أهالي حولا يدفعون ثمن تحرير أرضهم دمًا وأسرى في مواجهة إسرائيل


2025-02-18    |   

أهالي حولا يدفعون ثمن تحرير أرضهم دمًا وأسرى في مواجهة إسرائيل
من دخول الأهالي إلى حولا الأحد 16 شباط

سالت دماء أبناء حولا مجددًا على أرضها يوم الأحد 17 شباط. هي التي دفعت ثمن الاحتلال باكرًا في الـ 48، في مجزرة يقال إنّ مائة من أبنائها سقطوا فيها، قبل أن تدخل فترة الاحتلال الذي دام من 1978 حتى تحرير عام 2000. وفي الحرب الحالية سقط شهداء كثر في حولا ودمّرت القرية حتى لم تعد تعرف لبعض أحيائها معالم. ويوم انتهاء مهلة الستّين يومًا، في 26 كانون الثاني الفائت حين حاول الأهالي دخول قريتهم، قتل الجيش الإسرائيلي منهم علي غالب قطيش، ونزار يعقوب، وحسن بوزكلي . 

والأحد 17 شباط، سالت الدماء مجددًا في حولا من صبيّة لم تتجاوز 17 عامًا هي خديجة عطوي التي سقطت برصاص الجيش الإسرائيلي الذي باغت أهالي القرية وأطلق النيران عليهم بعد دخولهم إليها. ومنع الجنود الإسرائيليون أحدًا من الوصول إلى جثمان خديجة الذي بقي ملقى على أرض حولا حتى الساعات الأولى من مساء الاثنين. وحاصر الجنود أيضًا شقيقتها وزوج شقيقتها وطفليهما إلى جانب رجل آخر وابنته داخل القرية حيث احتموا في أحد المنازل، في البرد الشديد، من دون ماء ولا طعام، وحده صوت المسيّرة في سماء البلدة كان يرافقهم. وأسر الجنود خمسة أشخاص أفرج عن اثنين ليلًا وأبقى على ثلاثة هم عضو المجلس البلدي حسين قطيش، ومسعفين اثنين من كشافة الرسالة الإسلامية قبل أن يفرج عن واحد منهم أمس الإثنين.   

وظهر أمس قرّر المحاصرون الستّة الخروج، فتركوا خوفهم وراءهم، ومشوا باتّجاه حاجز الجيش اللبناني حاملين راية بيضاء يتقدّمهم أطفالهم، بعدما فشلت جميع المحاولات الأحد لدخول الجيش اللبناني والصليب الأحمر لإخراجهم من القرية.

هكذا تُرك أبناء حولا لمصيرهم، يواجهون جيش الاحتلال وحدهم. ينتزعون حرّيتهم وحرّيتنا جميعًا. وحرّيتي أنا فأنا ابنة البقاع الغربيّ اتّخذت من حولا مسقط رأس والدتي، قريةً لي، ولطالما تمنّيت في صغري أن أملك كوخًا في أرضها، فأصبح لنا فيها بيت. أراقب اليوم صورة يتيمة يظهر فيها منزلنا هناك بالقرب من الحدود مباشرة، وقد أضرم فيه الإسرائيليون النار. أفكّر في اللحظة التي سأدخل فيها القرية، أفكّر في الحزن المؤجّل، في اللّحظة التي سأرى فيها بيتنا، في ثمن الحرية الذي دفع. أفكّر في شعور الانتماء إلى أرض. يتساءل أحد الأقرباء إن كنّا نحن أهل حولا نراها الأجمل، أم هي فعلًا الأجمل؟ لا أملك إجابة على سؤاله، ولكنّني أعلم أنّ الشعور بالانتماء ليس أمرًا سهل التحقّق.

