كان الوقت يتجاوز منتصف الليل في مستشفى في صفد في شمال فلسطين المحتلة حيث كان حسين قطيش، الرهينة اللبناني المفرج عنه مؤخرًا، مكبّلًا بالأصفاد في يديه وقدميه، ومعصوب العينين، يصارع ألم الرصاصة التي أصابت قدمه اليسرى خلال اعتقاله، مهشّمة عظامه. “كنت أصرخ من شدّة الألم، أطلب جرعة مسكّن، لكنّ الحراس الإسرائيليين كانوا يواجهون صرخاتي بأمر واحد: ‘أسكت!'”.
اعتقل قطيش، عضو بلديّة حولا المنتخب، يوم 16 شباط الماضي، خلال دخوله مع الأهالي إلى بلدتهم، حيث فاجأتهم قوّات الاحتلال الإسرائيليّة بفتح النار عليهم، ما أدى إلى استشهاد خديجة حسين عطوي (17 عامًا) وجرح آخرين، فيما تمّ احتجاز قطيش جريحًا برصاصة مباشرة أطلقها عليه جنديّ إسرائيليّ خلال تسليمه نفسه استجابة لأمر قوّات الاحتلال.
أمضى حسين، الخمسينيّ، أسبوعه الأوّل معتقلًا في مستشفى في صفد، حيث خضع لعملية جراحية وخمس جولات من التحقيق، تحت ظروف قاسية نفسيًا وجسديًا. من صفد، نُقل إلى سجن الرملة غربي القدس المحتلة، حيث تدهورت ظروف الاعتقال وبلغ الإهمال الطبّي حدّه الأقصى معه، ما ضاعف آلامه وهدّد بتفاقم حالة جروحه والتهابها، وسط سوء التغذية وقساوة المعاملة وغياب الإشراف الطبّي اللازم.
مكث حسين، 24 يومًا في الاحتجاز، وأُفرج عنه مع 4 رهائن مدنيّين وعسكريّ في الجيش اللبنانيّ يوم 11 آذار 2025. تُبرز شهادة حسين، الإهمال الطبيّ المتعمّد الذي واجهه خلال الاعتقال، وهي جريمة ترقى إلى التعذيب، كما توثّق إهمالًا خطيرًا وحرمانًا من العلاج اللازم مورس ضدّ معتقل لبنانيّ آخر لا تزال السلطات الإسرائيليّة تتمنّع عن الإفراج عنه، هو الشاب علي ترحيني (19 عامًا)، الذي اعتقل بدوره مصابًا في 28 كانون الثاني من العديسة، ويدخل اليوم يومه الـ 73 في الاعتقال.
ويعدّ الإهمال الطبّي في حق الأسرى والمعتقلين العرب والفلسطينييّن في السجون الإسرائيليّة من الممارسات الممنهجة والموثّقة، وتساعد الشهادات التي تنشرها “المفكّرة” اليوم على استكمال هذا التوثيق وكشف جانب مأساويّ من تبعات استمرار إسرائيل باحتجاز أسرى ورهائن لبنانيّين، ومفاوضتها عليهم، ما يشكّل انتهاكًا صريحًا لقوانين الحرب وحالة وقف الأعمال العدائيّة، ويرقى إلى جريمة أخذ الرهائن.
ولا تزال السلطات الإسرائيليّة تعتقل 14 لبنانيًّا على الأقل، بينهم 6 أسرى من حزب الله والقبطان البحريّ المدنيّ عماد أمهز، اعتقلوا قبل وقف إطلاق النار، و7 مدنيّين آخرين اعتقلوا بعد سريان تنفيذه في 27 تشرين الثاني 2025. ويرجّح من خلال الشهادات والمصادر أن يكون العدد أكبر، خصوصًا مع فقدان أثر عدد من الذين شاركوا في مقاومة الغزو الإسرائيليّ خلال الحرب، أو مع بروز وجود مدنيّين اعتقلوا بعد الحرب وأفرج عنهم من دون أن يبلغ عنهم أحد.
