“
عبرت مسيرة لأمهات لبنانيات يوم الأربعاء في 27 تشرين الثاني ما كان سابقاً خط تماس خلال الحرب الأهلية بين الشياح وعين الرمانة، للتأكيد على أنّهنّ لن يسمحن بأيّ تهويل بعودتها. وقادت الأمهات مسيرة من أمام محمصة صنين في عين الرمانة ذات الغالبية المسيحية، وعبرن إلى شارع أسعد الأسعد في الشياح ذات الغالبية المسلمة (الشيعية)، ووقفن عند النقطة التي تُعرف بالـ “فور يو”، وأصواتهن صادحة في سماء المنطقة: “لا للحرب الأهلية، إسلام ومسيحية”. وفي لا الناهية في هتافهنّ حسمٌ ورفض قاطع للحرب وذلك في رد مباشر على ما حصل قبل ليلة من المسيرة بين شباب المنطقتين من توتّر وتراشق للحجارة ما استدعى انتشاراً كثيفاً للجيش اللبناني عند تفرعات المنطقة ووقوفه فاصلاً بين الشباب المتجمهرين.
ولأسباب عدة نزل خبر الإشكال ليل الثلاثاء كالماء البارد على بعض من أهالي المنطقتين، أولاً لأنّه أظهر أن الانقسام ما زال موجوداً بينهما، ثانياً لرمزية عين الرمانة والشياح تحديداً كمنطلق لشرارة الحرب الأولى ولأن الطريق بينهما كان خط تماس في الحرب وشهد أبشع عمليات القتل والقنص والخطف. لذلك لم يكن التهويل بالحرب الأهلية أو بـ 7 أيار جديد سيمر مرور الكرام على جيل شهد الحرب وتحمّل خسائرها سواء في الممتلكات أو بالأرواح أو بالمفقودين.
لا مجال لتكرار الماضي الأليم
لذلك أرادت الأمهات الأربعاء، أن يؤكّدن لمن يُريد إحباط الثورة الشعبية والتهويل بالحرب أنه “لا مجال لتكرار الماضي الأليم”، وفقاً ليافطة حملتها إحدى النساء لذلك “روحوا العبوا غيرها”. فتحدت النساء التخويف والتهويل، وأسقطن الرعب. وصحيح أنّ كثيرات منهنّ أكّدن أنّ ما حصل الثلاثاء هو “ولدنة”، إلّا أنهنّ أصرّين أنّه من النوع الذي يجب التعامل معه بمسؤولية.
حملت إحداى السيدات الورود ووزعتها على المشاركات، وأخرى حملت مكبر الصوت وهتفت وردّت النساء وراءها: “ما بدنا طائفية، بدنا وحدة وطنية.. بدنا نعيش بحرية، لا للحرب الأهلية”. وسارت الأمهات بين المباني يناشدن من يلتزمون بيوتهم للنزول والانضمام إليهن. وما أن وصلت المسيرة إلى الشياح، حتى علا التصفيق بين الشباب المتجهمرين على طرفي الطريق وبدأ نثر الأرز من على شرفات المنازل، وعلت الزغاريد في أجواء المنطقة. وكان هذا المشهد كافياً ليجعل كثيرات يعبّرن عن فرحهنّ بذرف الدموع والعناق، لاسيّما أنّه أتى بعد ليلة أعادت إحياء ذكريات الحرب الأهلية. ومن ثُم عادت السيدات إلى نُقطة الانطلاق، وهناك غنّين معاً “طلّوا حبابنا طلّوا، نسّم يا هوا بلادي”.
ما قالته مسيرة الأمّهات كان واضحاً: رغم مرور تسعة وعشرون عاماً على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لا تزال ذكراها حاضرة في أذهان أهالي عين الرمانة والشياح. وتشرح إحدى المشاركات لـ”المفكرة” أنّه “في هذه النقطة ذكريات لا تزال معالمها واضحة على جدران بعض المباني من خلال ثقوب أحدثتها طلقات الرصاص. واسم المنطقة وحده يُحرّك الذكريات الأليمة في أذهان اللبنانيين فكيف إذا حصل توتّر؟”. وتضيف: “الحقيقة أن عين الرمانة هي جزء من الشياح إدارياً، حيث أن البلدية معروفة ببلدية الشياح، ولكن الحرب الأهلية وتوابعها فصلت معنوياً الأحياء عن بعضها، فباتت الشياح منطقة وعين الرمانة منطقة أخرى”. ولكن مشاركة أخرى تردّ على مسألة الفصل المعنوي بين المنطقتين بالقول: “لا فصل بين المنطقتين، أنا أعيش في الشياح وأختي في عين الرمانة”.
حلواني: لا نريد أن نُطالب بمفقود آخر
لم يكن من الممكن أن تحصل المسيرة من دون مشاركة السيدة وداد حلواني، رئيسة “لجنة المفقودين والمخفيين قسراً” التي تُكابد منذ سنوات طويلة مع أهالي المفقودين للمطالبة بالكشف عن مصائر أحبائهم. فهي لا شكّ ترفض أي نوع من التوتر الداخلي يُلمّح إلى الحرب أو يُذكّر بها. وتقول لـ”المفكرة” “حين رأيت على التلفزيون الإشكال بين عين الرمانة والشياح، عرض شريط الحرب الأهلية على الفور أمامي”. وتضيف حلواني التي اختطف زوجها عام 1982: “أولادي كانوا صغاراً، تمنّيت وقتها لو أعيدهم إلى رحمي من شدّة الخوف عليهم”. وتتابع “نحن أهالي المفقودين ما زلنا نحمل جرح الحرب، كيف يريدون منّا أن نصمت على خبر يتحدّث عن توتّر بين الشياح وعين الرمانة؟”. وتختم، “لهذا أتيت، لا نريد أن نعيد الماضي، لا نريد أن نُطالب بمفقود آخر”.
من جهتها تُعبّر السيدة زينة كرم، إحدى الأمهات المشاركات في المسيرة: عن “وجعي وقهري، عن خوفي ع أولادي، ما بدي يبزقوا علينا ويسألونا شو هالبلد الذي ورثناه عنكم”. وتُضيف: “الحرب هي خوف وخوف وخوف وزعل وقهر ومآسي…”. وتتحدث السيدة نضال حلو بدورها عن أنّ “أولادي يلومون جيلي على الطبقة الحاكمة في البلد، يقولون لي أنتم من أتيتم بها، لذلك أريد لأولادي بلداَ أفضل يعيشوا فيه وألّا يهاجروا منه”.
وتُراهن سيدة أخرى على أنّ “من سيرى أُمه اليوم في الشارع لن يُفكر غداً بالمشاركة بأي إشكال يوتّر الأجواء في البلاد”.
في مقابل هذا القلق الذي عبّرت عنه الأمهات والنساء الأكبر سنّاً، برز خطاب آخر لدى الشابات المشاركات فبرأي ياسمين المصري، إنّ الإشكال الذي حصل في اليوم السابق للمسيرة “مجرّد محاولة تخويف وعطش لإبراز العضلات، إنه تستوستيرون متنقّل”. وتعتبر المصري أنّ “المجتمع سيعبر هذه المرحلة إلى أن نصل إلى تغيير حقيقي”.
قبل انطلاق المسيرة، كان رجل طاعن في السن يتكئ على عصاه وينظر حوله وتعلو تجاعيد وجهه ابتسامة. بدا متفائلاً بهذه الخطوة التي قامت بها الأمهات: “لقد أُصبت في الحرب 5 مرات، ومن يُريد معاودة الحرب الأهلية فهو مشبع بالحقد والكراهية، ولا يعرف المحبة. نحن نريد المحافظة على بلدنا لعدم تكرار الماضي الأليم”.
“