهدف تجنّب الأضرار المدنية (القاعدة 15 من قواعد  القانون الدولي الإنساني العرفي).

وشرط فعالية الإنذار هذا يقتضي توفّر عوامل عدّة في التحذير، أهمّها توقيته، وإمكانية المدنيين الفعلية للاستجابة له، بالإضافة إلى وجوب تأمين طرقات آمنة للإخلاء والأخذ في الحسبان كيف سينفذ المدنيون التعليمات لضمان سلامتهم. وهو ما أكّدت عليه لجنة التحقيق التابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة التي وضعت تقريرًا بشأن الانتهاكات القانونية في إطار حرب تموز 2006. في المقابل، يتبيّن أنّ ظروف الإخلاء بفعل الإنذارات في الجنوب والبقاع كانت مأساوية. 

ونجد أنّ معظم الإنذارات التي وُجّهت إلى مناطق الجنوب والبقاع صدرت بواسطة منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي مع خرائط غير واضحة بشكل لا يسمح لجميع الناس بفهمها، خصوصًا هؤلاء المتقدمين في السن أو الذين لا إمكانية لهم للوصول إلى هذه الوسائل أو لا يجيدون التعامل معها أو قراءة الخرائط. ويعتبر خبراء قانونيون أنّ التحذير يكون عديم الفائدة إذا لم يكن من الممكن فهمه، وإذا لم يعرف المدنيون كيفية التصرّف بناءً على هذا التحذير بسبب طبيعته العامة أو إذا تم إصداره في وقت مبكرٍ للغاية. فبعض الإنذارات في الجنوب والبقاع صدر في ساعات الصباح الباكر، مثل إنذار مدينة صور في 23 تشرين الأول، بما لا يُتيح لجميع السكّان الاطلاع عليها ضمن وقت كافٍ، ما دفع عناصر الدفاع المدني اللبناني إلى التجوال في شوارع صور طالبين من السكّان إخلاءها بواسطة مكبّرات الصوت.

ويعتبر منح الوقت الكافي للسكّان من أجل مغادرة أماكن التحذير والاحتماء في مكان آمن شرطًا من شروط فعالية الإنذار وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر. وقد منحت بعض الإنذارات وقتًا غير كافٍ للناس للمغادرة في الجنوب والبقاع، بخاصّة بالنسبة لذوي الظروف الخاصّة، مثل كبار السن وذوي الإعاقات الحركية والمرضى ونزلاء المستشفيات والأطفال، والذين فرض القانون تحديد الخطوات التي يجب اتخاذها لمساعدتهم، وفقًا لما أكّد عليه قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قضية إيسايفا ضد روسيا في 24 آذار 2005. وفي بعض المنشورات، حُدّدت مهلة الإخلاء بساعتين، فيما تضمّن معظمها وجوب إخلاء المنازل فورًا من دون أن تحدد مهلة زمنية للإخلاء. وعمليًا، لم تتجاوز المدّة بين الإنذار والهجوم في بعض الأحيان الساعة الواحدة. وتجدر الإشارة إلى أنّه سبق للجنة التحقيق التابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن اعتبرت أنّ التحذيرات التي أطلقها الجيش الإسرائيلي خلال حرب تموز 2006 لسكان بلدة قانا من أجل إخلائها قبل ساعتين من الهجوم عليها، لم تكن تدابير فعلية ولا فعالة.

كما أنّ عدم تحديد الجيش الإسرائيلي للأماكن الآمنة التي يجب أن يتوجّه إليها السكّان بشكل واضح في العديد من هذه الإنذارات يتنافى مع الطبيعة الحمائية المفترضة للإنذار. إذ لم يتمكّن المهجّرون من تحديد الاتجاه الآمن الذي يجب أن يسلكوه، بل انطلقوا بشكل عشوائيّ ليس بسبب الذعر فحسب، بل لأنّ لا أماكن آمنة حُدّدت لهم للجوء إليها، ولأنّ النهج الإسرائيلي المتبّع في تنفيذ التهديد بعد فترة قصيرة جدًّا من نشر الإنذار، لا يعطي ترف الوقت للسكان لتأمين مأوى لهم ولعائلتهم قبل أن ينطلقوا في رحلة التهجير وأهوالها. وقد تفاقم ذلك مع تعدّد الإنذارات الموجّهة لسكّان البلدات الجنوبية، وإجبارهم على مغادرة بيوتهم، ثم تحذيرهم من التوجّه من الشمال باتجاه جنوب نهر الليطاني، ثم اتساع رقعة المناطق التي تطالها التحذيرات حتى وصلت إلى شمال نهر الأوّلي، فضلًا عن توجيه الهجمات على قوافل النازحين المغادرين في سياراتهم خصوصًا في يوم 23 أيلول 2024.

بالإضافة إلى ذلك، تكررت الهجمات على المدنيين في المناطق التي نزح إليها السكّان باعتبارها آمنة. ووصل الأمر إلى ارتكاب إسرائيل مجازر في حق المدنيين من خلال شنّ هجمات على مساكن النازحين في مناطق يُفترض أنها آمنة، ومنها في المعيصرة التي استهدفت عائلات نازحة إليها مرّتين (جبيل)، وبعدران والوردانية حيث تم استهداف مركز نزوح (الشوف) وعين الدلب (شرق صيدا) والنويري والبسطة (بيروت) وأيطو (زغرتا). 

يُستنتج بشكل واضح من كلّ هذه العوامل مخالفة الجيش الإسرائيلي الغاية القانونية المفترضة من الإنذار بوصفه تدبيرًا استثنائيًّا يجوز استخدامه فقط لغاية حماية المدنيين وفي حالة الضرورة العسكرية. وقد أكّدت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية رادوفان كاراديتش في 24 آذار 2016، أنّه لا يجوز استخدام الإنذار كذريعة لتهجير المدنيين والسيطرة على الأراضي. وهذه المنهجية المتبعة في لبنان مشابهة لما اعتمده الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة حيث كان يأمر السكّان بإخلاء شمال القطاع ثم يقوم بقصفهم في طرقات النزوح والأماكن التي لجأوا إليها، ويعلن أنّها مناطق غير آمنة، وفقًا لما أثبتته جنوب أفريقيا في دعواها ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية وكذلك التقارير الأممية مما ذكرناه سابقًا.

جرائم حرب مقنّعة

وقد أرست هذه الإنذارات جوًّا دائمًا من الرعب والترويع والترهيب للمدنيين نظرًا لكيفية إصدارها، سواء من حيث الشكل أو التوقيت أو المدة الفاصلة بينها وبين الهجوم، أو من حيث شمول رقعتها الجغرافية الواسعة مستشفيات ومدارس ومنشآت مدنية. وهذا ما حرم الكثير من السكّان من النوم خوفًا من صدور إنذارات في ساعات متأخرة من الليل أو مبكرة من الصباح. كما أنّها طالت بشكل أساسي مناطق تعتبر من ضمن البيئة الاجتماعية لحزب الله، ما يندرج ضمن سياسة إسرائيل في إنزال العقاب الجماعي في حق المدنيين لزيادة الضغوط الاجتماعية والسياسية على حزب الله. 

في هذا السياق، تأتي هذه الإنذارات في تعارض مع  المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، والفقرة الثانية من المادة 51 من البروتوكول الإضافي الأوّل لها، اللتين تحظران أعمال التهديد بالعنف الذي يكون غرضه الأساسي نشر الرعب بين السكان المدنيين. وهذا ما أكّدت عليه لجنة التحقيق التابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة التي اعتبرت أنّ البيانات الإسرائيلية الداعية إلى إخلاء مناطق خلال حرب تموز 2006 والتي لا تشكّل تحذيرات حقيقية المدنيين، يُراد منها تخويف السكان المقيمين أو بث الذعر في نفوسهم أو إجبارهم على ترك ديارهم لأسباب غير سلامتهم. 

انقضى على الإنذارات الإسرائيلية الأولى للبقاع والجنوب أكثر من خمسة أسابيع. وبرغم الإنذارات بإخلاء مئات القرى والبلدات، لم يصدر حتى اليوم ما يفيد عن إمكانية عودة أيّ من السكّان إلى أي منها رغم أنّ معظمها لم يشهد أعمالًا عسكريّة باستثناء قصف جيش الاحتلال لها. بل على العكس يدأب جيش الاحتلال على إعادة تحذير الناس من العودة إلى قراهم، بأسلوب تهديديّ. هذا السلوك يناقض الطابع القانوني المؤقت لأوامر الإخلاء، والذي من المفترض أن يُتيح للمدنيين العودة الآمنة إلى مناطقهم بعد انقضاء أسبابه. بالإضافة إلى ذلك، فقد دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي مساكن عدد كبير من النازحين من المناطق المشمولة بالإنذارات، مخالفًا الواجب القانوني الذي يفرض اتخاذ الاحتياطات الممكنة لحماية ممتلكات المدنيين. يستشفّ من كلّ هذه العوامل وجود نية إسرائيلية بتهجير السكّان لأمد طويل من دون أن يكون هنالك ما يبرر ذلك عسكريًا.

خلاصة

يُشكّل سلوك إسرائيل مؤشّرًا جدّيًا على نواياها الجرمية في لبنان، الأمر الذي يفرض التنبّه له والتعامل معه جدّيًا من قبل الأطراف الفاعلة دوليًا ومحليًا. فالإنذارات الإسرائيلية لا تقتصر على انتهاكات بسيطة للقانون الدولي الإنساني بل تشكّل أداة لارتكاب جريمة حرب متمثلة باستباحة المدنيين والتهجير القسريّ في حق فئة كبيرة من سكّان لبنان. وليس مبالغًا به التحذير من خطر قيام مشروع صهيونيّ إباديّ بحقّ هذه الفئة (الشيعة)، خصوصًا إذا ما وضعناه في سياق الإبادة الجماعية الحاصلة في غزة، وحمّام الدم المفتوح على كافة الأراضي اللبنانية، مترافقًا مع مشهد المدن والقرى المدمّرة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، بأسواقها ومدارسها ومستشفياتها وبنيتها التحتية، في محاولة إسرائيلية لجعلها أماكن غير قابلة للحياة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني