أهمّية البحث في موجب حماية حرّية الإعلام وتحصين دوره أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة


2025-02-12    |   

أهمّية البحث في موجب حماية حرّية الإعلام وتحصين دوره أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة

تندرج حرّية الإعلام ضمن الحق في حرّية الرأي والتعبير المنصوص عليه في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والدستور اللبناني[1]. كما ينصّ عليها صراحة التعليق العام رقم 34 الصادر عن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان بقوله إنّه “لا غنى لأي مجتمع عن الصحافة أو غيرها من وسائط الإعلام التي تكون حرّة وغير خاضعة للرقابة وتعمل بدون عراقيل، وذلك لضمان حرّية الرأي وحرّية التعبير، والتمتّع بالحقوق الأخرى المنصوص عليها في العهد… وينطوي ذلك على وجود صحافة حرّة ووسائل إعلام أخرى قادرة على التعليق على المسائل العامة بدون رقابة أو قيد وعلى إعلام الرأي العام[2]“.

من هذا المنطلق، شدّدت تلك المواثيق على أنّ أيّ تقييد لهذه الحرّية يجب أن يتمّ في نطاق محدود جدًّا، بحيث لا يؤدي إلى ضياع الحق أو إضعافه أو حرمان الأفراد من ممارسته. وعليه، تحصر الفقرة الثالثة من المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية القيود على حرّية التعبير بتوافر ثلاثة شروط: 1. أن تكون محدّدة بنصّ قانوني يسمح بإجراء هذا التقييد، 2. أن تهدف إلى احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم أو حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة، و3. أن تكون ضرورية في المجتمعات الديمقراطية. وقد توسّعت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في شرح شرط الضرورة، بأنّه التناسب بين الإجراء المتّخذ والهدف الذي يستدعي تطبيقه، بحيث لا يتجاوز القيد على حرّية التعبير الضرورة التي تفرضها الظروف.

كذلك الأمر بالنسبة إلى القيود المفروضة على حرّية التعبير بموجب المادة 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الآيلة إلى حظر الدعاية للحرب والدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية في الحالات التي تشكل فيها تلك الدعوة تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف، فهي أيضًا تبقى خاضعة للشروط المبيّنة في المادة 19[3]. وعليه، تكون حرّية الإعلام محمية بموجب القوانين والمواثيق الدولية نظرًا لدورها الأساسي في المجتمعات الديمقراطية. 

فهل يؤدّي الإعلام دورًا أكثر تأثيرًا أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة، ممّا يستدعي تعزيز حمايته؟ وما هي أبرز التحدّيات والمخاطر التي تعترض الصحافيين أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة؟

1-   يصبح دور الإعلام أكثر إلحاحًا أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة: [1] 

من الثابت أنّ الإعلام يؤدّي دورًا مفصليًا في تكوين الرأي العام وحراسة المصلحة العامّة ومكافحة الفساد[4]، إلّا أنّ هذا الدور يصبح أكثر أهمّية وإلحاحا أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة لتحقيق الأهداف الآتية:

  • البقاء على قيد الحياة: ترى المقرّرة الخاصّة المعنيّة بتعزيز وحماية حرّية الرأي والتعبير في الأمم المتحدة، إيرين خان، أنّ الحق في الوصول إلى المعلومات هو “حقّ من حقوق البقاء، تعتمد عليه حياة الناس وصحّتهم ورفاههم وسلامتهم وأمنهم في أوقات الأزمات والنزاعات”[5]. بمعنى آخر، يلعب الإعلام دورا أساسيا في تمكين الناس من الوصول إلى المعلومات الضرورية لفهم ما يجري حولهم واتخاذ القرارات التي يرونها مناسبة من أجل سلامتهم والحفاظ على أرواحهم.
  • كشف الانتهاكات والجرائم في حق المدنيين، وتوثيقها وتوصيفها وشرح تداعياتها، بهدف الحدّ من تكرارها، وتعزيز فرص محاسبة المسؤولين عنها وتحقيق العدالة.
  • عرض قضايا الفئات المهمّشة والمتضرّرة من الحرب، بما يعكس أبعادها الإنسانية والقانونية والاجتماعية، وتعزيز الوعي بشأن الأزمات الإنسانية في المناطق المتضرّرة، ممّا يسهم أيضًا في توجيه المساعدات الإنسانية إلى المناطق الأكثر حاجة.
  • مكافحة الأخبار الخاطئة والتضليل الإعلامي، أو أقلّه الحدّ من تداعياته، من خلال ضمان التعدّدية الإعلامية وحرّية الإعلام، بما يُتيح الاطلاع على مصادر مختلفة للمعلومات وتكوين آراء أكثر موضوعية بشأن النزاع. وهذا أيضًا ما تشدّد عليه المقرّرة إيرين خان بقولها إنّ أفضل وسيلة للتصدي للتضليل الإعلامي هي التدفق الحر لمصادر المعلومات المتنوّعة التي يمكن التحقق منها من خلال وسائل إعلام مستقلة وحرة، ومعلومات رسمية موثوقة، والمعرفة الإعلامية والرقمية[6].
  • توثيق الأحداث من أجل العدالة والمحاسبة: يساعد الإعلام في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وتوصيفها وشرح تداعياتها، مما يسهم في محاسبة المسؤولين عنها ويعزز تحقيق العدالة.
  • عقلنة الخطاب العام وإفراد مساحة للأصوات المندّدة بالحرب والداعمة للسلام والعدالة.
  • تعزيز التواصل بين الناس وتخفيف الإحساس بالعزلة واليأس الذي غالبا ما ينتابهم أثناء الحروب والنزاعات المسلحة.

