في تقريرها الصادر في تاريخ 28 تشرين الأوّل تحت عنوان “الإبادة الجماعية بوصفها محوًا استعماريًا”، تناولت فرانشيسكا ألبانيزي، المقرّرة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الأهوال التي تتكشّف في فلسطين، معتبرةً أنّ الاستمرار في تنفيذ مشروع إقامة إسرائيل الكبرى يهدد السكان الفلسطينيين بمحوِهم من الوجود. وفي نهاية التقرير، أوصت المحامية الإيطالية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتحذير إسرائيل من احتمال تعليق عضويتها في الأمم المتحدة وفقًا للمادة 6 من ميثاقها. وفي أعقاب ذلك، أعلنت دولة ماليزيا أنّها تعتزم تقديم مشروع قرار للجمعية العامّة للأمم المتحدة يقضي بطرد إسرائيل منها بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان وجرائمها الإبادية. فما هي الشروط لتفعيل هذه الآلية وهل من إمكانية لذلك؟
شروط الفصل من الأمم المتحدّة
تنصّ المادة 6 من ميثاق الأمم المتحدة أنّه إذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق، جاز للجمعية العامّة أن تفصله من الهيئة بناءً على توصية مجلس الأمن. وقد حدّدت المادة الأولى من الميثاق هذه المبادئ ومنها حفظ السلم والأمن الدوليين،وقمع أعمال العدوان، والتذرّع بالوسائل السلمية وفقًا لمبادئ العدل والقانون الدولي لحلّ المنازعات الدولية (الفقرة 1) واحترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها (الفقرة 2) وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية بلا تمييز (الفقرة 3). وكذلك في المادة 2 التي تفرض على أعضاء الأمم المتحدة تقديم العون لها وتحظر عليهم في علاقاتهم الدولية التهديد باستعمال القوّة أو استعمالها على أي وجه لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
أما الشرط الجوهري الأول المنصوص عليه في المادة 6 وهو الإمعان في انتهاك مبادئ الميثاق، يعني أنْ يكون الطرف المنتهك قد خرق أكثر من مبدأ من هذه المبادئ، وأن يكون مصرًّا على تكرار الممارسة المخالفة.
لائحة الاتهام في حقّ إسرائيل
تجلّت هذه الانتهاكات بشكل واضح في الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين في قطاع غزة، وفي حربها على لبنان، وإن لم تكن وليدة هذه الحرب. فهي ممارسات لصيقة بدولة الاحتلال منذ تأسيسها. ولكن في السنة الماضية فقط، تكاد انتهاكاتها السافرة والممنهجة لميثاق الأمم المتحدة لا تعدّ ولا تحصى. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولًا، انتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، من خلال ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين في قطاع غزة، والتي أقرّت محكمة العدل الدولية الناظرة في دعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل في قرارها الصادر في كانون الثاني 2024 باحتمالية وقوعها وبوجود خطر حقيقي ووشيك بإلحاق ضرر لا يمكن جبره بحقوق الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية منع الإبادة.
ثانيًا، انتهاك أوامر محكمة العدل الدولية في دعوى الإبادة، والتي فرضت على إسرائيل اتخاذ جميع التدابير لمنع ارتكاب الإبادة الجماعية، ومنع التحريض المباشر والعلني على ارتكابها ومعاقبته، واتخاذ تدابير فورية وفعّالة لتوفير الخدمات الأساسية الملحة وتقديم المساعدة الإنسانية للقطاع. علمًا أنّ المحكمة أكّدت على هذه الأوامر في قرارات إضافية أخرى، آخرها في أيار 2024 حيث أمرت بوقف الهجوم العسكري على رفح فورًا، إلّا أنّ إسرائيل لم تلتزم بأي منها.
ثالثًا، عدم مباشرة إسرائيل اتخاذ أيّ إجراء تنفيذًا لقرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة في تاريخ 18 أيلول 2024 الذي ألزمها بإنهاء احتلالها غير القانوني للأراضي الفلسطينية المحتلّة منذ عام 1967 خلال مهلة عام، وتنفيذ موجباتها وفقًا للقانون الدولي فورًا. وكان القرار قد صدر تبعًا للفتوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية في 19 تموز 2024 التي أقرّت فيها بانتهاك إسرائيل لحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وللقواعد التي تحظر العزل والفصل العنصري، وخلصت إلى اعتبار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ العام 1967 غير قانوني، وأعلنت موجب إسرائيل بإنهائه ووقف الاستيطان وتعويض الفلسطينيين.
رابعًا، إصدار الكنيست الإسرائيلي تشريعًا يلغي فيه الاتفاقيات الموقّعة مع وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ويمنعها من العمل في ما أشار إليه بـ “الأراضي السيادية لدولة إسرائيل”. ويأتي هذا التشريع كجزء من المشروع الإبادي في حقّ الفلسطينيين كون الوكالة مسؤولة عن تقديم المساعدة والحماية لأكثر من 5.9 مليون فلسطيني في فلسطين المحتلة ولبنان والأردن وسوريا. وقد تأسّست الوكالة بموجب قرار من الجمعية العامّة للأمم المتحدة في العام 1949. وكرد فعل على ذلك، أكّدت العديد من الجهات الأممية والدولية، بما فيها أعضاء مجلس الأمن، أنّ هذا التشريع يشكّل مخالفة صارخة لميثاق الأمم المتحدة والاتفاقيات المتعلقة بامتيازات الأمم المتحدة وحصانتها.
خامسًا، منذ توسيع إسرائيل عدوانها على لبنان في 23 أيلول 2024، دأب جيشها على الاعتداء المستمر والمتكرّر والمتعمد على قوّات الأمم المتحدة المؤقّتة في لبنان (اليونيفيل – UNIFIL) وعلى منشآتها في جنوب لبنان، كما رافقت هذه الاعتداءات حملة تحريض ممنهجة على اليونيفيل. وكانت قوّات حفظ السلام قد أُنشئت وتطوّر دورها بموجب قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي. وتشكّل الاعتداءات على هذه القوّات جرائم حرب وانتهاكًا للاتفاقيات الدولية التي تحظر استهداف الأشخاص والمنشآت التابعة للأمم المتحدة، وقد عبّر العديد من ممثلي الدول والمؤسسات الدولية عن استنكارهم لهذه الاعتداءات.
سادسًا، بالإضافة إلى هذه الانتهاكات، ما برحت إسرائيل ترتكب جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في غزة ولبنان، من قتل المدنيين وتدمير الأعيان المدنية والتراثية والثقافية والتاريخية، والاعتداء على المستشفيات، والطواقم الطبية والإسعافية والإغاثية، وتدمير الأحياء والقرى والمدن بشكل يسلب منها قابليتها للحياة، وقتل الصحافيين، في انتهاكٍ واضح للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولاتها الإضافية.
سابعًا، بالرغم من بشاعة هذه الجرائم، لم تتوانَ إسرائيل عن الاعتداء المعنوي المتكرّر على الأمم المتحدة وموظفيها. وتجلّى ذلك مؤخرًا في إعلان وزير خارجيتها السابق يسرائيل كاتس أنّ أمينها العام أنطونيو غوتيريش هو شخص غير مرغوب فيه في إسرائيل، وذلك بعد إطلاق الأخير عددًا من المواقف المناوئة لإسرائيل والتي تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، ومنها قوله إنّ عملية طوفان الأقصى لم تأتِ من فراغ وإنّ الفلسطينيين عانوا على مدى 56 عامًا من الاحتلال الخانق، وأيضًا إدانته هجومًا إسرائيليًا على مدرسة تستخدم كملجأ للإيواء في غزة، أسفر عن مقتل ستة موظفين تابعين للأمم المتحدة، وطالب بتحقيق مستقل وشامل في الحادثة لضمان المساءلة. كما سبق أن منعت إسرائيل عددًا من محقّقي الأمم المتحدّة من الدخول إلى أراضيها من أجل إجراء تحقيقات أقرّتها الهيئات الأممية. وكذلك، لا تزال شاخصة في الأذهان صورة السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة في أيار الماضي وهو يقطّع ميثاقها بآلة تقطيع الورق، وقبل ذلك في 2021 حين أقدم على تمزيق تقرير لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على منبرها.
لم تكتفِ إسرائيل بحربها على الأمم المتحدّة فحسب، بل طالت الاعتداءات أيضًا المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام لديها الذي طلب من غرفتها التمهيدية الأولى إصدار مذكرتي توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يُآف غالانت على خلفية جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في غزة بعد 7 تشرين الأوّل 2023، ولم يتمّ البت بطلبه حتى اليوم. وينظر القضاء الهولندي حاليًا بشكوى تتعلّق بممارسة جهاز الموساد الإسرائيلي الضغط والترهيب والتجسس وتشويه السمعة على موظفي المحكمة.
خلاصة
بالرغم من تقديم أكثر من طلب لفصل دول من الأمم المتحدّة في السابق، أبرزها ضدّ إسرائيل (1950) وجنوب أفريقيا (1974)، لم يسبق للأمم المتحدة منذ تاريخ تأسيسها أن فصلت أيّ دولة بموجب المادة السادسة من ميثاقها. وذلك ليس لأنّ أيّ دولة لم تنتهك مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، بل لأنّ اتخاذ قرار كهذا يتطلّب قرارًا مسبقًا من مجلس الأمن الذي تسيطر عليه الدول التي تمتلك حق النقض، ومنها الولايات المتحدة الأميركية التي يبدد استمرار دعمها لإسرائيل في مخططها الإبادي أي حظوظ لإمكانية اتخاذ قرار كهذا، بالرغم من توافر الشروط القانونية المناسبة لاتخاذه. ولتفادي الفيتو الأميركي، يبقى هناك إمكانية للجوء إلى قرار الأمم المتحدة “متّحدون من أجل السلام” الذي يسمح للجمعية العامّة إصدار توصيات لازمة للدول لاتخاذ تدابير قمع جماعية عند تهديد السلم أو الإخلال به أو العدوان وعجز مجلس الأمن الدولي عن مواجهته بسبب تضارب مصالح الدول الدائمة العضوية فيه.
صحيحٌ أنّ طرد دولة من الأمم المتحدة قد يشكّل سابقة، إلّا أنّ الإجرام والوحشية الإسرائيلية المتفلتة من عقالها ليست مسبوقة أيضًا. وبالتالي فإنّ لجم إسرائيل قد يشكّل تاريخًا تأسيسيًا لإصلاح العطب الذي اعترى النظام القانوني العالمي الذي أمعنت فيه إثخانًا، ما جعلها، حتى قبل اتخاذ أي إجراء قانوني في حقها، دولةً مارقة في وجدان شعوب العالم الحرّة.