إذا دخلت صفاقس ليلا ولاحظت نيرانا تشتعل ودخانا يتصاعد في عدّة أماكن فلا تجزع ولا تقلق. ليست حرائق مفتعلة تشعلها أطراف خفية “تتآمر على أمن الدولة والوطن” أو “مافيا الحطب”. كل ما في الأمر أن مواطنين عاديّين يقومون بأمر أصبح عاديا يتكرّر منذ أشهر: حرق النفايات التي تتكدّس أيّاما وأسابيع طويلة أمام بيوتهم من دون أن ترفعها شاحنات البلديات. أزمة النفايات في صفاقس قاربتْ شهرها التاسع ولم تتمخض بعد عن حلول دائمة وناجعة. فقط بعض “الإرهاصات” و”الأفكار” التي تولد ميّتة. أزمة يصوّرها البعض على أنها مفرطة البساطة، إذ يكفي توفير مصبّ ونقل النفايات إليه. لكن الأمور أعقد من ذلك بكثير. النضالات ذات الطابع البيئي التي تشهدها الولاية منذ مدّة أظهرت تطوّرا كبيرا في الوعي الحقوقي المواطني وتنويعا ذكيّا في أساليب الاحتجاج والضغط. في المقابل، تُظهر تحرّكات الحكومة ومؤسّسات الدولة مدى عجزها في التعامل مع الأزمات وإخفاقها في استيعاب التحديّات المجتمعية الجديدة.
في جذور الأزمة
الأزمة في شكلها الحالي بدأت يوم 27 سبتمبر 2021 بعد قرار الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات (انجاد) غلق مصبّ النفايات “القنة” في معتمدية عقارب من ولاية صفاقس، وهو المصبّ المراقب الرئيسي في الولاية وثاني أكبر مصبّ نفايات في الجمهورية. لكن الأزمة الفعليّة انطلقت في 2013 ليس فقط بسبب الضرر الصحي والبيئي والنفسي اللاحق بالسكان القاطنين في محيط المصبّ بل كذلك بسبب ضعف السياسة التواصلية للدولة وغياب الشفافية وضعف ثقافة النفاذ إلى المعلومة. إلى اليوم، لا تتوفر معلومة مؤكدة حول عقد انشاء مصب القنة. ما نسمعه من ناشطي عقارب ووسائل الإعلام أن المصب كان يفترض إغلاقه سنة 2013 أي بعد خمس سنوات من مصادقة المجلس البلدي بعقارب على إنشائه في 2008. فيما يؤكد مسؤولون في “انجاد” أن تاريخ 2013 يخص خانة واحدة فقط من المصبّ وأنها أغلقت فعلا في 2014 ليتمّ الشروع في استغلال خانتيْن جديدتيْن، وأنّ القانون يسمح باستغلال هذا المرفق العام ما بين 15 و25 سنة، أي إلى حدود 2023 أو 2033. ومهما كانت الافتراضات والمزاعم، فإن هناك حقيقة ثابتة: تمّت الموافقة على إنشاء المصبّ واستغلاله في مكان ملاصق لمحمية طبيعية وعلى مقربة نسبيّا من التجمّعات السكنية في زمن كانت فيه كل مؤسسات الدولة ومجالسها غير مستقلّة وغير حرّة في قرارها عن السّلطة المركزية الحاكمة ولم يكن للمواطنين حينها الحقّ في الاعتراض أو إبداء الرأي في قرارات هامّة تمسّ حياتهم. “عقارب” لا تحتضن فقط “مقابر” الفضلات المنزلية والشبيهة بل تدفن فيها أيضا نفايات طبية وصناعية خطيرة فضلا عن الأحواض المخصصة لمادة “المرجين” (مخلفات عصر الزيتون)، إضافة إلى كونها تعاني من مشكلة كبيرة في تصريف المياه المستعملة. باختصار منطقة منكوبة بيئيا وصحيا بأشكال متعددة. وكان من الطبيعي بعد ثورة 2011 أن تنهار أسوار الخوف وتتحرّر الإرادات والألسن. انتظر سكّان “عقارب” أن يغلق المصب نهاية 2013 حسب ما كان مُعلنا لكن ذلك لم يتمّ، بل شرعت الدولة في استغلال مساحات جديدة وتمديد عقود استغلال مع شركات خاصّة. نفذ صبرهم تدريجيا وبعد جملة من الاحتجاجات “الخفيفة” تجذّر الحراك البيئي في المنطقة مع إطلاق حملة “مانيش مصبّ” (لست مصبّا للنفايات) في 2017 والتي تنوعت أساليبها النضالية بين التحركات الميدانية من وقفات احتجاجية وإضرابات ومسيرات والمؤسساتية عبر التظلّم للسلطات المحلية والجهوية والمركزية واللجوء إلى القضاء. انتزع الأهالي في 2019 أمرا قضائيا بإغلاق المصبّ وتنظيفه، لكن تجاهلتْه وزارة البيئة و”انجاد” والبلديات والشركات الخاصة. فتواصلت التحرّكات الاحتجاجية لتصل في بداية شهر نوفمبر 2021، بعد قرار وزارة البيئة التراجع مرة أخرى عن قرار غلق المصبّ، إلى مواجهات عنيفة مع قوى الأمن ومنع شاحنات الفضلات من تفريغ حمولاتها. مثّل هذا الحراك الجديد أول امتحان اجتماعي جديّ لسلطة ما بعد 25 جويلية، وأخفقت فيه بامتياز. إذ واجهته بالعنف البوليسي الشديد ثم تراجعت مستقبلة بعض ممثلي الحراك في القصر الرئاسي مغدقةً عليهم الوعود والتطمينات. بقي الأمر على ما هو عليه في “عقارب”، أي مصبّ متوقّف عن استقبال شاحنات الفضلات لكنّه لم يُغلق رسميّا، لتنتقل الأزمة إلى مناطق أخرى من الولاية. حيث أصبحت الفضلات تتكدّس لأيام طويلة قبل أن يقوم المواطنون بحرقها أو إلقائها في أراض فلاحية مجاورة أو ينتظرون تكرّم البلديات برفع الفضلات وإلقائها في مصبات عشوائية “وقتيّة” تحوّلت إلى جبال من النفايات من دون آليات معالجة وتثمين. في الأثناء، تتصاعد الروائح الكريهة والغازات المضرّة وأدخنة “المحارق” وتتسرّب السوائل المتأتية من تحلّل الفضلات في كل مكان، ومع دخول فصل الصيف وما يرافقه من حشرات وكلاب سائبة وتزايد كمية الاستهلاك، وتاليا فضلات أكثر وسرعة تحلّل أكبر، تصبح الصورة أكثر قتامة. وسط كل هذا يبدو ان “الحلّ السحريّ” المقترح هو فتح مصبّ جديد وعدّة وحدات تثمين للنفايات.
المصبّ ليس نهاية الأحزان
المُلاحظ أنّ النقاش الدائر في صفاقس منذ أشهر يتمحور أساسا -خاصة من قبل الأطراف الرسمية-حول إيجاد مصبّ جديد، أي أين نلقي النفايات؟ والحال ان السؤال الذي يجب أن يطرح ويكون في قلب النقاشات هو كيف نتصرّف في النفايات؟ المشاكل الحقيقيّة تكمن في فرز النفايات منذ لحظة إخراجها من البيوت والمحلات والمؤسسات بمختلف أنشطتها، ثم شروط ووسائل نقل هذه النفايات، وأخيرا التقنيات والأساليب الأقلّ ضررا على البيئة والمواطن في معالجة النفايات والتعامل مع انبعاثاتها وحتى تثمينها لتحقيق مكاسب اقتصادية. إيجاد موقع لمصبّ جديد مع الاستمرار في رفع الفضلات المختلطة من دون أي فرز ونقلها في شاحنات متهالكة ثمّ ردمها أو حرقها بطرق شبه بدائية وملوثة. كل هذا لن يحلّ المشكلة، بل سينقلها من “عقارب” إلى مناطق أخرى وكأنها مدن أشباح أو لا قيمة لسكانها. لذا كان من الطبيعي أن تحتجّ المناطق التي اقترحتها السلطات الجهوية والمركزية لإحداث مصبّات أو “وحدات معالجة وتثمين” جديدة مثل “ليماية” في معتمدية “منزل شاكر” التي رفض مجلسها البلدي المقترح. وكذلك في “هنشير زروق” في معتمدية “المحرس” التي خرج متساكنوها للتظاهر والاحتجاج عدّة مرّات على “المشروع” الذي يُدبّر لهم؛ من يضمن لهم أن لا يتكرر سيناريو “عقارب”؟
مصبّ جديد بسياسات قديمة لن يحلّ أزمة النفايات جذريّا ولن يقلّل من مخاطرها البيئية وآثارها الصحية. وحتى إن تم التوصّل إلى حلّ ناجع وصديق للبيئة فهذا سيعني تخفيف جزء من أزمة أكبر. أزمة ولاية منكوبة بيئيا بحكم كثافة النشاط الصناعي الملّوث للهواء والأرض والبحر، خاصة الصناعات الكيميائية المرتبطة باستغلال الفوسفاط. الولاية الواقعة على سواحل هي الأطول في البلاد يذهب أغلب سكانّها للسباحة في ولايات أخرى بسبب تلوّث البحر وقلّة الأماكن غير الملوثة، فضلا عن تضرّر الثروة السمكيّة. وعلى الرغم من مساحتها الشاسعة، يعاني مركز الولاية من غياب شبه كلّي للحدائق العمومية والمناطق الخضراء والمسالك الصحية، وهو أمر يتفاقم كل سنة أكثر نتيجة التوسع العمراني العشوائي على الضواحي القريبة والأراضي الفلاحية.
دولة مفرطة في “الديمقراطية” و”التشاركية”
مع إخفاق “الحلّ” القمعي في إعادة فتح مصبّ “القنة” وبداية أزمة تكدّس النفايات في صفاقس المدينة والمعتمديات القريبة منها، انتهجت الدولة مسلكا آخر في “حلّ” الأزمة: تتكلّم كثيرا ولا تفعل شيئا ملموسا. أظهرت الدولة ممثلّة في السلطة المركزية (وزارة البيئة أساسا) والجهوية (الولاية) روحا “تشاركية” عالية طيلة الأشهر الفائتة. فلقد أشركت الجميع تقريبا في جلسات وحوارات ونقاشات واستماعات واستشارات: مجالس بلدية، وتنسيقيات مدنية، وشركات خاصة، وممثلي اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة، ومهندسين وخبراء بيئيين… إلخ. تنقّلت وفود رسمية من العاصمة إلى صفاقس، ثم تنقّلت وفود رسمية ومدنية من صفاقس إلى العاصمة. وعلى إثر هذه الزيارات تنقّلت وفود رسمية أخرى من العاصمة إلى صفاقس لتردّ وفود رسمية ومدنية من صفاقس الزيارة إلى العاصمة. وإثر كل لقاء تنشر الصفحة الرسمية لوزارة البيئة على فيسبوك تلخيصا لأهم ما دار في الجلسات “المثمرة” مع نبرة تفاؤلية تبعث على الأمل وفقرات مليئة بالتفاصيل مثل هذه التدوينة:
“وفي مستهل الجلسة، أكّدت السيدة الوزيرة حرص كافة الأطراف المعنية على غرار وزارة الداخلية، وزارة أملاك الدولة، وزارة الفلاحة، وزارة الصحة، وزارة التشغيل، وخاصة البلديات على إيجاد الحلول الجذرية والعميقة لأزمة النفايات بصفاقس والتي تعمل منذ شهر أكتوبر الفارط إلى حد اليوم، لحلّ هذه الإشكاليات وتقريب وجهات النظر وطرح مختلف الحلول الممكنة من أجل الخروج بحلّ تقني عملي يستجيب لتطلعات مختلف الأطراف…”
أن تتحدث دون أن تقول أي شيء، تقول عبارة فرنسية.
لا يوجد مبرّر منطقي وفعليّ لهذا الإفراط في “التشاركية” و”الانفتاح”. التصرّف في النفايات ليس مشروعا مجتمعيا أو سياسة بيئية متكاملة تتطلب صياغتهما تشريك أكبر طيف ممكن من المجتمع. المشكلة تقنية بالأساس، وهناك عدة أمثلة لدول نجحت في وضع آليات تجميع وفرز وتثمين للنفايات صديقة للبيئة من دون أن تكون بالضرورة دولا غنية جدا. ثمّ، ما الذي يفعله العاملون في وزارة البيئة والوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات؟ لماذا تدفع لهم أجورا إذا كانوا غير قادرين على التعامل مع الأزمات واقتراح حلول فعليّة والسعي المستمرّ لحماية البيئة والاطلاع على ما يحدث حولهم في العالم؟ لا يتطلّب الأمر عشرات الجلسات والحوارات المغشوشة بل تمويلات وإرادة سياسية وقيام الدولة بالواجبات المحمولة عليها.
هذا الإفراط في «التشاركية والديمقراطية” الزائفتان يبدو في حقيقة الأمر “بهارا” جديدا لتغيير طعم وصفات قديمة: كسب الوقت والمماطلة أملا في تطبيع السكان مع مسألة الفضلات المتكدسة أو القبول بالتعايش مع مصبّات معادية للبيئة ومهدّدة للصحة العامة. “الانفتاح” على أطراف متعدّدة هدفه الأساسي تمييع المسؤوليات والتهرّب منها. تواتر الاجتماعات والاستشارات يعطي انطباعا بأن حلّ الأزمة هي مسؤولية مشتركة بين أطراف متعددة (جهات رسمية، مجالس بلدية، أهالي، مجتمع المدني) والحال أن المسؤول الأول والوحيد هي السلطة المركزية.
نقاط ضوء تتسلّل من بين الأكياس السوداء
على الرغم من قتامة المشهد وعبثيّته، هناك بعض الإيجابيّات والانتصارات التي قد تبدو صغيرة أو هامشية لكنها هامّة جدّا -على مدى متوسط وطويل- وذات دلالة.
الجيل الثالث من حقوق الإنسان
منظومة حقوق الإنسان ليست ثابتة ونهائية بل تتطوّر باستمرار. لذا يقسمها البعض إلى أربعة أجيال: جيل أول يتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، وجيل ثانٍ يخصّ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في حين يرتبط الجيل الثالث بجودة الحياة عبر المطالبة بالحق في التنمية المستدامة والبيئة السليمة والسلم العالمي، ويشمل الجيل الرابع أساسا حقوق جودة الحياة والتصرف الحرّ في الجسد (الموت الرحيم، زرع الأعضاء، الاستنساخ البشري، وتغيير الجنس، الخ). طبعا لا يعني ظهور جيل جديد من حقوق الإنسان إن مطالب الجيل السابق له قد تحقّقت بل يدلّ على تطوّر احتياجات المجتمعات البشرية ووعيها. كما أن هذه الأجيال ليست كتلا معزولة بل يمكن أن تترابط وتتقاطع. لا شيء يمنع المطالبة بها في آن واحد. وعلى عكس ما يرى البعض، فإن المطالبة بالحقوق البيئية والحريات الفردية ليست ترفا في مجتمعات تناضل من اجل الحدّ الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو السياسية. في تونس مثلا، فتحتْ المطالبة بالجيل الثاني من الحقوق (الاقتصادية-الاجتماعية) في أواخر 2010/ بداية 2011 الطريق أمام حقوق الجيل الأول السياسية المدنية (وهي كلّها مكاسب وقتية مهدّدة). ضمان جزء من حقوق الجيل الأول كحريّة التعبير والعمل السياسي والنشاط المدني فتح الباب نحو المطالبة بحقوق الجيل الثالث خاصة فيما يتعلّق بحماية البيئة والموارد الطبيعية. إذ تشهد عدّة مناطق تحرّكات مستمرة منذ سنوات لإنهاء آثار الأنشطة الاستخراجية والصّناعات التحويلية الكيميائية الملوثة (قفصة، قابس، صفاقس)، والاحتجاج على تلويث الموارد المائية واستنزافها (مصانع النسيج في المنستير، مقطع الحجارة في الهوايدية، شركات تعليب المياه في القيروان)، ومحاولة التصدّي للأنشطة والصناعات البتروليّة الملوّثة للبحر والهواء (قرقنة، الصخيرة، بنزرت)، وكذلك “مصنع الحلفاء” في القصرين و”مصنع الآجر” في القلعة الصغرى/ سوسة. ويمكن أن نجد عشرات الأمثلة الأخرى متناثرة في كامل أرجاء البلاد، لكن لم يُسمع صوتها بسبب محدوديّتها أو تجاهل الإعلام لها.
هناك وعي بيئيّ يتشكّل ببطء وأحيانا بشكل غير واضح لكنّه سيتطوّر حتمًا. صار الناس يطالبون بتنمية حقيقية تخلق مرافق عمومية وفرص شغل تحترم كرامتهم، ولا تضرّ بصحتهم، ولا تفسد الهواء الذي يتنفسونه، ولا تستنزف الموارد الطبيعية. وهذا لا يقتصر على نخبٍ حضرية “مثقفة” و”واعية” متشبّعة بالثقافة الغربيّة، بل يطالب به الناس عمومًا، ومنهم الذين يعيشون في أكثر المناطق فقرا وعطالة. الحركات الاجتماعية-البيئية مرشحة للتزايد في السنوات القادمة في وقت يبدو فيه وعي الحكّام المتعاقبين متأخّرا عن وعي محكوميهم.
حضور لافت للمجتمع المدني
ولاية صفاقس واحدة من المعاقل التاريخيّة للحركة النقابيّة العماليّة والطلابيّة. ولها تاريخ في الانتفاضات الاجتماعية السياسية فضلا عن تنوّع “العرض” السياسيّ فيها وكثافة النسيج الجمعياتي. كلّ هذه العوامل ساهمتْ في منح دور هامّ للمجتمع المدنيّ وللأهالي في أزمة النفايات الراهنة (وفي قضايا بيئية ومجتمعية أخرى). وبما أن القضية البيئة تمسّ الجميع تقريبا (وإن بتفاوت)، فإنّها استطاعتْ أن تجمع من حولها مكوّنات متنافرة أو غير متجانسة مثل اتّحاد الأعراف واتّحاد الشغالين ونوادٍ رياضية ورابطة حقوق الإنسان وجمعيات “غير مسيّسة”، بالإضافة إلى تنسيقيات مواطنية وشبابية.
من مصبّ النفايات إلى قصور العدالة
من أهم الانتصارات الصغيرة التي تحققت في أزمة نفايات صفاقس، الأحكام القضائية التي اقتلعها مواطنون وتنسيقيات مدنية من قاعات المحاكم. لا يجب أن ننسى أن المنعرج الكبير في هذه الأزمة حدث يوم أصدرت محكمة الناحية بمعتمدية عقارب يوم 11 جويلية 2019 إذنا على عريضة يلزم كلا من وزارة البيئة وشركة المناولة ‘سيقور’ والوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات والديوان الوطني للتطهير بالتوقف الفوري عن استغلال مصب “القنة” وإزالة الفضلات المجمعة فيه في غضون ستة أشهر. حكم جاء بعد تقديم شكوى جماعية من قبل مواطنين يقطنون المنطقة. وكانت قاضية الناحية التي أصدرت القرار عدد “3545”، السيدة أحلام قوبعة، استندتْ إلى الفصلين 213 و214 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية وما ينصّ عليه الفصل 45 من الدستور: “تضمن الدولة الحقّ في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ“. صحيح أن القرار القضائيّ لم يُنفّذ فورا، وتعاملتْ معه الدّولة التونسية في البداية وكأنه منشور فيسبوكي وليس حكما ملزما، لكنه شكّل سابقة يمكن البناء عليها في مقاضاة المواطنين للدولة عندما تخلّ بواجباتها، واجتهادا قضائيا قد يُلهم قضاة ومتقاضين آخرين. الدليل على ذلك، الأحكام الاستعجالية التي صدرت في 7 ديسمبر 2021 عن الدائرة الاستعجالية بالمحكمة الابتدائية بصفاقس والتي قضت بإلزام البلديات والوكالة الوطنية للتصرف في النفايات برفع الفضلات والتصرف فيها. وأتت هذه الأحكام على إثر دعاوي رفعتها مكوّنات من المجتمع المدني بدعم من الفرع الجهوي لعمادة المحامين. في مارس الفائت طعنت الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات في الأحكام وذهب الملف إلى محكمة الاستئناف، وما زال المسار القضائيّ متواصلا.
***
صفاقس ليست حالة معزولة، فلقد عرفت عدة مناطق في السنوات الأخيرة احتجاجات وحركات اجتماعية بسبب الضرر الواقع عليها من مصبّات “مراقبة” وعشوائية تفسد حياة الأهالي. فضلا عن تشكّي أغلب التونسيين -حتى في “المناطق المحظوظة” و”الأحياء الراقية”- من المظهر البائس للفضلات المتناثرة في الطريق وقرب المنازل، وحاويات النفايات التي تتجمّع فيها بقايا الطعام مع الزيوت مع المنتجات البلاستيكية والورقية والمعدنية والبطاريات وفضلات أعمال البستنة والبناء وحتى الحيوانات النافقة. وفي الوقت الذي تتكثّف مشاركة الدولة في قمم ومؤتمرات دولية واقليمية حول التغير المناخي والاقتصاد الأخضر والانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، فإنها لا ترى حرجا في فتح مصبّ نفايات في نطاق محميّة طبيعية وما زالت تعتمد أساليبَ بدائية في تجميع الفضلات والتصرّف فيها. أزمة نفايات صفاقس امتحان جهويّ سيصبح قريبا محنة وطنية إذا لم تتحرّك الدولة -بلا مماطلة وتهرّب من المسؤولية-سريعا وبشكل ناجع مسخرّة الإمكانيات المادية والتجهيزات اللازمة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.