مع دخول إعلان وقف إطلاق النار أسبوعه الثاني لا يزال سكّان الضاحية الجنوبيّة لبيروت يتلمّسون بداية طريق العودة إلى حياتهم الاعتياديّة، منهم من عاد بالفعل إلى منزله ولو بلا شبابيك أو واجهات ومنهم من استقرّ في شقّة قريب أو قريبة، صمدت في الضاحية ريثما تنتهي أعمال ترميم أو إعادة بناء منزله، ومنهم من لا يزال يبحث عن بيت يستأجره شاكيًا ارتفاع أسعار الإيجارات وسط غياب كلّي لأي دور للدولة في ضبط هذه الأسعار، تمامًا كما كان الحال قبل الحرب وخلالها.
وبينما يتلمّس سكّان الضاحية طريق العودة، يبدو أنّ الشوارع تسبقهم، محال تجاريّة فتحت أبوابها وأخرى يستمرّ أصحابها برفع الأنقاض المكوّمة على أبوابها أو بمتابعة ورش التصليح، وجميعهم يأملون الاستقرار سريعًا.
شوارع الضاحية ترفع ركامها
في حارة حريك حيث تركّزت الغارات الإسرائيليّة، يختلف المشهد بين حيّ وآخر بين الشارع والشارع الملاصق فيه، ففي حين تبدو بعض الشوارع فارغة تمامًا إلّا من ردم تكوّم على جانبيها أو من جرّافات ترفع الردم ومن أو بعض الأشخاص الذين يجمعون البلاستيك والخردة، تضجّ شوارع أخرى بأصوات ورش التصليح ولاسيّما للمحال التجاريّة. وبين الورشة والأخرى يمكن ملاحظة محال يبدو كأنّ الحرب لم تمرّ عليها، أبوابها مفتوحة، لافتاتها نظيفة مضيئة ويرتادها بعض الزبائن. اختلاف المشهد يرتبط بحجم الدمار الذي طال الأحياء وحجم المباني التي لا تزال صالحة للسكن “حيث تعود الناس تعود المحال” يقول صاحب محل ألبسة في الحارة مضيفًا: “أو ربما العكس عودتنا تشجّع الناس على العودة”.
في هذه الشوارع يُمكن ملاحظة عشرات المقاهي التي أعادت فتح أبوابها وكذلك بعض المطاعم “إذا أطيب فروج وفتح” وهو الذي ظهر في خرائط التهديدات فطالت الغارات مبان عدّة خلفه وأمامه “هناك دمار كبير حولنا، ولكن أيضًا هناك من عاد وشجّعنا على العودة السريعة، أمّنا الكهرباء وعدنا” يقول أحد الموظفين في المطعم.
في الحارة وبئر العبد والرويس وأوتوستراد هادي نصرالله، تبدو حركة المارة خفيفة تُعكّرها حفر امتلأ بعضها بالمياه بسبب الأمطار، أو كومات حجارة هنا وهناك، ورائحة أجبرت بعضهم على ارتداء الكمّامات. “بعد شوي رح نلبس كمّامة بالبيت، ولكن هذه رائحة الحياة وغبار رفع الأنقاض الذي يُبشّر بحياة جديدة” تقول زهراء التي عادت إلى بئر العبد فور إعلان وقف إطلاق النار.
ارتفاع بدل الإيجارات واستغلال العائدين
يعبّر معظم من التقيناهم من أهالي الضاحية وهم يلملمون ما يمكن لملمته من بيوتهم التي ما عادت صالحة للسكن، عن رغبة في العودة إلى الضاحية أو إلى مناطق قريبة منها ريثما يُعاد ترميم أو بناء بيوتهم، إلّا أنّ هذا الأمر يحول دونه الارتفاع المفاجئ لبدلات الإيجار منذ لحظة إعلان وقف إطلاق النار ولاسيّما في الضاحية نفسها وفي المناطق القريبة منها نسبيًّا مثل عرمون وبشامون التي قد تكون وجهة لعدد من العائلات كون بدل الإيجارات فيها عادة ما يكون أقلّ من بدل الإيجار في العاصمة.
“لا يوجد بيت في الضاحية حاليًّا إيجاره أقلّ من 600 دولار، وهناك من يطلب 1000 دولار لشقّة عادية لم يتجاوز إيجارها، 400 دولار قبل الحرب” يقول محمد الذي كان يحاول إخراج بعض الملابس من شقّته في حارة حريك. بعد إعلان وقف إطلاق النار لم يُجدّد محمد عقد إيجار البيت الذي استأجره في الشمال بعد توسّع العدوان، فهو بات مضطرًا إلى العودة إلى الضاحية أو إلى مكان قريب منها بسبب مدارس وجامعات أبنائه وكذلك مكان عمله، لذلك يبحث عن منزل بإيجار مقبول “كنت أدفع 400 دولار شهريًّا وهذا مبلغ مقبول بالنسبة إليّ ولو كان أعلى بكثير من سعر بدل الإيجارات في المنطقة حيث نزحت، واليوم لا أجد منزلًا بسعرٍ مقبول، خلال الحرب استغلال وبعدها استغلال، ونحن مضطّرون ” يقول.
في الإطار نفسه تُخبرنا لينا أنّها تبحث حاليَّا عن منزل للإيجار، ستضطّر إلى تجهيزه من الصفر بعدما لم تتمكّن من إخراج أيّ شيء من منزلها الكائن قرب محطّة هاشم في حارة حريك. تسكن لينا حاليًا وأسرتها مع عائلتها في منزل والدها في حي ماضي، وهي تبحث عن سكن قريب نظرًا لأنّ عملها ومدارس أبنائها في الضاحية، ولكنّها تشتكي أيضًا من استغلال بعض أصحاب الشقق “في ناس استغلوّا أكيد، شفت شقة في حي ماضي طلب صاحبها 1000 دولار وهي بحالة متوسّطة، ولكن هناك أيضًا من أبقى على الأسعار كما كانت أو رفع قليلًا، بالأمس وجدت بيتًا بـ 500 دولار وضعه متوسّط أيضًا، لا زلت أبحث عن منزل مناسب بسعر مناس، أفضّل أن أبقى في الضاحية” تقول.
ما يتحدّث عنه أهالي الضاحية أكّده السماسرة الذين تواصلنا معهم. يقول أحد هؤلاء لـ “المفكرة” إنّ الإيجارات ارتفعت في المناطق القريبة من الضاحية لأنّها تشهد إقبالًا كون الإيجارات فيها أقلّ من بيروت، مشيرًا إلى أنّ ما كان يؤجّر قبل الحرب بـ 500 دولار يطلب صاحبه حاليًّا 1000 دولار.
وأشار إلى أنّ أسعار الشقق ارتفعت أيضًا في هذه المناطق وفي بعبدا والحازمية للأسباب نفسها وفي الضاحية الجنوبيّة أيضًا “كان عندي شقّة جنب كنيسة مار مخايل للبيع قبل الحرب وكان صاحبها حدّد سعرها بـ 100 ألف دولار بالأمس، أخبرني بأنّ الوضع تغيّر ولن يبيعها بأقلّ من 160 ألف دولار” يقول.
بالإضافة إلى ارتفاع بدل الإيجارات وأسعار الشقق في ظلّ غياب تام لأيّ تدخل من الدولة، يتحدّث بعض ممّن أصلحوا منازلهم أو يسعون إلى ذلك عن ارتفاع أسعار الألمنيوم والزجاج. “كل يوم سعر، أخبرني معلّم الألمنيوم أنّ السعر الذي يخبرني عنه هو سعر اليوم وغدًا قد يرتفع” يقول علي الذي سارع إلى تصليح شبابيك وأبواب منزله حتّى يستقر فيه ولاسيّما أنّه لم يعد يقوى على تحمّل دفع الإيجار في المنزل الذي نزح إليه. يُشير علي إلى أنّه تكلّف 1750 دولارًا لإصلاح 3 أبواب للشرفات وشبّاكين بين ألمنيوم وزجاج وهذا ما يساوي ربما ضعف ما كانت عليه التكلفة قبل الحرب. وفي حين يذكر علي أنّ لجنة من “حزب الله” كشفت على المنزل يُشير إلى أنّ بدل التصليح الذي سيتقاضاه وحسب ما أخبرته اللجنة سيكون حسب ما تقدّر وليس بناء على الفواتير التي دفعها.
الأمر نفسه تُخبرنا إيّاه سيّدة في بئر العبد قائلة “متر الألمنيوم كان بـ 20 دولارًا اليوم بدّن 50 لذلك قرّرت أن أكتفي بوضع النيلون ريثما يُعوّض عليّ، لا أتحمّل أن أدفع مبلغًا فيعوّض عليّ بأقل، وأصلًا لا أملك هذا المبلغ، النزوح لم يُبقِ معنًا قرشًا” تقول.
ويُشار إلى أنّ حزب الله بدأ مسح الأضرار عبر لجان تضمّ مهندسين كانت بدأت منذ يومين بمسح الأضرار في الضاحية الجنوبيّة.
البقاء في أماكن النزوح أو السكن عند الأقارب
في حارة حريك وعلى مدخل مبنى قريب من فرع لمؤسسة القرض الحسن، تقف سمر خروبي تنتظر سيّارة أُجرة تُعيدها إلى أحد فنادق الحمرا حيث نزحت منذ أكثر من شهرين مع أخوتها، فقد أخبرها المهندسون الذين كشفوا للتوّ على المبنى أنّه ليس صالحًا للسكن حاليًا. لا تعرف سمر الوقت الذي سيستغرقه إصلاح بيتها ولكنّها تحمل همّ استمرارها بدفع 50 دولارًا يوميًّا كبدل سكن. “هنا كان بيت العائلة، لم نُخرج منه حتّى ملابسنا، حاليًا سنبقى في الحمرا” تقول.
شقّة شقيق سمر الذي يسكن في مبنى قريب منها أيضًا لم تعد صالحة للسكن، كما تُخبرنا، فقرّر أن ينتقل للسكن في قريته في الصرفند ريثما يُعاد إعمار منزله.
ليست سمر الوحيدة التي أجبرها تدمير منزلها على البقاء في مكان نزوحها إذ تُخبرنا أم ربيع التي التقينا بها في حارة حريك أيضًا وهي تتفقّد منزلها، أنّها ستبقى حاليًا في الشقة حيث نزحت قائلة: “رح نرجع أكيد، في حرب تموز راح البيت وعمّروه، واليوم سيعيدون بناءه، ولكنّ حتى ذلك الوقت سأبقى حيث أنا في الشويفات”.
من جهة أخرى أخبرنا بعض من التقينا بهم أنّ الخيار الأفضل بالنسبة لهم حاليًا وبانتظار إعادة ترميم أو إصلاح منازلهم سيكون السكن مع ذويهم في منازل صمدت في الضاحية، “ما فينا نستأجر، ولا نستطيع البقاء حيث نزحنا، يونين بعيدة” تقول إيمان التي نزحت إلى قريتها وعادت منها في الأيام الأولى التي تلت وقف إطلاق النار. ستستقرّ إيمان مع أخوتها ووالدتها في بيت جدّها في حي القائم وحيث تسكن خالاتها أيضًا كما تُخبرنا “بدنا نتحمّل بعض” تقول ضاحكة.
العودة رغم الصعوبات
عاد جزء كبير ممّن لا تزال منازلهم قابلة للسكن إلى الضاحية الجنوبيّة رغم عدم الانتهاء من أعمال الصيانة وصعوبة تأمين الكهرباء والمياه في عدد من المناطق.
“لا مكان مثل المنزل” تقول أم علي التي التقينا بها في بئر العبد حيث عادت في اليوم الأوّل لوقف إطلاق النار. فهي لم تعد تحتمل النزوح ولاسيّما أنّها كانت تعيش في صالة في محطّة في عرمون، لذلك قرّرت أن تعود إلى منزلها مهما كان حاله كما تقول، ولحسن حظّها جاءت أضرار المنزل “بسيطة، شوية زجاج وألمنيوم” على حدّ تعبيرها.
تُخبرنا أم علي وهي تضحك أنّها تضع حرامات على واجهات الشبابيك لتقيها من البرد “ولكن لا مشكلة ما دام البيت بيتها وما دام الحال مؤقّتًا”، فهي تنتظر الكشف على منزلها وحصولها على التعويضات لتصلح أضرار منزلها لأنّها لا تستطيع تكبّد التكاليف وحدها، كما تقول.
في الحي حيث تسكن، لم تعد الحياة إلى طبيعتها لذلك تضطّر أم علي إلى المشي إلى حيّ آخر لشراء بعض الخضار “رحت عآخر الدنيا اليوم، لجيب شويّة خيار وخضرا، ولحمة ودجاج ما في قريب ولكنّ هذا أيضًا يبقى محمولًا ما دام في كهربا وماي وشوي شوي تعود الحياة” كما تقول.
ولكن الكهرباء وتحديدًا اشتراكات المولّدات لم تعد إلى جميع الشقق في الحيّ حيث تسكن، فعلى بعد أمتار من منزلها يُخبرنا علي أنّه عاد وعائلته إلى منزله يوم دخول إعلان وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ ولكنّه حتّى اللحظة لا يبيت فيه “ما في لا كهربا ولا ماي، بعض المولّدات تضرّرت بشكل كبير وتحتاج إلى وقت لتعود، وإذا عبيّت ماي ما في كهربا اسحبن، أبيت عند أقاربي حيث كنت نازحًا” يقول. ويضيف: “يمكنك القول إنّنا عدنا جزئيًا”.
وفي حيّ قريب يُخبرنا محمد الذي عاد نهار الأربعاء الماضي إلى الضاحية أنّ منزله لا يزال بلا شبابيك وواجهات ولكنّه يبيت فيه مع عائلته وأنّه كان يضطّر للخروج إلى بيروت أو عين الرمانة لشراء الخضار واللحوم واحتياجات المنزل، ولكنّ الوضع بات أفضل حاليًا “بالأمس فتح خضرجي في الحي وأيضًا لحّام، الحياة بدأت تعود إلى طبيعتها” يقول.