وبين المعتقلين اللبنانيّين، ثلاثة على الأقل اعتقلوا جرحى بإصابات بليغة، هم حسين قطيش وعلي ترحيني وحسين كركي، وشكّل الإفراج عن حسين قطيش وسيلة لمعرفة أخبار المعتقلين الآخرين في ظلّ استمرار حظر السلطات الإسرائيليّة وصول الصليب الأحمر الدوليّ إليهم. وقد أخبر قطيش عن الشاب الجريح علي ترحيني الذي كان معتقلًا معه في سجن الرملة، في المقابل، لم يتمّ حتى الآن تبيان مكان اعتقال الجريح حسين كركي، وهو مدنيّ اعتقل في 26 كانون الثاني وهو يدخل بلدة مركبا الجنوبية برفقة أمه وأخته بعد أن تعرّضوا لإطلاق نار من قوات الاحتلال الإسرائيليّة، مما أدى إلى إصابة حسين ثم اعتقاله، واستشهاد أمّه تمارا شحيمي فورًا.
وتبيّن أنّ في سجن عوفر 12 أسيرًا ورهينة من غير الجرحى، بحسب شهادات شاركها مفرج عنهم مع “المفكّرة”، إلى جانب المصابَين حسين (مجهول مكان الاعتقال) وعلي (المعتقل في الرملة).
مستشفى صفد: حرمان ممنهج من الرعاية
يروي حسين قطيش في شهادته الظروف القاسية التي خضع لها في مستشفى صفد، حيث وصل معصوب العينين ومقيّد اليدين والقدمين، حتى تلك المصابة، وتمّ تجريده من كامل ملابسه. وقد وُضعت له الأصفاد والعصبة منذ لحظة اعتقاله، وبقيت معه في المستشفى ممنوعًا من الحركة ولا يفرّق بين الليل والنهار رغم أنّه عاجز عن الحركة بسبب إصابته، وفق ما يرد في شهادته. وحتى خلال العملية الجراحية التي أُجريت من دون علمه لتثبيت الكسر في قدمه اليسرى، كان مقيّدًا ومعصوب العينين. وقال الطبيب اللبنانيّ الذي كشف على قدم حسين بعد عودته، لـ “المفكرة” إنّ أداة التثبيت الخارجي التي تمّ تركيبها لعلي لتثبيت عظام القدم هي من طراز قديم، مرجّحًا أن يكون من نفّذها “مبتدئًا أو متمرّنًا، لا طبيبًا مختصًّا”.
خلال إقامته في المستشفى، أُحيط قطيش بستّة جنود إسرائيليين، كانت مهمّتهم التحكم في وصوله إلى العلاج، محددين ذلك بالحد الأدنى الضروري لإبقائه حيًا فقط. كانت المسكّنات، والوصول إلى الرعاية الطبية عند حاجته إليها من الأمور التي يمنعها الحراس. “حتى لو أراد الطبيب معالجتي، كان الجنود يقفون في وجهه، يمنعونه إلّا إذا كانوا متأكدين من ضرورة تدخله، بحدود تثبيت القدم من أجل تسريع عملية النقل إلى الرملة”، يقول قطيش.
وينطبق الأمر نفسه على طلباته المتكررة للقاء ممرض أو طبيب، حيث كانت تُرفض باستمرار، وكذلك استغاثته المستميتة للحصول على مسكّن عندما كان الألم يشتدّ عليه: “ممنوع تتنفّس. ممنوع تحكي. منقطع كليًّا عن الدنيا. تمرّ الساعات فلا تعرف هل انتهى النهار ومتى يأتي الليل، فتخسر شعورك بالوقت، وكلّ ما يدور في بالي: ماهو مصير أفراد عائلتي، هل اعتقلوا، هل قتلوا، هل نجوا؟ وهل عرفوا مصيري؟”. وتُعدّ إجراءات الجنود بنقل جهاز الاستدعاء الطبي من جانب سريره إلى مكان تحت سيطرتهم، من أولى خطواتهم لضمان استمرار الإهمال.
ظلّ قطيش ممنوعًا من الحركة، عاريًا مجرّدًا من ملابسه، محرومًا حتى من الذهاب إلى المرحاض، فيما خضع في الفترة نفسها إلى خمس جلسات تحقيق مكثفة، تراوحت الأساليب فيها بين الترهيب والترغيب، والتهديد، وغيرها من “محاولات التحطيم النفسي”، وصولًا إلى توجيه الإهانات والعبارات المشحونة بالتشفّي: “حولا دمرّناها، ولن نسمح لكم بإعادة إعمارها”، هي عيّنة من العبارات التي سيسمعها على امتداد جلسات التحقيق، إضافة إلى الضغط عليه للاعتراف بانتمائه إلى حزب الله، وتوجيه اتهامات له من قبيل قيامه بـ”عمليات تخريب” تمثّلت في عودته إلى قريته رغم “حظر الجيش الإسرائيلي ذلك”، كما ينقل قطيش عن المحققين.
ويختصر قطيش تجربته في المستشفى: “كنت أعامل كمجرم أو إرهابيّ، وليس كمريض مدنيّ اعتقل من قريته، وهو أعزل من دون سلاح”.
.. ومن العلاج
“علي ترحيني، عمره 19 عامًا، شاب صغير من جبشيت، متعلّق بأمّه بشدّة”، يعرّف قطيش زميله في الزنزانة، حينما نقل من مستشفى صفد إلى سجن الرملة: “وضعوني في غرفة معه ومع 7 فلسطينيّين، كلّنا جرحى، وقالوا لي إنّني في مستشفى سجن الرملة، لكنّها كانت تشبه كلّ شيء إلّا المستشفى”.
علي ترحيني، اللبنانيّ الذي يحكي عنه قطيش، اعتقل في 28 كانون الثاني بعد أن استهدفته القوّات الإسرائيليّة برصاصة في الظهر، خرجت من البطن وطرحته أرضًا. وظلّ علي ينزف ساعتين، منعت خلالها القوّات الإسرائيليّة رفاقه والمسعفين من الوصول إليه وسحبه، من خلال إطلاق النار المباشر باتجاههم عند مدخل العديسة.
وبحسب شهادة قطيش، فإنّ علي ترحيني خضع لعمليّة في مستشفى صفد عينه قبل أن ينقل إلى الرملة، وفي ظروف إهمال وتقييد مشابهة لظروفه. وقد أثّرت إصابته في الظهر على قدرته على المشي “إلى درجة أنّه اعتقد أنّه مصاب بشلل نصفي، لولا جهود الأسرى الفلسطينيين الذين ساعدوه في التدرّب على تحريك قدميه شيئًا فشيئًا، ويدلّكون له جسده باستمرار”، يشرح قطيش، مشيرًا إلى الدعم الذي قدّمه الأسرى الآخرون لترحيني في ظلّ الإهمال الشديد من السلطات السجنية.
ويتبيّن بحسب شهادة قطيش، أنّ علي في حاجة ماسة إلى علاج فيزيائي متخصّص يساعده على استعادة قدرته على المشي، لكنه محرومٌ تمامًا من هذا النوع من الرعاية داخل سجن الرملة، مما يبرز تعمّد السلطات الإسرائيلية تقديم الحد الأدنى من الرعاية الطبية للمعتقلين.
وبحسب الوصف المفصّل الذي قدّمه قطيش لحالة علي ترحيني، يظهر أنّ الرقود الطويل بدون حركة والإهمال الطبي تسبّبا في تكوّن “عقر” (تقرّح) في الظهر عميق إلى درجة أنّ العمود الفقري بدا ظاهرًا مما يشير إلى أنّ “العقر” هو من الدرجة الرابعة الأكثر خطورة ويتطلّب تدخلًا طبيًا فوريًا ومكثفًا.
لكنّ أقسى ما يتعرّض له ترحيني، هو الانقطاع التام عن أسرته: “حاولت مرّات عدّة مناشدة السلطات السجنيّة بتأمين تواصل علي مع الأسرة من خلال الصليب الأحمر، لكن هكذا طلب دائمًا ما يواجه بزجر عنيف”، وترحيني، بحسب قطيش “بحاجة ماسّة إلى أن يتواصل مع أسرته، هو يخشى أن تكون والدته قد ظنّته شهيدًا، ويقول إنّه يريد تبريد قلبها، لكن قلب الفتى الصغير هو الذي يحتاج إلى تبريد ولو برسالة من والدته”.
عيادة سجن الرملة: عيادة أخرى بلا علاج
في عيادة سجن الرملة، يحرم المعتقلون من الرعاية الطبّية اللازمة، ويطلب من نزلاء الزنزانة أنفسهم أن يعتنوا ببعضهم، فيما يغيب الممرضون، بحسب قطيش: “كان يدخل علينا حارس صباح كلّ يوم، يضربنا بالعصيّ بحجّة إجراء التعداد اليومي، ثم يرمي لنا بقليل من الشاش ومستلزمات التغيير على الجروح”. ويبدأ المعتقلون ورشة رعاية بعضهم، وعددهم 9 بينهم 3 إصاباتهم صعبة جدًا، يعاون واحدهم الآخر على النهوض والكشف عن الجراح وتنظيفها والتغيير عليها.
ويقول قطيش: “كلّ أسبوع أو أكثر، يمرّ شخص معيّن نظنّه ممرّضًا لكنّه لا يساعدنا بشيء، ويرى حالة جروحنا والعقر في ظهر علي من دون أن يدفعه ذلك إلى تقديم أيّ رعاية طبيّة”. وبحسب تقرير نشر مؤخرًا لمؤسسة الضمير الفلسطينية، تعدّ عيادة سجن الرملة واحدة من أبرز النماذج على سياسة الإهمال الطبي المتعمّد التي تنتهجها إدارة سجون الاحتلال بحق الأسرى المرضى والمصابين. حيث تفتقر العيادة لأدنى مقوّمات الرعاية الصحية الأساسية، وتفتقد للكوادر الطبية المؤهلة للتعامل مع الحالات الخطيرة والمستعصية. ورغم تحويل عدد من الأسرى المرضى والمصابين إليها، إلّا أنّ المعاناة تستمرّ من دون تقديم العلاج المناسب أو المتابعة الطبية اللازمة، بل غالبًا ما يُترك الأسرى فيها لتفاقم أمراضهم وإصاباتهم دون تدخل حقيقي.
“في المرّة الأولى، كان الجميع يتعاون على تحريك علي ترحيني لقلبه والتغيير على جرحه، رأيت عموده الفقري من ‘العقر’ في ظهره، فلم أتحمّل، لكن لاحقًا عوّدت نفسي فهذه العملية لا يمكن أن تتم إلّا من خلال تعاون جماعيّ، والتغيير على الجروح وتنظيف الأسرّة من أية إفرازات أمر ضروري لمنع انتشار العدوى بيننا، وكنا نقوم بهذا فقط بفضل الخبرة المتوفّرة لدى الأسرى الفلسطينيّين معنا، في ظل إهمال تام من قبل سلطات السجن”.
وفي الرملة أيضًا، لا يحصل كلّ أسير ومعتقل إلّا على حبّتي مسكّن للآلام، بغض النظر عن حالته الصحية “وكان تأثيرها أقل من حبة البندول، ولم تكن تسكّن أوجاعي”. في اليومين الأوّلين، خبّأ أسيران فلسطينيّان حصّتهما من الدواء لتقديمها إلى قطيش “فصبرا على أوجاعهما ريثما أتأقلم مع ظروف السجن الجديدة”.
وهنا أيضًا، تتدهور ظروف التغذية كما تتدهور الرعاية الطبية: “لم يكن يقدّم لنا سوى علبة حمّص مع قطعتيّ توست، في كلّ صباح، نقسّمها على ساعات اليوم، فنحتفظ بنصفها للسحور، والنصف الآخر للإفطار، وفي الأسبوع مرّة، يعطوننا بيضة مسلوقة أو ملعقة عدس مسلوق”.
النقل: فرصة استثنائيّة لتعذيب استثنائيّ
شكّلت الأصفاد في مستشفى صفد، نموذجًا عن التعامل الجسديّ القاسي الذي لا يراعي الحالة الصحيّة للجريح، وكذلك كان روتين الضرب اليوميّ بالعصيّ للجرحى. وفي الطريق من صفد إلى الرملة، ومن الرملة إلى الحدود، نموذج آخر من التعامل الجسديّ القاسي، الذي يمارس ضدّ جريح عاجز، تعامل يرقى إلى مستوى التعذيب. حينما أراد الجنود إخراج قطيش من مستشفى صفد، حاولوا إجباره على السير معصوب العينين ومقيّد اليدين والقدمين، من غرفته، إلى آليّة نقل السجناء، ولمّا تبيّن لهم عجزه التام عن السير بسبب قدمه المكسورة، أعطوه عكّازًا حديديًّا (walker) ليستخدمه، قيّدوه به، وأبقوا قدميه مقيّدتين، حتّى تلك المصابة، ومع التدفيش المستمر، وعصب العينين، شكّلت طريقه من غرفة المستشفى إلى الآليّة المركونة في موقف بعيد نسبيًا، طريق ألم غير محمول: “ممنوع أن يساعدني أحد، أمشي وفق الأوامر، أتوجّه يمينًا، ويسارًا، من دون أن أبصر شيئًا، وقد اصطدمت بدرج وبحائط وبعدّة سيّارات، كل اصطدام يضاعف الألم”، يقول قطيش ويضيف: “كنت أشعر أنّهم يستمتعون بتعذيبي خلال هذه الرحلة، وينهرونني إذا أبطأت رغم ألمي الشديد”.
وفي رحلة النقل، ساعات انتظار، يجبر على قضائها واقفًا على قدميه. إلّا أنّ تفاصيل رحلة الإفراج، كانت الأقسى. في صباح يوم الثلاثاء 11 آذار، جاء الحرّاس إلى الزنزانة، صارخين باسم حسين قطيش، واصطحبوه إلى سيّارة نقل مزوّدة في جزئها الخلفي بزنزانة عالية عن الأرض، طالبين منه الصعود. أصرّ الرجل على أنّه يعجز عن الصعود إليها، طالبًا رفعه، من دون استجابة، ليجبروه على تسلّقها زحفًا.
وفي زنزانة السيارة، وجد نفسه محشورًا، غير قادر على الحركة. كانت الزنزانة عبارة عن قفص صغير جدًا، لا يسمح حتى بالجلوس بشكل مريح. قيّد الجنود يديه وأجبروه على الجلوس بظهرٍ منحنٍ ووضعية مؤلمة، بخاصة لقدمه المصابة. وقبل أن يغلقوا باب السيارة، شغّلوا التبريد فيها: “لم أفهم لماذا شغّلوا التبريد، طلبت إطفاءه فلم يستجيبوا، وتركوني وخرجوا”. اشتدّ البرد على الرجل الذي لا يزال بملابس خفيفة، شورت وبلوزة صيفية أعطاه إيّاها رفاق الزنزانة، في الطقس البارد أصلًا، حين وصل عاريًا من صفد مغطّى بـ “روب” طبّي خفيف منح له بعد إصراره قبل نقله. زاد برد التكييف ألمه، واشتدّ الألم جرّاء ضيق القفص الشديد وتقييده المستمرّ وهو منحني الظهر ومن دون مساحة يمدّ فيها قدمه المصابة: “تفاقم ألمي بسبب برودة التكييف الشديدة، واشتد الألم نتيجة ضيق القفص الذي كنت فيه، مكبل اليدين ومنحني الظهر دون مساحة لمدّ قدمي المصابة. صرخت طالبًا إيقاف التكييف لكن من دون تجاوب. شعرت بالبرد ينخر عظامي تدريجيًا. كنت أكرّر الصراخ: ‘لماذا التكييف؟ أوقفوه!’ ولكن بلا جدوى. صرخت لهم ‘سأموت، لن أصل معكم على قيد الحياة.. لكنّهم ظلوا يتجاهلون صراخي.. بقيت هكذا من التاسعة صباحًا حتى الرابعة عصرًا في زنزانة هي قفص صغير في سيّارة، والمكيّف يعمل بلا توقف”.
مع وصوله إلى معبر الناقورة تجدّدت معاناة قطيش. مرة أخرى، طلب منه الجنود أن يمشي، لكن هذه المرة بدون عكاز. عجز عن السير، فتُرك مهملًا لأكثر من ساعة ونصف الساعة: “طلبوا منّي العودة إلى السيّارة فعدت زاحفًا، وانتظرت فيها ساعة ونصف أخرى”. بعد ذلك، جلبوا له كرسيًّا متحركًا لنقله، لكن النقل كان مؤلمًا: “أنزلوني من السيّارة بقسوة، وجرّ جندي الكرسيّ بي فيما أنا أحمل قدمي بيدي. كانت الطريق مليئة بالحفر، والعربة تهوي فيها، فيشتدّ ألمي ويتطاير بعض الحصى على قدمي المصابة”.
الرحلة من الزنزانة في الرملة إلى أنّ تسلّمه الصليب الأحمر الدولي عند الناقورة، استمرّت 10 ساعات في المجمل، يصفها قطيش بأنّها كانت من الساعات الأصعب عليه خلال فترة اعتقاله.
انتهاكات متعدّدة وخطيرة للقانون الدولي
يحظر القانون الدولي بشكل واضح اعتقال المدنيين الذين لم يشاركوا في القتال بشكل مباشر، مثل قطيش وترحيني اللذين اعتقلا بعد إعلان وقف الأعمال العدائية، ويمنع أخذهم كرهائن من قبل العدو (المادة الثالثة المشتركة لاتفاقيات جنيف)، بحسب الفريق القانوني في “المفكّرة”. ويُعرّف أخذ الرهائن بأنّه احتجاز شخص مع التهديد بقتله أو إيذائه أو استمرار احتجازه بهدف الضغط على طرف ثالث للقيام بعمل معيّن أو الامتناع عنه كشرط صريح أو ضمني للإفراج عنه (اتفاقية 1979 الدولية لمناهضة احتجاز الرهائن). ومؤدّى ذلك، أنّه يتوّجب على السلطات الإسرائيلية الإفراج عنهم فورًا ومن دون شروط. وعلى فرض اعتبارها أنّهم من أسرى الحرب، فإنّ القانون الدولي الإنساني يفرض عليها أيضًا إطلاق سراحهم فور انتهاء الأعمال العدائية وبغض النظر عن أي اتفاق ثنائي مع لبنان.
ويظهر من شهادة المعتقل المحرّر حسين قطيش انتهاكات عدّة للقوانين الدولية، لا سيّما لحقّه وحقّ علي ترحيني الذي لا يزال قيد الاحتجاز، من ضمنها الموجبات التي تحظر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية والحرمان من الرعاية الطبية والتواصل مع العائلة والصليب الأحمر الدولي، والتي قد تشكّل جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية.
كما أنّ ظروف الاحتجاز والمعاملة التي نقلها حسين قطيش في شهادته تُخالف بشكل واضح قواعد معاملة أسرى الحرب التي ينصّ عليها القانون الدولي والتي تتحمّل مسؤوليّتها السلطات الإسرائيلية بصفتها سلطة الاحتجاز. ومخالفة إسرائيل لهذه القواعد، لا سيّما لجهة تخلّفها عن تأمين الرعاية الصحية والمعيشية الملائمة للأسرى والمحتجزين ليست وليدة اليوم، بل تأتي ضمن عقود من الممارسات اللاانسانية الموثقة ضد الأسرى، وتشكّل سياسة عمدية ترقى إلى جريمة التعذيب.
فبموجب القانون الدولي، إنّ مسؤولية سلطة الاحتجاز بتأمين الرعاية الصحية للأسرى هي مسؤولية مطلقة، لا تقبل أي استثناءات أو شروط. ولا يمكنها التذرّع بمحدودية الموارد أو الضغوطات الاقتصادية أو بالأسباب الأمنية لتبرير التقصير في توفير الرعاية الصحية والظروف الإنسانية للأسرى. حتى في هذه الحالة، يفرض عليها القانون الدولي اتخاذ التدابير المناسبة بما في ذلك إطلاق سراح الأسرى وإعادتهم إلى أوطانهم.
ويفرض القانون الدولي الإنساني على سلطة الاحتجاز تقديم الرعاية الطبية الكاملة للأسرى، وهي تشمل معالجة الجروح والإصابات التي تحدث في ساحة المعركة وأثناء الأسر/الاحتجاز، بما في ذلك علاج الكسور، وجراحة العظام، وتوفير الأدوية والتأهيل الطبي والعلاج الفيزيائي، وذلك لضمان استعادة الأسرى لقدراتهم الجسدية، وخاصة في حالات الإصابات الخطيرة (اتفاقية جنيف الثالثة، المادة 30).
ويحقّ للمحتجزين طلب المعاينة الطبية بشكل دوري من دون قيود تعسفيّة (اتفاقية جنيف الثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب، المادة 30 الفقرة الرابعة). وتركّز الممارسات الدولية على أهمية وجود طبيب بشكل حضوري، رافضةً التشخيص والعلاج عن بعد إلّا في الحالات الاستثنائية. في هذا السياق، لم يقتصر انتهاك حقوق المحتجز على الحد من الرعاية الطبية، بل امتد أيضًا إلى عرقلة عمل الأطباء حتى في الحالات التي يكونون فيها موجودين ميدانيًا.
وفيما يتعلّق بإفادة قطيش حول إجراء عمليات جراحية له من دون علمه حيث خضع لها مقيّدًا ومعصوب العينين، فإنّ موجب تأمين الرعاية الطبية للأسرى يشمل موجب احترام استقلاليتهم وحريتهم في اتخاذ القرارات فيما يتعلق بالحصول على موافقتهم الطوعية والمستنيرة للخضوع لأي إجراء طبي (اتفاقية جنيف الثالثة، المادتان 15 و30). كما يوصي القانون بأن يكون الطبيب المعالج من جنسية الأسير نفسها، وقد أوضح الصليب الأحمر الدولي أنّ هذا المعيار يهدف إلى “ضمان إطلاع الأسرى على تشخيص حالتهم والعلاج المُقترح بشكل صحيح، وهو أمرٌ ضروريٌّ لموافقتهم الطوعية والمستنيرة على أي إجراء طبي مُقترح أو رفضه، وفقًا لمعايير أخلاقيات الطب المعمول بها” (تعليق العام 2020 على المادة 30 من اتفاقية جنيف الثالثة).
ولجهة إفادة الطبيب اللبناني بأنّ كسر عظام قدم قطيش قد تم معالجته بطريقة “بدائية”، فإن القانون الدولي يفرض أن يُعامل أسرى الحرب “فيما يتعلق بالطعام والمسكن والملابس، على قدم المساواة مع قوات الحكومة التي أسرتهم” (اتفاقيتا لاهاي لعامي 1899 و1907)، وهو مبدأ يحكم أيضًا موجب تقديم الرعاية الطبية والذي يفرض على سلطة الاحتجاز تقديم العناية الطبية للأسرى بالمعايير نفسها التي تقدّمها لقوّأتها المسلّح. كما يفرض عليها القانون استخدام أكثر التقنيات والعلاجات الفعّالة المتاحة (اتفاقية جنيف الثالثة، المادتين 30 و 31).
وفيما يتعلّق بظروف الاحتجاز في سجن الرملة حيث يظهر حرمان الأسرى من الرعاية الطبية اللازمة واضطرّوا لرعاية أنفسهم، فإنّ ذلك يشكّل انتهاكًا لاتفاقية جنيف الثالثة، ولا سيّما المادة 30 منها التي تفرض التزامات واضحة على سلطة الاحتجاز بتوفير عيادة طبية ملائمة داخل كل معسكر اعتقال، وضمان توفر الطاقم الطبي القادر على تقديم الرعاية الصحية المطلوبة. ويشمل هذا الالتزام توفير عيادات أو مستشفيات مجهزة بالكوادر الطبية المناسبة والمعدات اللازمة لتقديم العلاجات الضرورية، بالإضافة إلى ضمان توفر مرافق عزل للحالات المعدية أو الأمراض التي تستدعي رعاية خاصة.
أمّا إلزام الأسرى أنفسهم بالاعتناء ببعضهم البعض من دون إشراف طبي، ورغم وجود إصابات خطيرة بينهم، فهو يتعارض مع مبدأ أن تكون الرعاية الصحية متاحة وفقًا لمستوى لا يقل عن ذلك المقدّم لعناصر القوات المسلحة التابعة لسلطة الاحتجاز. كما أن عدم معاينة الجرحى من قبل طاقم طبّي أو تمريضي في السجن، واقتصار الرعاية على كميات ضئيلة من الشاش والمعقمات، لا يفي بالحد الأدنى من المتطلبات الصحية المنصوص عليها، ويؤدي إلى تفاقم المعاناة الجسدية للمعتقلين، وينتهك موجب المعاملة الإنسانية التي يفرضها القانون الدولي الإنساني.
أمّا لجهة إخضاع قطيش لتحقيقات مكثفّة خلال وجوده في مستشفى صفد، وهو ممنوع من الحركة، ومجرّد من ملابسه، ومحروم حتى من الذهاب إلى المرحاض، فيمنع القانون الدولي استجواب الأسرى المصابين أو المرضى إلّا بعد نيل موافقة الطاقم الطبي، ومن دون أن يتعارض ذلك مع حاجتهم إلى الرعاية الطبية (المادة 17 من اتفاقية جنيف الثالثة التي تنظم أصول استجواب الأسرى ضمن حدود تحترم كرامتهم الإنسانية).
كذلك يفرض القانون الدولي الإنساني على سلطة الاحتجاز موجب تأمين الغذاء والطعام بشكل يلبّي احتياجات الأسرى الصحية، كما واللباس والملابس الداخلية والأحذية بما يراعي الظروف المناخية خلال فترة الحجز من أجل ضمان راحتهم وسلامتهم البدنية، ولكن أيضًا كجزء من معاملتهم الإنسانية بما يضمن احترام كرامتهم وشرفهم. ولا تُعفى سلطة الاحتجاز من مسؤوليتها بتأمين الملابس المناسبة من جراء تلقي الأسرى ملابس من مصادر أخرى مثل منظمات إغاثية، أو من الأسرى الآخرين في هذه الحالة (اتفاقية جنيف الثالثة، المادتان 26 و27).
ختامًا
يوم إطلاق سراح حسين، وحين دخل آمر السجن ينادي باسمه، توتّر الرجل، ظانًّا أنّه مطلوب لتحقيق أو تعذيب جديد، طمأنه الأسرى الفلسطينيّون: “يبدو أنّك ستخرج من هنا”، فاتّسعت عينا علي تريحيني: “حمّلني رسائل لوالدته، رغم صراخ الحرّاس عليه. وكلّ ما طلبه، أن أخبرها أنّ ابنها على قيد الحياة، لم يستشهد”. خرج حسين في حالة عدم يقين مما إذا كان سيفرج عنه فعلًا أم لا، وهو بات يرجّح فرضيّة الإفراج مع تسلّيمه أغراضه (ناقصة) كما يؤكّد: “سرقوا المحفظة وفيها عدّة مئات من الدولارات وأوراقي الثبوتيّة ورخصة القيادة”.
عاد حسين قطيش إلى عائلته، والتقى في اليوم التالي بأسرة علي ترحيني. هو اليوم يتابع علاجه، لكنّه يقول: “كلّ ما أغمضت عيوني، أتذكّر علي تريحيني، وبقاؤه معتقلًا حسرة في قلبي”.
في شهادته لـ”المفكّرة”، يقول قطيش إنّ الحرمان من الرعاية الطبيّة، والإهمال المتعمّد الذي تعرّض له شخصيًّا، وشهد عليه خلال مكوثه مع الجرحى في الرملة، يؤشّر إلى أنّ السلطات الإسرائيليّة “تنكر علينا إنسانيّتنا”، فأبسط حقوق الإنسان أن يمنح مسكّنًا لألمه، فضلًا عن حقّه الإنسانيّ في العلاج.
ويقول قطيش أيضًا إنّ العلاج وتأمين التواصل من خلال الصليب الأحمر الدوليّ، أولويّة قصوى “لأنّ الصحة الجسديّة تتدهور كلّ يوم، والصحّة النفسيّة كذلك، نتيجة الإهمال والعزلة”.
وتُظهر هذه الشهادات القاسية أيضًا الحاجة الملحّة إلى تدخل فاعل من قبل السلطة اللبنانية لاستخدام جميع أدوات الضغط المتاحة لضمان إطلاق سراح الأسرى والرهائن، ولاعتبار قضيّتهم أولويّة قصوى لا تحمل تأخيرًا.