الشهيدة خديجة عطوي

عن ليل حولا الأشدّ ظلمة 

صباح الأحد دخلت مجموعة من أهالي حولا البلدة من جهة حيّ الدير ووصلوا إلى الساتر الترابي الذي وضعه الجيش الإسرائيليّ، فلم يكن هناك أي أثر له ولآليّاته، ما حثّهم على التقدّم أكثر فأكثر، فتوغّل الأهالي داخل البلدة، ليقبل نحوهم فجأة عناصر جيش الاحتلال، ويطلقوا الرصاص عليهم عن قرب ومن أكثر من جهة، ما أدّى إلى استشهاد خديجة عطوي (17 عامًا) التي دخلت القرية برفقة أفراد من أسرتها، من ضمنهم شقيقتها وزوج شقيقتها وطفليهما الذين احتموا في أحد منازل القرية ومعهم رجل آخر وابنته.  وأصيب آخرون من بينهم عضو بلدية حولا حسين قطيش الذي تمّ أسره هو والشابين حسن حمود وهايل قطيش، بالإضافة إلى شابين من كشافة الرسالة الإسلامية كانا قد دخلا القرية لإسعاف المصابين، فيما بقي أقارب خديجة والرجل وابنته محاصرين في أحد منازل القرية. 

“كلّ محاولات إخراج المحاصرين والأسرى وجثة الشابة خديجة عطوي باءت بالفشل”، يقول رئيس بلدية حولا، شكيب قطيش، في اتصال مع “المفكرة”، فبعد التواصل مع الجيش اللبناني والصليب الأحمر ومع تحضّرهم لدخول القرية ليل أمس وعندما حان الوقت المتفق عليه للانطلاق من نقطة حاجز الجيش اللبناني، تبلّغ الأخير عبر قوات اليونيفيل رفض الجيش الإسرائيلي السماح لهم بالدخول. يضيف رئيس البلدية “تحجّج الإسرائيليّ بإمكانية تسلّل أحد المدنيين أو المقاتلين برفقة الإسعاف والجيش اللبناني ليلًا، ولكنّنا استمرّينا برفع الصوت عاليًا والقيام باتّصالات على أعلى المستويات من دون أن نصل إلى حلّ”. 

عاش المحاصرون والأسرى الليل الأشدّ ظلمة في قريتهم، حتى بعدما أطلق الإسرائيليون سراح اثنين من الأسرى في وقت لاحق مساء الأحد، وهما هايل قطيش وحسن حمود اللّذين توجّها ليلًا مشيًا نحو نقطة تمركز الجيش اللبناني. لم يغمض لأهل القرية جفنٌ. منازلنا أصبحت باردة، مع التفكير بالأطفال المحاصرين في البرد. صفحات وسائل التواصل الاجتماعي خيّم عليها الحزن، الجميع يتساءلون “كيف سيمرّ الليل على الأطفال؟ هل ينظرون إلى خديجة ملقاة على الأرض أمام أعينهم؟ هل هناك إمكانية لأن تكون الشابة على قيد الحياة؟”، أسئلة كثيرة ولا قوّة تردع إسرائيل عن وحشيّتها.

من دخول الأهالي إلى حولا الإثنين 17 شباط

ظهر أمس الإثنين، اتّخذ المحاصرون قرارهم بكسر الحصار، وخرجوا يتقدّمهم الأطفال، بدون أي مرافقة من قبل الجيش اللبناني أو الصليب الأحمر. اتّخذوا القرار بالانطلاق باتّجاه حاجز الجيش اللبناني، واجتازوا الساتر الترابي. أمّا جسد خديجة عطوي الملقى على الأرض فبقيَ مكانه حتى الساعة السادسة من مساء أمس الإثنين. وبعد الضغط الكبير الذي مارسه الأهالي وبلدية حولا ومع استعدادهم لدخول القرية مجددًا للوصول إلى خديجة، تمكّن الجيش اللبناني أخيرًا من إزالة الساتر الترابي الذي رفعه العدوّ في وادي الدلافة ليصل بعدها الصليب الأحمر إلى مكان تواجد الشابة ونقل جثّمانها فورًا إلى المستشفى. 

“اللي عم يصير بحولا متل يلّي عم يصير بكلّ القرى، المحاولات للدخول عم تصير من فترة، والهدف منها هو الضغط لتسريع عملية الانسحاب لدخول الناس يلّي عم يعانوا بوجودهن برّا أرضهن وبيوتهن ومن الطبيعي يفكّروا باندفاع عاطفي”، يقول رئيس البلدية، ويتابع “الصمت بيعبّر أكتر من الحكي، ما عدش في حكي ينقال عن مدى وحشية العدوّ، وكلّ جثة شهيد عنّا بتنتج عزّ وكرامة”.

وشاء القدر أن تكون خديجة الشهيدة الرابعة على طريق تحرير قريتها حولا. الطالبة في الثاني ثانوي والتي نزحت إلى قرية تولين الجنوبية مع عائلتها، لطالما عمدت إلى زيارة حولا ومحاولة الدخول إليها، يقول خالها المختار حسين أسعد في اتصال مع “المفكرة”. ويتابع “هذه المرة كانت تشعر بالطمأنينة أكثر، ذلك لأنّ كثيرين دخلوا القرية ولم يكن هناك أيّ أثر للعدوّ الإسرائيلي، وأرادت أن تزور قبر والدها الشهيد، فكان هذا مصيرها”. انتقلت خديجة إلى جوار والدها وعمّها اللّذين استشهدا خلال الحرب، بعدما عاشت قساوة الفراق، وهنا يستطرد خالها ويعلّق “نحنا متروكين وما حدا عارف شي ولا شو عم يصير”.

“ما في معالم لضيعة بحولا”

انتظار الإسرائيليّ لينسحب من الأرض ليس أمرًا يصدّقه الجنوبيّون، وانطلاقًا من هذا المبدأ اختار أبناء حولا أن يدخلوها بأنفسهم من دون انتظار إذن من هنا وهناك. “بالطّلعة عالضّيعة شخص بيجرّ التاني، وفي اشتياق كبير لحولا”، يقول سائد قطيش في اتصال مع “المفكرة”. دخل سائد القرية مدفوعًا بالحماس، حاله كحال باقي أصدقائه والأهالي، وبالتزامن مع دخولهم القرية بدأت مقاطع الفيديو بالانتشار، حيث وثّقوا تحرّكاتهم خطوة بخطوة، ليطمئنوا أولئك الذين لم يحضروا بعد إلى القرية. ومع تداول الفيديوهات بدأ الأهالي بالتوافد. كلّ ما رغب فيه سائد بداية هو أن يصل إلى منزله الذي يقع في ساحة القرية، فوجده صامدًا رغم حجم الدمار الهائل الذي حلّ فيه “البيت مكسّر من جوّا، بس منيح في بيت”، يقول، ويتابع “من بعد ما شفت بيتنا، صار بدّي أكتر، وبدّي شوف الضيعة كلّها”.

“على ما يبدو أنّ وجودنا استفزّ الإسرائيليّ فتقدّم إلى داخل القرية وقام بمحاصرتنا في منطقة المعاقب. دخلنا القرية مشيًا وخرجنا منها ركضًا، سمعنا صوت الرصاص من عدة جهات وهربنا ولم أعلم بوجود إصابات وأسرى إلّا بعد خروجي من هناك”، يقول سائد. فجأة، تحوّلت المقاطع المصوّرة من مقاطع توثّق مشاهد الدمار والصمود في آن إلى أخرى توثّق هروب الأهالي والصحافيين من رصاص الجيش الإسرائيليّ. “كنا عم نمشي وبلشوا يقوّصوا رجعنا بلشنا نهرب”، يقول أحد الأطفال في فيديو وثّقته الزميلة فاطمة فتوني، وظهرت فيه زوجة هايل قطيش وهي تحتضن أطفالها وتقول “هول اولادي، كنا رايحين على بيتنا ويلّي أصلا مدمّر… وهلأ زوجي ما عارفة وينه!”. لم تغب حولا عن بال سائد الذي عاد إلى النبطية فورًا “ما في شي. ما في معالم ضيعة. مجرّد ما تجاوزنا الساتر الترابي وكأنو صرنا بضيعة تانية. أحياء ما فيها بيت صامد، وإذا كان في فهو للهدم أو محروق”، ويضيف “بحتار بين إنّو انبسطت فتت عالضيعة وبين الحزن على كم سنة بدّها حتى ترجع تعمر. شي مش معقول”.

الشهيد علي غالب قطيش

نعيمة قطيش… المرأة الجنوبية الصابرة

ومن المصابين برصاص الاحتلال يوم الأحد، الشاب حيدر قطيش، شقيق الشهيد علي قطيش الذي سقط في 26 كانون الثاني الماضي. حيدر نجا لأنّ والدته نعيمة تمكّنت من إنقاذه. فعندما بدأ إطلاق النار من المجموعات الإسرائيلية أصيب حيدر في قدمه ولكنّه تمكّن من الفرار عبر الوادي، مختبئًا خلف شجر الزيتون. “عرفت إنو ابني هونيك، لحقته ورحت بالسيارة وساعدني شاب حتى نطلّعه من الوادي، ولما صار معي التقيت بالإسعاف ونقلوه دغري”، تقول نعيمة. وفي الوقت نفسه، أصيب شقيق نعيمة حسين قطيش، وبقيَ أسيرًا.

“عم نطلع ونفوت عالضيعة لنفشّ دبلتنا”، بهذه الجملة تصف نعيمة كمّ القهر الذي يسكنها، فهي التي عاشت طيلة 68 عامًا في قرية حولا وقتلت إسرائيل والدها وهي في الثانية عشر من عمرها، أنقذت أحد أبنائها فيما خسرت ابنها علي، ولا تعلم شيئًا عن مصير شقيقها حسين. “نحن مش للبيع ليبيعونا، بالحرب كلها ما صار قد اللي عملوه فينا بهالستين يوم. هيدي أرزاقنا وولادنا، وأرضنا، وبلدنا، وفيها ذكرياتنا كلها”، تقول نعيمة التي تنتظر لحظة انسحاب الجيش الإسرائيلي لتعود وتدفن ابنها علي هناك عملًا بوصيّته، علي الذي أحبّ حولا وأصرّ على البقاء فيها منذ بداية حرب إسرائيل على لبنان، ولم يغادرها إلّا مع اشتداد العدوان في أيلول الماضي. “ابننا علي لا يزال في البراد في جويّا ولم ندفنه كوديعة كي لا ننتظر 4 أشهر لنتمكّن من نقله إلى الضيعة. ننتظر الفرج لنأخذه ونعود إلى حولا المحررة”، تقول نعيمة وتنقل عن لسان ابنها “كان يقلّي بدنا ناخد منكوش ورفش ونزرع زيتون بدل اللّى قلعوهن. حبّ حولا من قلبه وأنا مبارح رحت مكان ما استشهد قعدت هونيك وبكيت على ابني”. 

لا يحرّر الأرض إلّا أبناءها. لا أكتب هذه الجملة اليوم تحديدًا عن عبث، فهي تستمدّ حقيقتها من أبناء قرية حولا الحدودية الذين أبوا إلّا أن يقدّموا أرواحهم ثمنًا لتحرير أرضهم. أن تعيشَ في قرية جنوبية تحدّها فلسطين المحتلة، يعني أن تعيش مع لعنة الاحتلال الإسرائيليّ، فتعلّمك التجارب ألّا تصدّق محتلًا، وألّا تثق في كلمته، ولا في اتّفاق وقّع عليه، فالأرض المحتلّة لا تُسترجع إلّا بالقوّة. أمرٌ يعلّمه الجنوبيّون. أمرٌ عرفه جيّدًا أبناء حولا، فاختاروا السعي لتحريرها بأنفسهم، ولو كلّف الأمر دمًا. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني