“
ضجت مدينة الهرمل مؤخراً بخبر”مفرح” تمثل بقيام مخفر قوى الأمن الداخلي في المنطقة بإقفال أكثر من مسمكة مخالفة على نهر العاصي بالشمع الأحمر، وتوقيف أحد أبرز مربي الأسماك المشهور بتغذية مسامكه على مخلفات المسالخ من أحشاء الدواجن وبقايا اللحوم غير الصالحة للإستخدام البشري وكذلك دهون الخنزير. وكانت “المفكرة” قد نشرت منذ فترة مقالا حول تلوث العاصي من ضمن عددها الخاص حول مناطق الموت.
لكن فرحة الناس، المتروكين للحرمان والفقر والإهمال، خارج خريطة الدولة، لم تكتمل. لم يمضِ أكثر من 24 ساعة على الإقفال وتوقيف أحد تجار الأسماك من المخالفين، وهو بالمناسبة أحد أهم المتسببين بتلويث النهر، حتى جاء الأمر بالإفراج عنه، وتسكير ملفه بعد إعادة فتح مسمكته التي تحتوي على مسامك كثيرة. أمر توقيف مربي الأسماك وإقفال بعض المسامك بالشمع الأحمر، جاء من المدعي العام البيئي في البقاع إياد بردان. القاضي بردان نفسه عاد وأفرج عن الموقوف بعد 18 ساعة على توقيفه، ومن ثم إعادة فتح المسامك وتسكير الملف.
خضت هذه الحادثة المنطقة بأكلمها، وصارت عبارة “يا فرحة ما تمت” بمثابة غصة لدى أهالي المنطقة، كونها المرة الأولى التي يشعرون فيها بوجود مخفر لقوى الأمن الداخلي في مدينتهم، مخفر لم يسبق أن قام بدوره قبلا.
يقول مسؤول ملف نهر العاصي في اتحاد بلديات الهرمل عباس الجوهري ل “المفكرة” أن الإتحاد بصدد عقد مؤتمر صحافي يعلن فيه “أن هناك تقاعسا وتواطؤا من قبل القضاء وإدارات الدولة والوزارات المعنية بنهر العاصي مع مخالفي القانون ومتجاوزيه والمتسببين بتلويث النهر”.
من جهته، يؤكد وزير الزراعة غازي زعيتر ل”المفكرة” أنه يرفض أي تدخل في ملفات مماثلة من شأنها مكافحة تلوث العاصي، مؤكداً أنه يرفع الغطاء عن أي مخالف أو ملوث في المنطقة”. وأشار زعيتر إلى أنه سيكلف مكتب وزارة الزراعة في المنطقة متابعة ما حصل وإبلاغه بكل التطورات في لحظتها، مشدداً على التزامه “حماية نهر العاصي ومعالجة مصادر التلوث”.
ولكن ماذا حدث؟
ومن ذا يغسل يديه من جريمة العاصي؟
المسمكة تلوث العاصي بالجرم المشهود
بدأت القصة في 22 آب 2018 عندما داهم رئيس مخفر الهرمل علاّم رعد إحدى المسامك التي تغذي أسماكها على مخلفات المسالخ الممنوعة وفق القانون. أرسل رعد صور أحشاء الدواجن العائمة على سطح مياه المسامك التي تشكل فروعا من نهر العاصي وتعود مياهها إلى المجرى الرئيسي، إلى المدعي العام بردان. أعطى هذا الأخير إشارة فورية بإقفال المسمكة بالشمع الأحمر. هذه الرواية يؤكدها رئيس مركز الثروة السمكية والحرجية التابع لوزراة الزراعة في الهرمل هزاع دندش للمفكرة.
بتاريخ 3 أيلول 2018، داهم رعد مجدداً بمعية دندش إحدى المسامك المعروفة بأن صاحبها يغذي أسماكه على مخلفات المسالخ. قام رئيس المخفر وفق دندش بتصوير أحشاء الدواجن العائمة على وجه الماء مجدداً وإرسالها إلى المدعي العام البيئي في البقاع الذي أعطى إشارة جديدة بتشميع المسمكة بعد إخلائها من الأسماك، وكذلك بتوقيف صاحب المسمكة”.
تقرير من وزارة الصحة ينقذ المسامك من تبعات الجرم المشهود
لم يمضِ سوى 18 ساعة من توقيف صاحب المسكمة حتى أمر المدعي العام البيئي بتركه رهن التحقيق وتكليف وزارة الصحة بإرسال مندوب لأخذ عينة من المسمكة لفحصها. بعد ثلاثة أيام جاء تقرير مندوبة وزارة الصحة ليؤكد خلو الأسماك من أي تلوث بأحشاء الدواجن. في إثر التقرير، أمر المدعي العام البيئي بإعادة فتح المسامك، وكذلك إقفال ملف الموقوف صاحب المسمكة، وكما أعاد فتح المسمكة التي أقفلت في 22 آب 2018، برغم أن مندوبة وزارة الصحة لم تشملها بالعينات ونتائجها.
هذه النتيجة أثارت بلبلة في الهرمل ومنطقتها وبين أهلها. يقول البروفيسور في الجامعة اللبنانية والناشط في حماية نهر العاصي علي الحسيني للمفكرة أن “هناك تدخلاً من قبل بعض القوى السياسية لصالح بعض المتنفذين والمحسوبين على بعض أحزاب السلطة في المنطقة مما يحول دون تنفيذ القرارات الردعية تجاه المخالفين للقانون من ملوثي العاصي”. ويستغرب الحسيني تقرير مندوبة وزارة الصحة مشككا بالنتائج، ليشير إلى أن هناك شاحنات ما زالت تفرغ حمولتها من مخلفات المسالخ يوميا في نهر العاصي وع “عينك يا تاجر”، مطالبا اللواء عماد عثمان، مدير عام قوى الأمن الداخلي، “بحماية العناصر الأمنية التي تطبق القانون وتكافح الفساد”.
مخالفات يندر إثباتها… وغرامات زهيدة
مكتب وزارة الزراعة نفسه لا ينجو من الإنتقادات، حيث أفادت معلومات للمفكرة أن هناك طلبات أرسلت إلى المركز للكشف على مسامك مخالفة “ولم يحصل شيء”. من جهته يؤكد دندش (رئيس مركز وزارة الزراعة) أن هناك عشرة أطنان على الأقل من أحشاء الدواجن تدخل إلى نهر العاصي يوميا ولقد حررنا من 25 إلى 30 مخالفة لم تجد سبيلها إلى معاقبة مرتكبيها”. ويروي دندش كيف أن مخالفة واحدة انتهت إلى تغريم صاحب المسمكة مبلغ مئة ألف ليرة لبنانية فجاء إلى مكتب وزارة الزراعة وسخر منهم ومن تحريرهم للمخالفات ومن قيمة الغرامات أيضاً. ويشير إلى أن “عناصر المركز يجولون يوميا على المسامك ويحررون مخالفات بكل تجاوز مثبت”.
مصادر مطلعة أكدت للمفكرة أن أصحاب المسامك باتوا يأتون بمخلفات المسالخ ليلاً وما بين منتصف الليل والفجر منعا لضبطهم بعد تشديد المراقبة عليهم. والأهم أنه بعد ما حصل مؤخرا ساد إحباط عام من عدم جدوى مكافحة الفساد في ظل التدخلات السائدة.
تعتبر التدخلات وفق القانون جريمة جزائية قد تصل حدّ صرف النفوذ واستخدامه مع أي من ممثلي السلطات الرسمية سواء في قوى الأمن أو موظفي الدولة أو الخبراء المكلفين أو القضاة بهدف خدمة شخص آخر.
استبعاد الشاهد الذي يعرف..
يؤكد رئيس مركز وزارة الزراعة هزاع دندش أن أحداً لم يستدعه للإدلاء بشهادته في ما حصل خلال مداهمة المسامك التي تغذي أسماكها على مخلفات المسالخ “وأنا موظف في إدارة رسمية في وزارة تمتلك وصاية على نهر العاصي”.
في المقابل، يحمل دندش مسؤولية ملاحقة الآليات التي تنقل مخلفات الدواجن إلى العاصي إلى اتحاد بلديات الهرمل وقوى الأمن الداخلي “نحن كوزارة زراعة لا نتمتع بهذه الصلاحية”. ويرى دندش أنه على بلديتي الهرمل والشواغير قوننة مزارع الأسماك “إذ ليس هناك أي مسمكة مرخصة من بين نحو ستين مسمكة على العاصي”.
وإذ يؤكد دندش أن القانون يمنع تغذية الأسماك بمخلفات المسالخ، يتوقف عند عدم وجود شرطة بلدية فعّالة “هناك شرطيان اثنان في بلدية الهرمل ولا يوجد شرطي بلدي واحد في بلدية الشواغير (يقع نهر العاصي في نطاق الهرمل والشواغير) علماً أن أصغر بلدية في المنطقة لديها ما بين 10 إلى 15 شرطي”.
التغذية بمخلفات المسالخ توفر آلاف الدولارات يومياً
تحتاج أي مسمكة تحتوي على مئة طن من الأسماك إلى 2500 كيلوغرام من العلف المستورد، وفق دندش. يبلغ سعر طن العلف (الف كيلوغرام) 1700 دولار أميركي، أي أن كلفة التغذية بالعلف تبلغ 4250 دولار يوميا. في المقابل يبلغ ثمن 2500 كيلوغرام من مخلفات الدواجن 500 دولار، أي أن صاحب أي مسمكة يوفر 3750 دولار أميركي يومياً، أي 112 الف دولار توفير في الشهر. هنا يبرز التوفير الكبير الذي يحصده من يغذي أسماكه على مخلفات المسالخ من جهة، وعدم تأثره بأي غرامة مالية صغيرة من جهة ثانية.
وفق مسؤول ملف العاصي في إتحاد بلديات الهرمل عباس الجوهري “هناك أصحاب مسامك يقولون أنهم يدفعون رشاوى هنا وهناك”.
العاصي على طريق الليطاني
” العاصي على طريق الليطاني” تنتشر هذه العبارة كالنار في الهشيم في منطقة الهرمل والبقاع ويصل صداها إلى كل لبنان، كصرخة لإنقاذ نهر العاصي من مصير الليطاني القاتل. لكن المفاجئ أن الجميع يصرخ مدعيا حرصه على إنقاذ العاصي، فيما يجري العاصي، العاصي للطبيعة، من الجنوب إلى الشمال، ولا أحد قادر حتى الآن، على ردع المخالفين والمتسببين بتلوثه، والأهم الذين يحمونهم ويتدخلون لمنع معاقبتهم. لم يعد النهر الجارف نفسه. صارت رائحته قاتلة وآسنة، فيما صُبغت مياهه باللون البني بعدما يقطع المسامك والمقاهي والمنتزهات والمطاعم المتمركزة على ضفافه والتي تعتدي عليه كل على طريقتها.
“