خلال الأسبوع الماضي، تمّ الإعلان عن قرار تأديبي بصرف قاضٍ من درجة متوسطة من الخدمة. وكانت ملاحقة القاضي المذكور (الذي نتحفّظ حاليا عن ذكر اسمه) بدأت في أواخر سنة 2015 في أعقاب افتضاح محاولة محاميين (إحداهما ابنة شقيقه) بإقناع كاتب عدل (وهو أسامة غظيمي) بتسديدهما مبلغا كبيرا (150 ألف د.أ) لقاء التدخل لدى القاضي المذكور للحصول على حكم بحفظ الدعوى المقامة ضده. ولسوء حظ المحاميين والقاضي، صودف وجود كاميرات في مكتب الكاتب العدل مكّنته من تسجيل فيديو عن محاولتهما بالصوت والصورة.
وتبعا لبث مقاطع من هذا الفيديو في تقرير لقناة الجديد (وهو أمر تابعته “المفكرة” عن كثب)، لم يصدر أي موقف علني عن مجلس القضاء الأعلى بهذا الشأن. كما لم يعرف شيء عن الإجراءات المتخذة بحق القاضي بفعل سرية التحقيقات والمحاكمة التأديبية. بل كان مفاجئا أنه وعلى الرغم من هذه الفضيحة، فإن اسمه طُرح من ثمّ ليكون مفوض الحكومة لدى مجلس شورى الدولة (وهو مركز عالٍ) قبلما يعيّن في مرسوم التشكيلات القضائية الصادر في تشرين الأول 2017 قاضي تحقيق في النبطية، وهو مركز مهم يجيز له التحكم بحرية المتقاضين، وإن كان أقل أهمية في الذهنية القضائية، من المركز الذي كان يشغله من قبل (قاضي تحقيق في بيروت). وهو إلى ذلك، استمرّ في إشغال منصب المدعي العام لدى المحكمة الجعفرية العليا والذي تولاه بالانتداب منذ 2010. وعليه، جاء الإعلان عن صرفه، بعدما يزيد عن ثلاث سنوات من الفضيحة، بمثابة مفاجأة لمتابعي الشؤون القضائية.
الأمور لم تكن أكثر وضوحا بما يخص مسؤولية المحامييْن اللذين صُوّرا بالصوت والصورة، وهما في صدد ارتكاب صرف نفوذ وسمسرة قضائية واضحة. فرغم إعلان نقيب المحامين آنذاك أنطونيو الهاشم إحالتهما إلى المجلس التأديبي، لم يُعرف شيء عن محاكمتهما سوى أنهما ما يزالان يمارسان المهنة رغم انقضاء 3 سنوات من ذلك. لا بل (وهنا قمة الغرابة)، ردّت نقابة محامي بيروت طلب النيابة العامة بإعطائها الإذن بملاحقتهما جزائيا بجرم صرف النفوذ وتحقير القضاء (عمليا رفع الحصانة القانونية عنهما) بحجة أن فعلهما يتصل بممارسة مهنة المحاماة. وقد استأنفت النيابة العامة كما كاتب العدل قرار النقابة أمام محكمة استئناف بيروت الناظرة في القضايا التأديبية حيث ما تزال القضية عالقة هنالك منذ أكثر من 3 سنوات.
واللافت أنه بعد الإعلان عن صدور القرار التأديبي على قناة الجديد وجريدة النهار، سارع القاضي المذكور إلى تقديم طلب إلى قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شواح طلب منها منع “الجديد” من بث ما يتصل به أو بالقرار الصادر بحقه تحت طائلة غرامة إكراهية قدرها 50 مليون ليرة. وقد أسند طلبه إلى أن قانون تنظيم القضاء العدلي يعتبر جميع معاملات المحاكمة التأديبية سرية، باستثناء القرارات النهائية بالصرف أو بالعزل. وفيما أقرّ القاضي ضمنا في طلبه بصدور قرار صرف تأديبي بحقّه، فإنه برّر طلبه بأن هذا القرار لم يكتسب بعد الصفة النهائية، طالما أنه يقبل الاستئناف أمام الهيئة العليا للتأديب. وقد أصدرت القاضية شواح بتاريخ 26/4/2019 قرارا بمنع الجديد من نشر ما يتّصل به، بعدما رأت أن القانون يفرض السرية التامة على اجراءات تأديب القضاة، وأنه لا يُعلن منها إلا القرار التأديبي الذي يؤدي إلى تجريد القاضي من هذه الصفة (أي عزله أو صرفه) نهائيا. وعليه، رأت أن السرية تبقى واجبة في هذه الحالة، حيث أن القرار ما يزال قابلا للاستئناف أمام الهيئة العليا للتأديب. وقد برّرت القاضية موقفها بأن الغاية من السريّة هي المحافظة على “هيبة القاضي وعدم المساس بها وبسمعته وكرامته، بحيث لا يجوز تشويه صورته في ذهنية الغير لا سيما المتقاضين أمامه، وإضعاف الثقة به قبل تجريده تماما وبصورة نهائية من صفته كقاضٍ، إذ لا يعود بعدها من مبرر للمحافظة على هيبته ومصداقيته ونزاهته الملازمة لصفته تلك، والتي تكون قد فقدت حكما بالأسباب والمبررات التي أدت إلى تقرير صرفه أو عزله بصورة نهائية”.
هذه هي أهم الأحداث والتطورات التي اتّصلت بهذه القضية، والتي أمكن رصدها، رغم السرية التامة التي تحيط بإجراءات تأديب القضاة والمحامين على حدّ سواء. وتتأتى أهميتها من زوايا عدة: فهي أولا تكشف عددا من الممارسات التي لم تعد للأسف نادرة داخل القضاء والتي تتمثل في اشتراك قضاة ومحامين مقربين منهم في صرف النفوذ والسمسرة القضائية، وهي ممارسات تشهد اليوم تحقيقات واسعة أدت إلى توقيف عدد من الكتاب القضائيين وملاحقة عدد من المحامين والقضاة. والأهم هي تكشف الاجراءات والتوجهات المعتمدة من قبل الهيئات المسؤولة على تنظيم القضاء أو المحاماة في التعامل مع شبهة حصول ممارسات مماثلة، والتي تبقى قاصرةً، أقلّه حتى الآن، عن التعامل معها بشكل مُرْضٍ.
وقبل المضي في تبيان ملاحظات تفصيلية حول هذه القضية، يقتضي التذكير بأمرين:
- أن هذا القرار هو القرار الأول من نوعه، منذ 2012-2013 حين انتهت الهيئة العليا للتأديب إلى المصادقة على قراري صرف من الخدمة بحق القاضيين السابقين غسان رباح وماهر شمس الدين. بالمقابل، فقد فسخت الهيئة العليا قرارا تأديبيا بالصرف من الخدمة صدر بحقّ قاض ثالث حامت حول شبهات قوية بالانخراط ببيع الأحكام، لتستبدل عقوبة الصرف بعقوبة تخفيض درجته بحدود أربع درجات. ويذكر أن وزير العدل السابق شكيب قرطباوي لعب دورا هاما في تفعيل الملاحقات التأديبية آنذاك.
- أن مجلس القضاء الأعلى كان آثر خلال السنوات الماضية إقناع بعض القضاة المخالفين على الاستقالة طوعا عند بروز أدلة قاطعة بحقهم، تفاديا لمحاكمتهم، وذلك حفظا لسمعتهم وهيبة القضاة، حيث سجلت 4 استقالات خلال سنة 2017. وهي ممارسة غالبا ما انتقدتها “المفكرة” من منطلق أنها تؤدي إلى إفلات القضاة المعنيين من العقاب وتضييع حقوق المتقاضين.
أي مهلة لإنجاز الملاحقات التأديبية؟
الملاحظة الأولى التي تستوجبها هذه القضية تتّصل بالتأخير غير المبرّر في التحقيق في المخالفات التأديبية المنسوبة إلى القاضي. وما يزيد هذه الملاحظة إلحاحا هو أن وزير العدل لم يصدر بحق القاضي أي قرار بتوقيفه عن العمل خلال فترة محاكمته، بمعنى أنه استمر في ممارسة مهامه القضائية في قضاء التحقيق (ومن ضمنها صلاحية التوقيف وإخلاء السبيل والظن وحفظ الدعوى) والمحكمة الجعفرية العليا، رغم خطورة المخالفات التي كان يلاحق على أساسها. ومن شأن استئناف قرار التأديب الصادر بحقه أن يؤدي إلى إطالة أمد الملاحقة.
وإذ نعجز اليوم عن تحديد أسباب التأخير الحاصل بفعل سريّة الإجراءات والجهة المسؤولة عنه (أقلّه إلى حين نشر القرار التأديبي)، فإنه من المؤكد أن مئات المواطنين خضعت قضاياهم خلال السنوات المذكورة للقاضي المذكور، وبات بإمكانهم على ضوء القرار التأديبي التشكيك بنتائج أعماله ولكن أيضا بمدى جدية الهيئات القضائية القيمة على القضاء في ضمان حقهم باللجوء إلى قاضٍ تتوفر لديه مواصفات النزاهة والحيادية. ومن هذا المنطلق، وبانتظار توضيح أسباب التأخير الحاصل في هذا المجال، تشكل هذه القضية مدعاة للتفكير بضرورة وضع مهلة قصوى ملزمة للدعاوى التأديبية بالنظر إلى أهمية الوظيفة المناطة بالقضاة وضمانا لحق المواطنين بالتقاضي أمام مرجع يطمئنون إلى نزاهته وحياديته.
حصانة المحامين تعيق العدالة في قضايا السمسرة القضائية؟
الملاحظة الثانية تتأتى عن المقارنة التي تفرض ذاتها، بين القرار التأديبي الصادر بحق القاضي المعني وكيفية تعامل نقابة المحامين في بيروت مع المحاميين المشتبه بتورطهما في القضية. وبالإمكان القول هنا أن القضية تشكّل إحراجا كبيرا لنقابة محامي بيروت التي لم تذهب وفق ما تقدم في المنحى نفسه. فنحن لا نعرف حتى اللحظة مآل الملاحقة التأديبية بحق المحامييْن المذكورين، فيما أن النقابة ما زالت تمتنع عن إعطاء الإذن بملاحقتهما جزائيا. ومن اللافت أن أحد أعضاء المجلس التأديبي (القاضي أيمن عويدات) هو رئيس محكمة الاستئناف الناظرة في قضية الطعن في حجب الإذن. وعليه، تكون النقابة مدعوة لنقد ذاتي في هذا الخصوص، احتراما لدورها في صون آداب المهنة واستقلال القضاء. ويُنتظر أن يظهر مدى تأثير القرار التـأديبي على موقف النقابة خلال الأيام القادمة، وتحديدا من خلال مواقفها في الجلسات العلنية لمحكمة الاستئناف الناظرة في الطعن على قرارها بحجب الإذن بالملاحقة. فهل ستستمر النقابة في الدفاع عن موقفها، أم ستتراجع عنه تاركة للعدالة أن تأخذ مجراها؟
شاهدٌ آخر على شخصنة وتسييس التشكيلات القضائية؟
الملاحظة الثالثة هي بمثابة علامة استفهام إضافية حول الاجراءات المعتمدة في التشكيلات القضائية. وهذه الملاحظة تتأتى عن تعيين القاضي رغم بدء ملاحقته في مناصب قضائية بارزة وحساسة تسمح له بالتحكم بحرية المواطنين ومصالحهم الحياتية، بموافقة مجلس القضاء الأعلى، بإجماع أعضائه، وبموجب مرسوم صدر بناء على اقتراح وزير العدل وحمل توقيع رئيسي الجمهورية والحكومة. ومن البدهي أن هذه الملاحظة تشكل شاهدا آخر على شخصنة التعيينات وتسييسها مع تهميش اعتبارات الكفاءة والنزاهة، وفق ما أسهبنا في تبيانه في محل آخر. فمن البيّن أن القاضي المذكور بقي متمتعا بدعم من جهات مؤثرة في التعيينات القضائية، ضمنت له الاستمرار في إشغال مراكز هامة، على الرغم من ملاحقته والشبهات التي كانت تحوم حول نزاهته وحياديته.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن وضع القاضي المذكور ليس منعزلا، بل تكثر الأمثلة على حالات مشابهة تمثلت في تعيين قضاة مشتبه بهم أو محكوم عليهم بعقوبات تأديبية جدية، بدعم سياسي واضح، في مراكز حسّاسة تمكّنهم من التحكّم بحريات المواطنين ومصالحهم. وتشكل هذه الأمثلة براهين بليغة على ارتباط الفساد القضائي بالتدخل السياسي في القضاء، بمعنى أنه يصعب تولي القضاة المشتبه بهم بالفساد وظائف قضائية هامة واستمرارهم فيها من دون تمتعهم بغطاء أو حماية الجهات المؤثرة في التنظيم القضائي، وفي مقدمتها الجهات السياسية الحاكمة والتي غالبا ما تهدد بإجهاض التشكيلات برمتها في حال عدم الاستجابة لمطالبها. وبفعل هذه الممارسة، تتحمّل المراجع السياسية المتدخلة لفرض تعيين قضاة غير ملائمين لسبب أو لآخر في مراكز معينة، مسؤوليتها الكاملة عن هذه التعيينات، وما يرتبط بها من أعمال فساد. ومن شأن ثبوت تورّط جهات سياسية عدة في تعيينات مماثلة، أن يشكل عاملا داعما لاعتماد معايير موضوعية في تعيين القضاة.
محاسبة منقوصة؟
على صعيد آخر، وفيما ينبئ صدور أول قرار تأديبي بصرف قاضٍ منذ 2013 بإعادة تفعيل الملاحقة التأديبية وبالقطع مع ممارسات الإفلات من العقاب بمختلف أشكالها، يبقى أن ثمة تساؤلات مشروعة حول مدى تناسب الاجراءات المتخذة مع خطورة الفعل المرتكب، وبخاصة بالمقارنة مع قضايا مشابهة سابقة.
فما هي الأفعال التي ثبتت في القرار التأديبي؟ وما مدى تناسب العقوبة المقررة مع خطورتها؟ وفي حال كانت تشكل جرما جزائيا، هل ستتم إحالة القاضي المذكور إلى النيابة العامة لإجراء المقتضى ضمانا لمحاسبته جزائيا كما تأديبيا على اعتبار أن استغلال الوظيفة القضائية يشكل جرما جدّ خطير أم سيتمّ غض الطرف عن المسؤولية الجزائية؟ وتزداد هذه الملاحظة إلحاحا في ظلّ الممارسات التي تمّ رصدها في عدد من الحالات الأخرى: فعدا الحالات التي اكتفي بها بقبول استقالة القاضي المشتبه به من دون أي تحقيق أو محاسبة، بقيت الكثير من المخالفات الملاحقة تأديبيا بمنأى عن أي ملاحقة جزائية، على الرغم من توفر شبهة ارتكاب جرائم جزائية كالارتشاء أو صرف النفوذ. فضلا عن ذلك، فإنّ الكثير من الملاحقات التأديبية انتهت إلى عقوبات مخففة، منها تخفيض درجات قاضٍ مشتبه بارتشائه مع إبقائه في السلك القضائي. وحتى في المحاكمات التي أدت إلى إنهاء عمل القاضي، فإن المجلس التأديبي اتّجه في هذه الحالات إلى اعتماد عقوبة الصرف من الخدمة (والتي تحفظ حق القاضي بتعويضات نهاية الخدمة) مع استبعاد عقوبة العزل التي هي وحدها تجرده من هذا الحقّ. وعليه، وفيما يحول غياب الملاحقة الجزائية دون امكانية مصادرة الرشاوى التي يكون قبضها القاضي المرتشي، يؤدي حفظ حقه بتعويضات نهاية الخدمة إلى تكليف المواطنين بدفع مبالغ طائلة له، تبدو غير مستحقة بعدما ثبت استغلال وظيفته خدمة لمصالحه الشخصية. ومن هنا، يصبح التساؤل مشروعا حتى في الحالات التي تنتهي إلى صرف القاضي من الخدمة، عن المفعول الردعي للعقوبة في هذه الحالة أو حالات مشابهة على فرض توفر أدلة قوية على واقعة الارتشاء.
وأكثر ما نخشاه هو أن تشكل ممارسات من هذا النوع رسالة للقضاة المرتشين بأن ما يكسبونه من رشاوى يبقى حقا مكتسبا بفعل عدم ملاحقتهم جزائيا، وكذلك تعويض نهاية الخدمة الذي يشكل بمثابة حبة مسك تضاف إلى الرشاوى التي يكونون قد حصلوها خلال ممارستهم وظائفهم. وعليه، يؤمل أن تتخذ هيئة التفتيش القضائي والنيابة العامة التمييزية المواقف اللازمة لضمان تناسب العقوبة مع خطورة الفعل في هذه القضية كما في القضايا المشابهة.
حيادية الهيئة العليا للتأديب؟
الملاحظة الخامسة تتّصل بمدى حيادية الهيئة العليا للـتأديب، وهي المرجع الذي سيتولى النظر في استئناف القرار التأديبيّ. فمن المعلوم أن هذه الهيئة يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى أو نائبه (وهو النائب العام التمييزي) وقد شارك كلاهما في تعيين القاضي المذكور في مركزه القضائي الهام، رغم مباشرة ملاحقته، مع ما يظهره ذلك من ارتياب بحياديتهما في تقييم القاضي المذكور. فكيف يُؤمل من الهيئة العليا أن تلتزم بمعايير الحيادية في المحاكمة، بعدما حاد رئيسها عن هذه الحيادية عند وضع مشروع التشكيلات القضائية؟ وبالطبع لا يرد على ذلك بأن تعيين القاضي حصل بطلب وضغط من قوة سياسية لها امكانية إجهاض التشكيلات (وهذا على الأرجح ما حصل)، طالما أن استجابة هذين المرجعين لضغط من هذا القبيل يؤشر إلى قابليتهما لضغوط مماثلة عند النظر في تأديب هذا القاضي. وما يزيد هذه الملاحظة إلحاحا هي الممارسات التي اعتادها هذان المرجعان في التفاوض والمساومة مع القوى السياسية المهيمنة بشأن التعيينات القضائية، فضلا عن تسجيل سوابق انتهت فيها الهيئة إلى استبدال العقوبة التأديبية من الصرف من الخدمة إلى تخفيض درجات رغم خطورة المخالفات موضوع الملاحقة. وهذا ما حصل تحديدا في 2013 بما يتصل بقاضٍ توفرت معطيات جدية على طلبه من متقاضٍ تسديده مبلغا ماليا كشرط لصياغة حكمه. القاضي المذكور ما يزال حتى اليوم في السلك القضائي.
سرية الإجراءات التأديبية؟
الملاحظة الأخيرة تتصل بسرية تأديب القضاة وهي مسألة ما تزال خارج النقاش الجدي رغم التطور الدولي الحاصل بشأنها. وفيما يتم تبرير السرية وفق ما جاء في حكم القاضية شواح بصون هيبة القاضي وعدم زعزعة ثقة المتقاضين به، فإنه يُخشى بالمقابل أن تؤدّي السريّة في ظل تراجع عمل المؤسسات القضائية سواء في إدارة المسار المهني للقضاء أو في المحاسبة والتفتيش، إلى حفظ صورة وثقة غير مستحقتين وعمليا إلى خداع المتقاضين بفعل حجب المعلومات عنهم. وعلى فرض تورط القاضي المذكور بأفعال تتصل بالنزاهة والحيادية، فإننا نكون أمام حالة نموذجية يستدل منها خطورة السرية.
فسرية الملاحقة هي التي سمحت أن تستمر عملية ملاحقته لأكثر من ثلاث سنوات، وهي التي سمحت بإعادة تعيينه في مراكز قضائية هامة رغم وجود الملاحقة بحقه، كما هي التي سمحت بتعيين العديد من القضاة الآخرين من أصحاب العقوبات والملفات في مراكز هامة وحساسة. والسرية نفسها ربما تسمح غدا بإنزال عقوبة غير متناسبة مع المخالفة المرتكبة وفق ما تقدم وهي التي قد تحول دون ملاحقة القاضي جزائياً. والأهم أن السرية هي التي تحول دون تمكين المواطن من اتخاذ التدابير لحماية حقوقه (من طلب رد القاضي أو نقل الدعوى للارتياب المشروع)، بعدما تركته الهيئات القضائية بفعل التأخير في التحقيق والمحاكمة، تحت رحمة القاضي المذكور.
وتفاديا لمخاطر مماثلة، تم تعديل العديد من القوانين في اتجاه رفع السرية أو التخفيف منها في المحاكمات التأديبية، بحيث يصبح بإمكان الرأي العام أن يشهد هذه المحاكمات تيقنا من مدى نزاهتها وبإمكان المتقاضي ممارسة الدفاع المناسب عن حقه فلا يضيع هذا الحق لأنه لا يعرف. هذا مع العلم أن الاجتهاد القضائي (ومنها قرارات صادرة عن قاضية الأمور المستعجلة كارلا شواح) بات يبتعد تحت تأثير الاعتراف بوظيفة حرية التعبير، عن تطبيق قواعد السرية أو حماية الحق بالسمعة بشكل آلي وتلقائي، ليغلّب حق الرأي العام بالاطلاع كلما رأى مصلحة اجتماعية لذلك، عملا بمبدأي التناسب والضرورة. وهذا الاجتهاد ينطبق بشكل خاص في القضايا التي تتصل بأعمال الفساد سندا للمادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد التي تفرض تشجيع المواطنين على ذلك، وبخاصة في الدول التي تثور فيها شكوك هامة حول فاعلية آليات المحاسبة ونجاعتها.
وعليه، وإذ أمكن مناقشة مدى ملاءمة القرار المستعجل بمنع نشر ما يتصل بالقرار التأديبي تأكيدا على حماية السرية قانونا من دون التعرض للمصلحة الاجتماعية في إطلاع الرأي العام على تفاصيل هذه القضية والمخاطر المتصلة بها، فإن تحديد الغرامة الإكراهية في حال النشر بمبلغ متدنٍّ (مليوني ليرة) بالمقارنة مع الغرامات المقررة في حالات مشابهة أو المطلوبة من القاضية المذكورة (خمسين مليون)، إنما يؤشر إلى استشعار القاضية بتراجع وظيفة السريّة الاجتماعية، على نحو يفرض التخفيف من الحماية القضائية لها. وهذا ما يبشر بمواقف قضائية مستقبلية قد تكون أكثر وضوحا في هذا الخصوص.
أوراق بحثية ذات صلة: