بعد مرور أكثر من عام على انطلاق المشروع الجرميّ الإسرائيلي المتمثل بالإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، وفي ظل استمرار مسلسل التهجير القسري لسكّان شماله، وبعد توسيع إسرائيل عدوانها على لبنان في الأسابيع الأخيرة التي شهدت انتهاكات خطيرة للأعراف والقوانين الدولية الإنسانية، بما في ذلك ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، وقبل أيامٍ من ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي لمحرقة الخيام في غزة، خرجت وزيرة الخارجية الألمانية في 10/10/2024 بخطاب أمام البرلمان الألماني لتقول:
“لهذا السبب أوضحنا مرارًا وتكرارًا أن الدفاع عن النفس يعني بالطبع ليس فقط مهاجمة الإرهابيين، ولكن أيضًا تدميرهم. ولهذا السبب أوضحت تمامًا أنه عندما يختبئ إرهابيو حماس خلف الناس، خلف المدارس، فإننا نجد أنفسنا في مواقف صعبة للغاية. لكننا لا نتراجع عن ذلك. ولهذا السبب أوضحت في الأمم المتحدة أن المواقع المدنية يمكن أن تفقد وضعها المحمي إذا أساء الإرهابيون استخدام هذا الوضع. هذا هو موقف ألمانيا – وهذا ما نعنيه عندما نشير إلى أمن إسرائيل.”
يثير هذا التصريح أسئلة عدة بشأن مدى انسجام هذا الموقف مع ما كانت ألمانيا أدلت به في دفاعها في القضية التي رفعتها نيكاراغوا ضدها في آذار الماضي أمام محكمة العدل الدولية.
وكانت نيكاراغوا اتهمت إلمانيا في هذه القضية بخرق التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها واتفاقيات جنيف الأربع ومجموعة من القواعد قانونية من خلال اشتراكها في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة. وأسندت ذلك إلى الدعم العسكري والمالي التي تقدمه ألمانيا إلى إسرائيل، وطالبت إصدار تدابير عاجلة تلزمها بوقف مساعداتها العسكرية لإسرائيل فورًا. وبالمقابل، نفى الفريق القانوني الألماني هذه الاتهامات مؤكّدًا أنّه لا يوجد أي دليل على أن تزويد ألمانيا إسرائيل بالمعدات العسكرية قد ساهم في ارتكاب الإبادة الجماعية، وبأنها قد خفضت بعد 7 أكتوبر بشكل ملحوظ حجم صادراتها من الأسلحة إليها، وذلك بعد إجراء تقييم حول إمكانية استخدام هذه الأسلحة من قبل إسرائيل في انتهاكات للقوانين الدولي.
وخلافّا لموقفها القانوني أمام المحكمة، يُعبّر تصريح وزيرة الخارجية ألمانيا عن سياسة حكومتها ونواياها. ففي مقابل إغداق مشاعر التعاطف والتضامن مع إسرائيل، لم نجد أي ذكر أو إشارة إلى الإبادة الجماعية، أو لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والمجازر التي يرتكبها الجانب الإسرائيلي، أو للمعاناة الفلسطينية.
وعلى طول الخط، نجد في موقف الوزيرة تشويهًا للمفاهيم وتحويرًا لقواعد الحرب وتبريرًا للإبادة الإسرائيلية وجرائم حربها. فهي تتبنّى السردية الإسرائيلية ب”الدفاع عن النفس” والتي يُرتكب تحت ستارها جميع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني واللبناني. وقد سبق للمفكرة القانونية أن تناولت هذا الموضوع داحضة الحجة الإسرائيلية، انطلاقًا من كونه قوّة محتلّة لا تتمتّع بذلك الحق بوجه الشعب الخاضع لاحتلالها. ثم إن اعتبار الوزيرة أن حق الدفاع عن النفس لا ينحصر على مهاجمة “الإرهابيين” فحسب، بل يتضمن تدميرهم، إنما ينطوي على نوايا أقل ما يقال عنها إنها ذات طابع إباديّ، بحيث لا تمتّ إلى لغة القانون والقيم الإنسانية بصلة، بل إنّها تعكس توجّهًا يتنافى مع مبدأ التناسب والضرورة العسكرية، كما يُبرّر بدوره جرائم إسرائيل التي تستهدف المدنيين والأعيان المدنية.
هذا التبرير ظهر بشكل مباشر حين لم تتوانَ الوزيرة من خلال تصريحها عن إعطاء ذريعة للإسرائيليين لاستهداف المنشآت المدنية من مدارس وغيرها إذا أساء “إرهابيو حماس” استخدامها. وتكون بذلك قد نسفت كل منظومة الحماية التي يوفّرها القانون الدولي الإنساني للمدنيين وللأعيان المدنية، ونسفت معها قرونًا من تطوّر الفكر القانوني الإنساني. وما يؤكد ذلك هو أنها لم تقيّد هذه الدعوة بموجبات القانون الدولي الإنساني التي تفرض ضرورة التمييز بين المقاتلين والمدنيين وحماية المدنيين والبنى التحتية المدنية الضرورية، وإجراء تقييم لكلّ حالة حول مدى استخدام منشآت مدنية لأهداف عسكرية، واحترام مبدأ النسبية الذي يحظر الهجمات التي قد تسبب أضرارًا للمدنيين قد تكون مفرطة قياسًا بالفائدة العسكرية المتوقعة، وضرورة اتخاذ تدابير احتياطية لتجنّب إلحاق الأذى بالمدنيين، يما فيها إنذار المدنيين قبل أي هجوم قد يتسبّب بأذى لهم.
والأخطر أنّها تختم التصريح المقتبس في المقدمة، بالقول: “هذا ما نعنيه عندما نشير إلى أمن إسرائيل”. فهل يعني ذلك تبنّي مفهوم إسرائيل حول أمنها، بحيث يصبح كل مستشفى أو مدرسة أو مركز للتطعيم ضد شلل الأطفال، بل مجرّد الوجود الفلسطيني، تهديدًا أمنيًا؟ وماذا يبقى إذاك من القانون الدولي الإنساني؟
كما أن هذا الموقف المتماهي مع السردية الإسرائيلية، يتناقض تمامًا مع تقرير المقررة الخاصة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيزي، إلى مجلس حقوق الإنسان في آذار 2024 تحت عنوان “تشريح الإبادة”، والذي شرحت فيه كيف شوهت إسرائيل قواعد الحرب بهدف إخفاء نيّة الإبادة من خلال نزع صفة المدنيين عن سكان غزة بشكل جماعي لتبرير قتلهم، ووصفهم إما بالمقاتلين أو المتواطئين مع حماس أو بالدروع البشرية لها، وتصنيف كامل سكان القطاع كهدف عسكري مشروع. وهو أيضا يتعارض مع كمّ من التقارير الدولية التي دحضت حجج إسرائيل لاستهداف المدنيين والمنشآت المدنية والأهم مع طلب إصدار مذكرة توقيف التي أصدرها المدعي العام لدى المحكمة الدولية الجنائية بحق مسؤولين إسرائيليين في مقدمتهم رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو.
وما يثبّت هذه السياسة الألمانية هو أن تصريح الوزيرة التي أكّدت أنها تُمثّل الحكومة الألمانية، جاء مكمّلًا لتصريح المستشار الألماني الذي قال عن الإسرائيليين: “لقد قمنا بتزويدهم بالأسلحة، وسوف نقوم بتزويدهم بالأسلحة. هذا موقف الحكومة الألمانية”. اللافت أنّ هذه التصريحات جاءت بالتزامن مع ما كشفه تقرير صحفي حول طلب ألمانيا من الحكومة الإسرائيلية توقيع بند متعلّق بالإبادة الجماعية في اتفاقيات توريد السلاح. يتضمّن هذا البند ضمانة من الحكومة الإسرائيلية بعدم استخدام الأسلحة الألمانية لارتكاب إبادة جماعية.َ وهذا وإن كان يهدف إلى توفير حماية قانونية شكلية لألمانية تتمسّك بها لمحاولة التملّص من مسؤوليتها القانونية في الاشتراك في الإبادة الجماعية، إلّا أنّه يؤشّر إلى أنّ لدى ألمانيا شكوكًا حول استخدام إسرائيل أسلحتها لارتكاب الإبادة، وهو ما يُشكّل إدانة حقيقية لها من حيث أرادت أن تحمي نفسها قانونًا. وقد علّق أحد أهم أساتذة القانون الدولي ألونسو جورمندي على فرض هذا البند في عقود توريد الأسلحة أن ألمانيا خسرت للتو قضية نيكاراغوا بمفردها.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ مضاعفة ألمانيا صادراتها من الأسلحة إلى إسرائيل، مترافقًا مع موقف المستشار الألماني، الذي تحدّث بشكل واضح عن تسليح إسرائيل، وتصريح الوزيرة عن التدمير، يتنافى من حيث المبدأ مع ما جاء في دفاع الفريق الألماني في دعوى نيكاراغوا الذي زعم أنّ 98% من التراخيص الممنوحة لإسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 لم تكن تتعلق بـ “أسلحة حربية”، بل بـ “معدات عسكرية أخرى” عادة ما تكون ذات طبيعة ثانوية أو دفاعية.
عودةٌ إلى دعوى نيكاراغوا ضد ألمانيا: رغم قبول محكمة العدل الدولية الدعوى وشروعها للنظر في أساسها، لم تصدر قرارًا بفرض تدابير مؤقتة على ألمانيا، ما حمل عون الخصاونة، أحد قضاتها، إلى إصدار رأيٍ مخالفٍ، قال فيه: “ما من أحدٍ أشدّ عمى من أولئك الذين لا يريدون أن يبصروا” منتقدًا قرار المحكمة. فهل يبقى اليوم، أي مبرّر للعمى، مع سطوع مشروع الإبادة الإسرائيلي، ومجاهرة الاشتراك فيه من قبل محور الإبادة؟ ينتظر تاليا أن تضع نيكاراغوا المحكمة الدولية في صورة تطور المواقف الألمانية، وأن تطلب مجددا منها إصدار أوامر مستعجلة بالنظر إليها.