عند الثانية إلّا ست دقائق من بعد ظهر الأحد 2 آذار 2025، خرَق صوت انفجار هائل سكون بلدة الدوسة العكّارية، وقضى على حياة وأحلام السيّدة رقيّة مبارك زوجة سامي الكردي وأطفالهما الأربعة. بدأ النهار رتيبًا، كانت الأم تعدّ طعام الإفطار لثاني أيام شهر رمضان، حين باغتها انفجار صهريج مركون داخل محطة شعبان لتعبئة الغاز التي تعيش في غرفة فيها مع زوجها ناطور المحطّة وأبنائهم الأربعة وهم من اللاجئين السوريين. لم يكن من سبيل للنجاة لأنّ العصف كان هائلًا والصهريج كان قريبًا جدًا من منزلهم.
قتلت الأم وثلاثة من أبنائها على الفور وأصيب ابنها الرابع ونقل إلى مستشفى القبيّات ثمّ إلى سورية حيث قضى في أحد مستشفياتها متأثرًا بحروقه.
وحسب شهود تواصلت معهم “المفكرة” كان هناك ثلاثة صهاريج غاز متوقفة داخل المحطة القائمة ضمن منطقة سكنية بامتياز، وكان ممكن للكارثة أن تكون أعظم لو انفجرت جميعها في آن. ورجّحت مصادر محلّية لـ “المفكرة” أن يكون الانفجار وقع نتيجة خلل فنّي في خزّان الصهريج غير المطابق للمواصفات، والذي يلحَّم يدويًا من أجل تهريب الغاز إلى سورية، على غرار جميع صهاريج المحطّة. وأكّدت المصادر أنّ المحطة غير مرخّصة وقد أقيمت في البلدة رغم اعتراض الأهالي.
وأظهرت صور كاميرات المراقبة أنّ الانفجار أدّى إلى قذف شاحنة صغيرة وعلى ظهرها خزّان عشرات الأمتار إلى الأمام، وإلى عصف هائل واندلاع حريق كبير في المنطقة الواقعة في الخلف وسط أصوات صريخ ونداءات، كما أدّت النيران إلى تضرّر شاحنتين واقعتين في مقربة من الصهريج الذي انفجر. وعلى الفور فرض الجيش اللبناني طوقًا حول المكان، ونقل الصليب الأحمر اللبناني الضحايا إلى المستشفيات.
وحريق الدوسة هو واحد من ثلاث حرائق اندلعت في شهر واحد في مناطق مختلفة في لبنان هي بالإضافة إلى الدوسة، الهرمل والميناء، وحصدت 11 طفلًا و3 بالغين.
فيديو يوثّق لحظة الانفجار والحريق
“محطة غاز تعمل برخصة بناء”
يروي الزوج والوالد المفجوع سامي الكردي الذي قرر العودة إلى قريته بعد الفاجعة لـ “المفكرة”، كيف تحوّل يوم عمل عادي إلى مأساة عائلية. ففي ذاك اليوم استقلّ الأب الشاحنة متجهًا إلى القبان لوزنها في بلدة عمار البيكات، وبعد دقيقة، سمع صوت انفجار. نظر إلى الخلف، فوجد حريقًا هائلًا في المحطة. ترك سامي الشاحنة في الطريق، وركض نحو المحطة، ليجد النار التهمت الغرفة التي يسكن فيها مع عائلته. خيّم اليأس على رب العائلة الذي يتحدث عن بقائه في حالة من الصدمة لمدة 4 أيام حيث لم يتمكّن من النوم مطلقًا. ويعتقد أنّ سبب الانفجار يعود إلى خلل في الشاحنة التي انفجرت، لأنّها “ملحّمة وغير مهيأة لضغط الغاز، وقد طار الجزء الخلفي الذي أدى إلى الانفجار والحريق”.
بدوره يروي عبد الغني شريتح رئيس بلدية الدوسة السابق لـ “المفكرة”: “كنت واقفًا عند مفرق القرية، عندما سمعنا انفجارًا قريبًا، قبل أن نكتشف أنّه حصل في محطة توزيع الغاز التي أنشئت قبل أربعة أشهر فقط ومن دون ترخيص”. ويضيف: “في تلك المنطقة هناك مدرسة خاصة (المجمّع التربوي)، كما يوجد العديد من المنازل التي تفصلها عن المحطة أمتار قليلة كما أنّ هناك منزلًا ملاصقًا لها ولكن لحسن الحظ أنّه غير مسكون وإلّا لكانت الخسائر أكبر”.
ويمنع المرسوم رقم 5509- الصادر في 11/8/1994 حول “تحديد الشروط التنظيمية العامة لمجمعات المشتقات النفطية السائلة وصهاريج النقل ومحطات التوزيع”، “إنشاء محطة توزيع محروقات سائلة على مسافة تقل عن 50 مترًا من الأبنية العامة والمدارس والمستشفيات والملاهي ودور العبادة والمطاعم ودور السينما”.
ويلفت شريتح إلى أنّ “مالك المحطة يعمل من دون رخصة استثمار محطة للغاز، فعندما راجعنا الرخصة اكتشفنا أنّها رخصة بناء فقط”، مرجّحًا أن “تكون الشاحنات المستخدمة أيضًا لا تتمتّع بالشروط الفنية والتقنية السليمة”.
يكشف شريتح عن “توجّه سابق للأهالي من أجل توقيع عريضة للمطالبة بإغلاق المحطة لتجنّب المخاطر ولكن الجهود لم تصل إلى خواتيمها”، كما أنّ “صاحب المحطة لم يستشر الأهالي ولم يسألهم عن رأيهم في إقامة المنشأة بين البيوت”. وجاء الانفجار ليودي بحياة أفراد يقيمون في غرفة أقيمت داخل مبنى المحطة وبين الصهاريج، ليثبت مشروعية المخاوف لدى السكان، ذلك أنّه “في الدوسة لم يكن هناك في السابق محطة لتعبئة وبيع الغاز”.
وعلمت “المفكرة” من مصادر أمنية أنّ المحطة تصنّف “مركز تخزين (غاز) فئة II” بحسب المرسوم 5509 وهي “كل مركز يحتوي على خزان واحد أو أكثر ذو سعة إجمالية لا تتجاوز 100 متر مكعّب زائد 10% وقد يحتوي على مركز لتعبئة القوارير وآخر لتسليم الغاز بواسطة الناقلات البرية”.
وتنصّ شروط هذه الفئة والفئات الأخرى على أن تكون المسافة الدنيا بين سكن الحارس والمحطة 15 مترًا.
من جهته، يرجّح الشيخ سمير العلمان، أحد فعاليّات البلدة، أن يكون “الصهريج الذي انفجر غير مؤهّل لتعبئة الغاز ومصابًا بعطل تقني لأنّه كان هناك صهريجان آخران أمام منزل الضحايا ولم ينفجرا”، ويرجّح أن يكون سبب الانفجار تسرّب للغاز “لأنّ المنزل تعرّض لعصف شديد”. ويكرّر العلمان ما قاله شريتح بأنّ “الانفجار وقع في منشأة خطرة أقيمت رغم معارضة الأهالي”. كما يطالب الدولة اللبنانية بتشديد المراقبة على المنشآت الصناعية، وقمع عمليات تهريب الغاز إلى سورية بواسطة صهاريج غير مؤهّلة، لأنّ الثمن تدفعه العائلات البريئة، فيما يحصل المستثمر على الغنائم من خلال تهريبها إلى الداخل السوري عبر الحدود مع عكار.
وقد ذكّرت المأساة الجديدة، بمأساة انفجار التليل الذي وقع قبل أربعة أعوام ونصف العام وأدى إلى سقوط أكثر من 30 ضحية من الدوسة والمحيط. وفي المأساتين اجتمعت ظروف الإهمال مع استغلال جغرافيا عكار لتهريب مواد الطاقة إلى سورية.
الأطفال الضحايا
مساعي الصلح تسقط شكوى الأب
إلى سورية، عادت جثامين ضحايا الانفجار للمرة الأخيرة حيث تولّى الأب سامي الكردي دفن أفراد عائلته. ووريت الأم رقية الثرى جنبًا إلى جنب مع أطفالها الأربعة في قرية العامرية في محافظة حمص حيث اجتمع حشد من أهالي القرية لأداء صلاة الميت عليهم.
ويقول رب العائلة إنّه بعد مغادرته إلى سورية لنقل ابنه الرابع المصاب والذي كان لا يزال على قيد الحياة، وجثامين أولاده الثلاثة وزوجته، أوكل شقيقه تقديم شكوى لدى مخفر القبيات، قبل إسقاطها بفعل مساعي الصلح ويضيف “نحن عمال، ولسنا من أصحاب المشاكل، لذلك قرّرنا إسقاط الحق واعتبار ما حدث قضاء وقدر”. وذكر مصدر من العائلة إنّ لجنة صلح زارت الأب في العامرية وأصحاب المحطّة دفعوا ديّة للأب.
وقد علمت “المفكرة” من مصادر أمنية أنّ مخفر القبيات في قوى الأمن الداخلي قد بدأ التحقيق في القضية تحت إشراف النيابة العامة، وتمّ الكشف الميداني على مكان التفجير. وتلفت المصادر إلى “عدم وجود موقوفين في الملف حتى الساعة، في انتظار استكمال التحقيقات وأنّه لم يستجوب أحد من أصحاب المحطة حتى الآن”، مع العلم أنه تم إسقاط الحق الشخصي للعائلة مقابل تعويض زهيد لا يتخطى 13 ألف دولار، عن الأم وأبنائها الأربعة، وفق ما أكد مصدر متابع للقضية لـ “المفكرة”.
من جهته، يتحدث باشا شريتح، مختار الدوسة، عن “إغلاق المحطة التي انفجر الصهريج في حرمها بصورة مؤقتة”. ويقول أنّه “لم يكن في الدوسة محطة لتعبئة الغاز، وكان الأهالي يشترون الغاز من بائع جوّال يمتلك صهريجًا، ويركنه في أيام محدّدة على طريق العام إلى أن جاء شاب من مشحا، اشترى الأرض من أبناء القرية وأقام فيها محطته ومبنى من طبقتين”. ويرفض المختار تحميل المسؤولية لأحد قبل صدور نتائج التحقيق وكشفها السبب الحقيقي للانفجار. ويشير المختار شريتح إلى أنّ هناك فرضيات عدّة حول المسبب من ضمنها مصدر نار بالقرب من الصهريج، بالإضافة إلى الضعف في هيكل الشاحنة “لأنّه قيل لي أنّ حديدها رقيق وغير صالح للتخزين”. فيما يقرّ بأنّه كانت هناك اعتراضات من الأهالي تجاه إقامة المحطة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.