من أمام المسرح البلدي في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس، بدا أن ما يحدث في المدن اللبنانية منذ 18 أكتوبر الجاري قد بلغ صداه تونس. إذ شهد شارع الثورة مساء يوم الإثنين 21 أكتوبر 2019، وقفة احتجاجية تحت شعار “لبناني ينتفض”، دعما وتضامنا مع “الشعب اللبناني في انتفاضته المدنية والسلمية ضد الفساد والنظام الطائفي والتبعية والزبونية الحزبية” بحسب ما جاء في نص الدعوة التي أطلقها عدد من نشطاء المجتمع المدني على مواقع التواصل الاجتماعي. حالة الإنغماس في الشأن السياسي الداخلي بعد انتهاء الفترة الانتخابية، لم تحل دون أن يتفاعل الشارع التونسي مع الأحداث في لبنان، ليتماثل المشهد تقريبا طيلة ساعتين بين تونس وباقي المدن اللبنانية المنتفضة.
نفس الهتافات التي تابعها الملايين على مواقع التواصل الاجتماعي، أصوات تصدح بالنشيد الوطني التونسي والنشيد الوطني اللبناني، وتدخلات وحوارات بلهجة لبنانية من أبناء الجالية في تونس، مارة يحيّون وحضور أمني ملحوظ، وعشرات الرايات تحمل علمي البلدين ولوحات خطها المحتجون بأنفسهم تستنسخ تلك التي رفعها المنتفضون في مختلف المدن اللبنانية. هكذا تقريبا كانت الصورة في الساحة التي تجمهر فيها المشاركون في وقفة المساندة للثورة اللبنانية التي انطلقت عند الساعة السادسة بعد ظهر ذلك اليوم حيث شارك العشرات من التونسيين وأفراد الجالية اللبنانية في تونس في الوقفة الاحتجاجية التي بدأت الدعوات إليها منذ انطلاق أولى المظاهرات في لبنان.
بعد الجزائر والسودان، الشارع التونسي ينتصر للبنان
وسط صمت مطبق من وزارة الخارجية التونسية تجاه ما يحدث في لبنان منذ نهاية الأسبوع الفارط، كان للشارع رأي آخر، حيث اختار الإنحياز إلى انتفاضة الشعب اللبناني، معلنا التضامن التام والدعم المطلق لمطالب المحتجين في لبنان. موقف لم يختلف عن محطات سابقة خرج خلالها التونسيون معلنين مساندتهم للثورة في الجزائر وفي السودان، ومحتجين على التنكيل والقمع الذي يتعرض لهما الشعب المصري. بالعودة إلى حيثيات بلورة وتنظيم هذا التحرّك، يؤكد الناشط في المجتمع المدني وأحد منظمي وقفة المساندة، عادل العزوني، أن الفكرة تبلورت من رغبتهم كنشطاء في المجتمع المدني التونسي في مواصلة تحركاتهم الداعمة لانتفاضات الشعوب في كل رقعة من العالم، خصوصا وأنهم نجحوا سابقا في تنظيم مثل هذه التحركات. وما شجعهم على المضي قدما هو ما بلغهم عن طريق بعض أصدقائهم اللبنانيين من رغبة الجالية اللبنانية في تونس في التحرك دعما للمنتفضين في الداخل اللبناني. موضحا أن الاتصالات انطلقت بين الطرفين ليبدأ التنسيق على مستوى التراخيص والشعارات التي تُرك للبنانيين الحرية الكاملة في اختيارها. أما عن هدف تنظيم هذه الوقفة، فأوضح العزوني أن الرسالة التي يريدون إيصالها إلى الشعب اللبناني أنهم ليسوا وحدهم، بل كل العالم يساندهم ويدعم مطالبهم وانتفاضتهم ضد النظام. ليضيف أن للتحرك رمزية هامة، كون تونس التي انطلقت منها الموجة الأولى من الثورات العربية ستكون من أوائل البلدان العربية التي تعلن على المستوى الشعبي دعمها للبنانيين.
لا يختلف موقف عادل العزوني عن مداخلة الناشط في المجتمع المدني، حمزة نصري جريدي الذي شدد على أن الهدف الأساسي من مشاركته في هذه الوقفة، هو التعبير عن المساندة والتضامن مع الشعب اللبناني. إذ يعتبر حمزة أن مطالب الشعوب العربية متقاربة ومتشابهة لأن الواقع والظروف متشابهة. كما أن على التونسيّين بحسب حمزة أن يردوا الجميل لشعوب العالم التي تضامنت مع ثورتهم وساندتها، ومن حق القضايا العادلة عليهم أن يقفوا اليوم دعما لها. وحول قراءته للأحداث في الداخل اللبناني، أجاب محدثنا بأن ما يحدث اليوم في لبنان هو رد فعل طبيعي على واقع الفساد والإقصاء والتهميش. الشعب اللبناني لم يعد قادرا على تحمل تردي الظروف الاقتصادية والاجتماعية واستشراء الفساد والمحسوبية وحكم الجماعات والدوائر النفوذ والمال. وضع يشبه إلى حد كبير نظيره في تونس على مستوى تردي الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأغلبية الساحقة في مقابل مزيد تزايد ثروات مجموعات صغيرة تحتكر السلطة والمال.
أما عن مخاوفه، فعبر حمزة عن رغبته في أن يستخلص اللبنانيون الدرس من المثال التونسي. فالحراك الشعبي غير واضح المطالب وغير المؤطر بأدوات الاحتجاج الواضحة والمضبوطة، سيسهل إلى حد كبير الالتفاف عليه واستيعابه على غرار ما حدث في تونس من صعود القوى المعادية للتقدم والتغيير.
التونسيون للبنانيين: قلوبنا معكم والدعم سيستمر
من منظمات حقوقية وجمعيات نسوية ونشطاء سياسيين، تنوعت المشارب الفكرية للمحتجين الذين احتلوا مدارج المسرح البلدي. لكن الجميع التزم برفع العلمين اللبناني والتونسي لا غير في إشارة إلى وحدة الحراك في الداخل اللبناني وحدة الموقف بين المحتجين. تقليد درجت على اتباعه مختلف التحركات المساندة لانتفاضات الشعوب العربية في تونس. في هذا السياق، أشار الباحث والناشط السياسي علي كنيس أنه جاء ليشارك في هذا التحرك مساندة للمنتفضين ضد السياسات الاقتصادية الليبرالية في لبنان وخصخصة الخدمات ورهن المواطنين وفي مواجهة المحاصصة الطائفية وتردي الخدمات العمومية وتدهور وضعية الفئات الشعبية. ليؤكد أن ما يشهده لبنان اليوم هو جزء من موجة ثورية تعيشها المنطقة بداية من الجزائر والسودان وصولا للعراق ولبنان، والتي تعتبر مرحلة هامة لمواجهة أنظمة الاستبداد والتفقير والاستغلال والطائفية خاصة في حالتي لبنان والعراق الذي شهد حراكا غير مسبوق أمام أنظمة استشرى فيهما الفساد والتهميش والاقصاء وهيمنة رأس المال والفساد. لكنها في نفس الوقت استمرار للثورة التي انطلقت من تونس في أواخر 2010 وسنة 2011 وامتدت لتشمل مصر وليبيا وسوريا واليمن. ويضيف الباحث علي كنيس أنه ورغم كل الالتفافات من قبل القوى المحلية والاقليمية والدولية، تثبت الجماهير مرة أخرى قدرتها على تصحيح البوصلة. ولعل العراق ولبنان اليوم دليل على ذلك، كما الحال في الجزائر والسودان التي تشهد حراكا وثورات لم تتراجع رغم كل محاولات الالتفاف من قبل الحكومات والأنظمة المتعاقبة.
الخوف على مستقبل انتفاضة الشعب اللبناني كان حاضرا في نقاشات المشاركين، هاجس ترجمه الناشط حمزة نصري جريدي الذي أشار إلى تواصله الدائم مع بعض الأصدقاء اللبنانيين والفلسطينيين المقيمين بلبنان، والذين أخبروه أن الوضع لا يبشر بخير. أما الباحث والناشط السياسي علي كنيس فقد أعرب عن مخاوفه من طبيعة المحتوى الإعلامي الذي يركز على صورة وردية تطمس عمق الحراك والمظاهرات والاحتجاجات والمطالب. ليسترسل موضحا أن المزعج وغير المقبول في علاقة بما يشهده لبنان وهو التعامل الفرجوي مع مظاهرات لبنان. فما يتم تصويره من قبل بعض وسائل الاعلام وبعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي يختزل عنف النظام وصمود المنتفضين في صور وتعليقات وايحاءات ذكورية وشبقية جنسية بما يطمس حقيقة الأزمة ويتجاوز ذلك لإفراغ الحراك من عمقه. ليضيف؛ “لقد واجهنا في تونس هذا التعامل بشكل آخر من خلال الإعلام الفرنسي الذي وصف ثورة سيدي بوزيد عندما بلغت تونس العاصمة أنها انتفاضة الياسمين في إسقاط لمسميات لا علاقة لها بالثوار ومطالبهم. كما أن التعامل مع الحراك الذي يشهده لبنان بهذه الكيفية قابله تجاهل لثورة السودان من قبل البعض وهو تعامل انتقائي ويستبطن قناعا وعنصرية بيضاء اعتدى عليها الإعلام وصانعو ومحللو المحتوى في الخارج وتسرب هذا التعامل للمحتوى الإعلامي العربي وتكثف حتى من خلال المتضامنين الانتقائيين في العالم العربي”.
حول المتجمهرين، انتشرت قوات الأمن التونسية التي كان أغلبها في زي مدني، محاولين التضييق نسبيا على الصحفيين الذين حاولوا تغطية الوقفة. ممارسات تعكس في جانب منها موقف القيادة السياسية التونسية التي التزمت الصمت حول الأحداث التي تشهدها لبنان منذ أسبوع تقريبا. لكن الشارع التونسي الذي نجح في إيصال رسالة الدعم والمساندة سيواصل بحسب الناشطيْن في المجتمع المدني؛ عادل العزوني وحمزة نصري جريدي، في التحرك بموازاة تطور الأحداث في لبنان. إذ أكدا أن الدعوات انطلقت للاجتماع مجددا من أجل بحث ديمومة الحشد والمساندة لضمان مزيد التعريف بالحراك الاحتجاجي في لبنان والضغط عبر كل الوسائل من أجل تحقيق أهداف المنتفضين.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.