2- في المقابل، تصبح التحدّيات التي تواجه حرّية الإعلام أكثر حدّة أثناء الحروب والنزاعات:

من المعلوم أنّ حرّية الإعلام في العالم تتعرّض عمومًا لضغوط عدّة من جهات مختلفة تشمل السلطات الرسمية ومجموعات الضغط السياسية والدينية والمستثمرين في المؤسسات الإعلامية وأصحاب الإعلانات، وغيرها من القوى التي تسعى إلى توجيه المحتوى الإعلامي أو التأثير على استقلالية الصحافيين، بهدف خدمة مصالحها الخاصة أو تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. غالبًا ما تؤدّي تلك الضغوط إلى تعزيز الرقابة الذاتية وتقييد قدرة الإعلام على القيام بدوره بنقل الوقائع بشفافية ومراقبة أداء السلطات العامّة ومكافحة الفساد وتكوين الرأي العامّ. من أبرز أشكال هذه الضغوط الرقابة والدعاوى الاستراتيجية ضدّ المشاركة العامّة (ما يعرف بـ   SLAPP: Strategic lawsuits against public participation) والتهديد والاعتداءات والترهيب النفسي والتشهير الرقمي. هذا فضلًا عن أنّ التلاعب بالرأي العام من خلال التركيز على قضايا محدّدة وتقديمها بطرق تجعل الرأي العام يتبنّى وجهات نظر معيّنة، مما يؤثر سلبًا على الديمقراطية، إذ تصبح قرارات الناس مبنيّة على معلومات متحيّزة أو منقوصة[7].

إلّا أنّ تلك الضغوط تصبح أكثر حدّة أثناء الحروب والنزاعات، مما يؤدي إلى تفاقم التحديات وتوسّع نطاقها: 

  • السرعة في نقل الخبر لمواكبة الأحداث، ممّا يزيد من خطر الوقوع في الأخطاء ونشر المعلومات المضلّلة التي تستهدف عادة المدنيين، لا سيما الفئات الأكثر عرضة للخطر. 
  • تعرّض الصحافيين للتهديد والاعتداءات أثناء سعيهم لنقل مجريات الأحداث، ممّا يضع عقبات إضافية أمام قدرتهم على الوصول إلى المعلومات، ويؤدّي إلى مزيد من الرقابة الذاتية والامتناع عن نشر أخبار قد تعرّضهم لمزيد من الخطر.
  • الرقابة على النشر والتضييق على الحق في الوصول إلى المعلومات، سواء من قبل السلطات العامة أو أصحاب النفوذ أو الشركات مالكة وسائل التواصل الاجتماعي، مما يفتح الباب أمام انتشار التضليل الإعلامي و/أو الترويج لبعض الأفكار دون غيرها.
  • انتشار خطاب الكراهية وتداخل المواقف السياسية مع الدعوات التحريضية. 
  • صعوبة توثيق الانتهاكات وفق معايير احترام حقوق الإنسان، لا سيّما احترام خصوصية الضحايا وعائلاتهم، دون التسبّب بمزيد من الضرر للفئات الأكثر عرضة للخطر.
  • الحفاظ على عدم التحيّز في نقل الخبر وأبعاده وتداعياته.

تأكيدًا على تلك التحديات، أشار التقرير الصادر في آب 2024 عن المقرّرة إيرين خان، بعنوان “الأخطار التي تهدّد حرّية التعبير على الصعيد العالمي من جرّاء النزاع في غزة” إلى أنّ “الحق في حرّية الرأي والتعبير أضحى في مهبّ الريح نتيجة لهذا الوضع الصعب”. كما لحظ التقرير ارتفاع حدّة التحديات أمام حرّية الرأي والتعبير نتيجة لهذا الصراع، وهي تتمثل في:

  • “الهجمات على الصحافيين ووسائل الإعلام، ممّا يعرّض الوصول إلى المعلومات حول النزاع على الصعيد العالمي، للخطر، 
  • قمع الأصوات والآراء الفلسطينية بطريقة تمييزية وغير متناسبة، ممّا يقوّض الحرّية الأكاديمية والفنية وحرّية التعبير بشكل عام،
  • طمس الحد الفاصل بين الخطاب المشمول بالحماية والخطاب المحظور”[8].

هذا على الصعيد العالمي. أما في لبنان، فيواجه الإعلام تحديّات إضافية تراكمت على مرّ العقد الأخير، ممّا يستدعي اتخاذ إجراءات جادة لتعزيز حرّية الإعلام وحماية الصحافيين. من المؤشرات على ذلك، التصنيف العالمي لحرّية الصحافة لسنة 2024 الذي وضع لبنان في المرتبة 140 بين 180 دولة، مسجّلًا بذلك تراجعًا حادًا تعزوه منظمة مراسلون بلا حدود إلى عوامل مختلفة، أبرزها سيطرة مجموعة صغيرة من الأفراد الذين لهم صلات مباشرة بأحزاب سياسية أو ينتمون إلى عائلات معيّنة على الإعلام، الرقابة الدينية والسياسية، استخدام القضاء كأداة لملاحقة وسائل الإعلام والصحافيين، الأزمة المالية التاريخية التي تمرّ بها البلاد، الاستدعاءات وحملات الترهيب ضدّ الصحافيين، فضلًا عن استهدافهم من قبل الجيش الإسرائيلي، كلّ ذلك من دون أيّ محاسبة أو عقاب[9]. هذا مع العلم أنّ التصنيف يتناول واقع الإعلام في السنة التي تسبق إصداره، أي أنّ الصعوبات والتحدّيات التي يشهدها الإعلام اليوم بفعل استمرار الحرب لم تقيّم بعد. 

تبعًا لذلك، وضمن متابعة “المفكرة القانونية” ليوميّات الحرب وتداعياتها على مختلف الأصعدة، لا سيّما الإنسانية والاجتماعية والقانونية، والتزامها الثابت بالدفاع عن حرّية التعبير وتحصين الإعلام للقيام بدوره في حراسة المصلحة العامّة، نفرد مساحة خاصة للنظر في موجب حماية حرّية الإعلام ودوره الاجتماعي والإنساني أثناء الحروب والنزاعات المسلحة، وذلك من خلال سلسلة من المقالات تحت عنوان “أي دور للإعلام أثناء الحروب؟” تدعو إلى مناصرة قضايا الإعلام واستشراف المسؤوليات الأخلاقية والتاريخية الملقاة على عاتقه، فضلًا عن كيفية الموازنة بين التحدّيات الناجمة عن الحرب وتلك الحقوق والمسؤوليات، بعيدًا عن التضليل والتحريض والمسّ بالخصوصية والتعرّض لحقوق الإنسان.

وعليه، نسعى لتقديم عشر مقالات، يُخصّص بعضها للبحث في موجب حماية الإعلام ضدّ الاعتداءات التي تطاله (1)، وتوفير ظروف عمل مناسبة من أجل تمكين الإعلام من القيام بدوره (2)، ومكافحة الممارسات التي من شأنها أن تؤدي إلى إفلات مرتكبي الجرائم ضد الإعلام من العقاب (3). ننتقل بعد ذلك إلى قواعد العمل الإعلامي أثناء الحروب والنزاعات المسلحة، تحديدًا دور الإعلام في توثيق جرائم الحرب (4)، احترام الحق في الخصوصية والكرامة الإنسانية أثناء التغطية الإعلامية (5)، الحدّ من انتشار الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي (6)، التصدّي لخطاب الكراهية (7)، الدفاع عن استقلالية الإعلام (8)، النزاهة في التغطية الإعلامية (9)، تعزيز التضامن الإعلامي والمجتمعي (10).

أهمّية البحث في موجب حماية حرّية الإعلام وتحصين دوره أثناء الحروب والنزاعات المسلّحة
دور وسائل الإعلام في توثيق جرائم الحرب: لماذا؟ وماذا بالضبط؟ وكيف؟
حماية الصحافيين في الحروب والنزاعات المسلّحة (1): الحماية من الاعتداءات
حماية الصحافيين في النزاعات المسلّحة (2): المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب
مقالات السلسلة المنشورة حتى الآن

في الختام، نشير إلى أنّ التوصيات القانونية تستند إلى الدستور والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان والقوانين اللبنانية، والمعايير الدولية، لاسيّما تلك الواردة في متن التعليقات العامّة والقرارات الصادرة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والاجتهادات القضائية، وتقارير المنظمات الدولية غير الحكومية.


[1] المادة 13 من الدستور اللبناني، والمادة 19 من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 32 من الميثاق العربي لحقوق الانسان.

[2] البند 13 من التعليق العام رقم 34 بشأن حرّية الرأي وحرّية التعبير.

[3] البند 50 من التعليق العام رقم 34 بشأن حرّية الرأي وحرّية التعبير.

[4] المادة 13 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

[5] البند 102 من التضليل الإعلامي وحرّية الرأي والتعبير أثناء النزاعات المسلحة.

[6] البند 38 من التضليل الإعلامي وحرّية الرأي والتعبير أثناء النزاعات المسلحة.

[7] في كتابه “تصنيع القبول” (Manufacturing Consent)، يوضح نعوم تشومسكي كيف يُستخدم الإعلام لتوجيه آراء الناس من أجل قبول قرارات وسياسات تخدم الطبقة الحاكمة، حيث يتم تحديد الأولويات الإعلامية وفقًا لأجندات هذه النخب.

[8] البند 6 من الأخطار التي تهدد حرّية التعبير على الصعيد العالمي من جراء النزاع في غزة

[9] تقرير منظمة مراسلون بلا حدود


انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات إعلامية ، لبنان ، مقالات ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني