مركب متضرّر من تراكم الأتربة على الشاطئ (تصوير فراس عبد الله)
برحابة صدر وأمل يستقبل صيّادو الأسماك وعائلاتهم في بلدة العريضة العكارية الصحافة متأمّلين أن يثير نقل قضيتهم إعلامياً حسّ المسؤولية لدى المسؤولين في الدولة اللبنانيّة. هم الّذين يواجهون بالإضافة إلى تبعات الأزمة الاقتصادية، انقطاع رزقهم كلّ عام لنحو ثلاثة أشهر بسبب تجمّع الأتربة على مدخل ميناء الصيادين في البحر عند فم النهر الكبير. فالأتربة المتراكمة تمنع مراكبهم من العبور إلى مصدر رزقهم. وانقطاع الصيّاد عن العمل لثلاثة أشهر في العريضة يعني، من دون مبالغة، أنّ أولاده سينامون بأمعاء خاوية حيث أنّ صيد السمك هو مصدر الرزق شبه الوحيد في هذه البلدة المنسية على حدود شمال لبنان، وتحديداً بين مصبّي نهر الصوّان والنهر الكبير، نحو طرطوس السورية.
وبالتالي مع توقّف الصيد، ستفقد 150 عائلة مصدر رزقها (يبلغ المعدّل الوسطي للعائلة في العريضة 7 أشخاص)، ويدخل الجميع متاهة الفقر والعوز والمرض والتسرّب الدراسي لأطفالهم وصعوبة الوصول إلى الخدمات الغذائية والصحية وشراء الأدوية. فحتى تأمين قارورة غاز لطهي الطعام بات معجزة في هذه الظروف، فلجأت بعض العائلات إلى إنشاء موقد متواضع من حجرين خارج المنزل وطهي الطعام على الحطب إن توفّرت المواد الأوّلية لطبخ وجبة ما.
الأتربة تعيق عمل الصيّادين
يُشكّل النهر الكبير الجنوبي، حسبما يسمّيه السوريّون كونه يقع جنوب سوريا والنهر الشمالي كما يسمّيه أهالي العريضة كونه يقع شمال لبنان، الحدّ الفاصل بين الحدود اللبنانية والسورية، وعلى فمه يتركّز ميناء الصيادين أسفل مركز العريضة الحدودي، أحد المعابر الخمسة التي تصل لبنان بسوريا. وتتّصل الحدود عند العريضة بجسر يعبر فوق المصبّ مباشرة في البحر الأبيض المتوسط.
صيد السمك هو الوظيفة الأكثر جذباً لشبّان البلدة ورجالها، ومصدر الدخل الرئيسي للعائلات، وتأتي من بعدها الزراعة، وإلّا الانضمام إلى الجيش اللبناني أو النزوح إلى العاصمة للعمل في المحال التجارية. وينقطع باب الرزق شبه الوحيد في البلدة كلّ عام نحو ثلاثة أشهر بسبب تدفّق كمّيات هائلة من الأتربة والرمول يحملها موج البحر من جهة، والنهر الكبير وترسّباته من جهة ثانية، فيعجز الصيّادون عن إخراج قواربهم للوصول إلى البحر.
وتشكّل الأتربة المتجمّعة على مخرج الميناء شبه يابسة رطبة يمكن بسهولة السير بالأقدام عليها، فيما لا تزال المياه تتجمّع في الوسط لكنها تشكّل حاجزاً طبيعياً أمام إبحار المراكب بسبب كثافتها. وتطفو نبتة على سطح النهر الكبير، وهي نبتة غريبة عن المنطقة من نوع نبتة “ورد النيل” حسب الصيادين، وبدأت بالانتشار منذ بضع سنوات على سطح المياه وتتسبّب أيضاً بعرقلة حركة المراكب وتمزق شباك الصيادين، وتعرّضها للتلف.
موقع بارز لبلدة منسية
التقاء النهر والبحر عند بلدة العريضة لا يجعلها مقصداً للسوّاح، فلا يوجد أي معلم سياحي ولا حتى معلم لاقتصاد محلّي منتعش، فالحدود بين لبنان وسوريا هناك لا تمدّ بلدة العريضة بأي فائدة على الصعيد الاقتصادي للمنطقة، سوى بضع ليرات سورية يدفعها عابرو الحدود كبقشيش لأبناء العريضة ومعظمهم أطفال يتوجّهون يومياً إلى المركز للمساعدة في حمل الأمتعة. ولا تتعدّى قيمة البقشيش 100 ليرة سورية (300 ليرة لبنانية). وعند أسفل الجسر، كميات هائلة من المجارير تصبّ يومياً من شبكة الصرف الصحي التابعة للبلدة فتنشر رائحة كريهة اعتاد الأهالي القاطنون على ضفاف النهر عليها. ولا تقتصر المجارير فقط على شبكة العريضة بل يحمل النهر معه مياه الصرف الصحي لبلدات مجاورة على طول مجراه.
“لو كنّا في ظروف مختلفة لانتعشت قريتنا بالسوّاح الّذين يقصدون ضفاف النهر، بخاصّة أنّه يقع على الحدود اللبنانية السورية، فماذا لو كان متاحاً لنا إنشاء المقاهي ومطاعم السمك نجذب الزوّار إلى منطقتنا أو حتى استراحة بسيطة للمسافرين إلى سوريا وزائري لبنان؟”، هذه بعض من أحلام الصيّاد هيثم الذي يتكلّم بوضوح عن إهمال وتقصير شديدن ترتكبهما الدولة اللبنانيّة بحق بلدته وقضاء عكّار. ويُقاطع صياد آخر هيثم ليتحدّث عن شكوكه في وجود نوايا للإبقاء على هذه المنطقة محرومة وفقيرة رغبة من بعض الطمّاعين بالاستحواذ على الاستثمارات فيها، مشيراً إلى أنّه كان هناك نية للدولة أن تنقل مرفأ الصيادين إلى موقع آخر على البحر، وبناء كاسر للأمواج، لكنّ أحد السياسيين منع تنفيذ المشروع بسبب نيّته إنشاء مشروع خاص به هناك.
أبواب الدولة مقفلة ورزق الصيّاد على الله
لم يترك الصيادون باباً لم يطرقوه حتى باتوا أصحاب خبرة بطرق أبواب المسؤولين، من الاتحاد العمّالي العام إلى وزارة الأشغال فوزارة الداخلية فوزارة المال وسياسيين من المنطقة. وكلّ هؤلاء تلكأوا في نجدتهم والاستجابة لمطالبهم. يأمل الصيّادون أن يتحرّك الاتحاد العمّالي العام نصرة لقضيتهم، ووفقاً لأحد الصيادين فإنّ “الاجتماعات مع الاتحاد لم تكن سوى اجتماعات شكلية لم تصل إلى أيّ نتيجة”.
يقول نقيب صيّادي العريضة محمد عبلة “عادة تقوم وزارة الأشغال العامّة بتننظيف الأتربة مع بداية كل موسم صيف، إلّا أنّه في السنوات الثلاث الماضية بات هذا الأمر لا يتحقّق بحجّة عدم وجود موازنة لدى وزارة الأشغال، فتقضي االأتربة على العمل في الصيف، وهو الموسم حيث يسمح المناخ وحركة الرياح والبحر بالخروج اليومي إلى الصيد”. ويضيف: “كلّ عام في شهر تموز نبدأ بالتواصل مع الوزارة وبين أخذ ورد ووعود متكررة ونحو 10 مشاوير إلى بيروت لا يأتي الحل، فيما تقضي الأتربة على رزقنا”. ويلفت عبلة إلى أنّه في السنوات السابقة “كان التواصل مع الوزارة يأخذ نحو الشهر لنتلقّى الرد، ثم ننتظر نحو 20 يوماً لتنظيف النهر”. فالصيادون ينتظرون أن تكلّف وزارة الأشغال متعهّداً عبر مناقصة علنية، وهذا يحتاج إلى رصد موازنة من وزارة المال كما إلى ترخيص من وزارة الداخلية لكي يُنفّذ العمل على الأرض، وكلّ هذا يأخذ وقتاً طويلاً” حسب عبلة. ويأمل عبلة أن يحلّ الشتاء باكراً هذا العام “لأنّ هطول المطر وحده كفيل بأن يدفش مجرى النهر ليأخذ معه الأتربة ويعيدها إلى البحر”.
ويدرك عبلة أنّ الأزمة في البلاد على الجميع “نعلم أنّنا لسنا الوحيدين الّذين تضرّروا من الأزمة الاقتصادية، لكن حين يُغلق النهر يتوقّف مصدر رزقنا وبيننا عائلات غير قادرة حتى على تأمين وجبة غذاء لأولادها”.
وزارة الأشغال العامة لا موازنة وتستعين بالحلّ مؤقت
بعد المطالبات الحثيثة، لجأت وزارة الأشغال العامة إلى وعد الصيادين قبل أيّام بتنظيف النهر لكن “بشكل مؤقت”. ويشرح مدير عام النقل البري والبحري بالوكالة في وزارة الأشغال العامّة لـ “المفكرة” د. أحمد تامر أنّ “وزارة الأشغال رصدت من موازنتها الخاصة لتأمين كلفة تنظيف مجرى النهر، لكن هذا التنظيف مؤقت، أي أنّه لن ينهي المشكلة انما سيسمح للصيادين بالعودة للعمل بشكل مؤقت، على أن نعود إلى دراسة تلزيم متعهد متخصص عبر مناقصة أو مزايدة علنية”. ويلفت إلى أنّ ذلك يحتاج إلى “موافقة وزارة المال لتأمين الكلفة، كما أنه من الطبيعي المرور عبر وزارة الداخلية لطلب الإذن”. يؤكد تامر أنّ الوزارة أرسلت مندوباً لمعاينة الوضع على الأرض وتقييم الكلفة على أن يعد تقريره “وهذا الأمر ينطبق على جميع المرافئ والموانئ البحرية حيث يجري اليوم متابعة لأوضاعها لأجل تنظيفها”.
يأتي تحرّك وزارة الأشغال اليوم لاعتماد هذا الحل المؤقت بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على أزمة الصيادين، ويبرر تامر الأمر بـ “تأخر تشكيل الحكومة، كما لعدم توفر موازنة لدى الوزارة، واليوم تمت مراجعة مالية الوزارة من جديد وتم تخصيص مبلغ لتنظيف النهر”.
تامر يشرح أنّ هذه المنطقة تتعرّض كل عام لتراكم الأتربة بسبب حركة التيارات البحرية تحت المياه فتحمل الأتربة التي تتجمع وتقفل الميناء، لافتاً إلى أنّ موقع ميناء الصيادين هو مرفأ طبيعي وليس منشأة، ما يعزز صعوبة التعامل مع المشكلة بشكل نهائي.
كلفة الصيد عالية والربح ضئيل
يحمل الصياد أعباء مالية عالية لممارسة مهنة صيد الأسماك، ومع ارتفاع الكلفة ينخفض الربح الذي يجنيه بسبب توقّف عمله لثلاثة أشهر كل عام مع تراكم الأتـربة. ويشرح الصياد هيثم درويش أنّ سعر كلّ شبكة صيد 12 دولاراً، ويستوعب كل مركب أو “لانش” 100 شبكة، وهي تكاليف يتكبّدها الصياد كل ثلاثة أشهر تقريباً. ويُضاف إلى ذلك، التكاليف الإضافية التي فرضتها الأزمة الاقتصادية وبخاصّة ارتفاع أسعار المازوت وفقدانه حيث وصل سعر الصفيحة منه إلى 235 ألف ليرة لبنانية. وغير ذلك، يحتاج الصياد قبل الخروج بمركبه إلى ارتداء بدلة خاصّة بالصيد سعرها نحو 250 ألف ليرة، فيما كانت في السابق لا تكلّف سوى 30 ألف ليرة. وفي حال أراد الصيد على الشاطئ فسعر البدلة التي يرتديها بات 750 ألف ليرة بعدما كان 150 ألف ليرة. يؤكد درويش أنّ ما يجنيه الصيّاد لا يكفي لتغطية الكلفة وتغطية تكاليف واحتياجات عائلته، واليوم مع الأزمة الاقتصادية الخانقة باتت لقمة العيش تشكل تحدياً للعائلات، مشدداً على أنّ هؤلاء (عائلات الصيادين) يصلون إلى نهاية الشهر والديون تراكمت على عاتقهم.
صيد السمك المهنة شبه الوحيدة لكسب الرزق
يعتاش من ميناء العريضة نحو نحو 150 عائلة يخرج أفرادها على 20 مركب صيد إلى البحر، وتزداد أعداد الصيادين إثر خسارة الكثير من شبّان البلدة وظائفهم في المدن جرّاء الأزمة الاقتصاديّة وعودتهم إلى بلدتهم لامتهان المهنة شبه الوحيدة الموجودة فيها. حتى أبناء العريضة المنضمّون إلى الجيش اللبناني باتوا يقصدون البحر خلال مأذونيّتهم لصيد السمك بسبب انخفاض قيمة أجورهم التي لا تكفي لتأمين كلفة مواصلات من مراكز الخدمة إلى بلدتهم. ويلفت نقيب الصيادين محمد عبلة في حديث مع “المفكرة القانونية” إلى أنّ “راتب العسكري كان يكفيه لياكل ويشرب، هلّق بس روحة على الخدمة”.
والصيد في هذه المنطقة تشاركي نظراً إلى أنّه لا يمكن لكلّ صيّاد شراء مركبه الخاص لذلك يستخدم عدّة صيادين المركب نفسه لكسب الرزق: “الأمر هنا عبارة عن عمل تشاركي هدفه أن يستفيد الجميع” بحسب النقيب عبلة. ويضيف “تخرج مراكب الصيد عند ساعات الفجر الأولى إلى البحر، وعلى كل مركب صيادين عدّة، كلّ صيّاد يحمل معه عدداً معيّناً من الشباك، ورزق كلّ صياد في شباكه”. ويرافق الصيادين أولاد من العريضة يساعدونهم في فرط الشباك وتوزيع السمك ونقلها من المركب إلى الرصيف، ويتلقّى كلّ ولد بضعة آلاف من الليرات لقاء خدماته.
أمّا فرط شبكات الصيد لإعادة تنظيفها وتوضيبها فهي من مهام النساء “مهنة تمتهنها غالباً زوجات الصيادين اللواتي توفّر مساهمتهن في هذا العمل أجرة عامل يتقاضى على كلّ شبك ألفي ليرة”، بحسب تعبير ندوة العشي (36 عاماً)، زوجة أحد الصيادين التي كشفت للمفكرة عن يديها “المجلوفتين” (متقرّحتين) من كثرة العمل في تنظيف الشباك. ويتحدّث الصيّاد هيثم درويش عن “الأطفال الّذين يتركون مقاعدهم الدراسية للالتحاق بمراكب الصيد، حيث يجد الولد هنا نفسه مسؤولاً عن عائلته فيلتحق بالصيادين لمساعدتهم وتقاضي أجر لقاء خدماته، وتعلّم مهنة الصيد أيضاً”.
الجوع يجتاح عائلات الصيادين: لا يوجد شيء لنطبخه!
لا تتقاضى أيّ من زوجات الصيادين أجراً لقاء مساعدة أزواجهنّ، يعتبرنه واجباً يقمن به خلال توجّه الصيادين إلى سوق العبدة صباحاً لبيع الأسماك، وينتظرن عودتهم ببعض الرّبح لتأمين الطعام للأسرة من دون أن تتمكّن أيّ من العائلات من تحصيل المال لشراء الملابس والكتب المدرسية حتّى.
ندوة أمٌ لستة أولاد، 4 بنات وصبيين. قبل 12 عاماً تركت قريتها ببنين لتتزوّج صياداً من أبناء العريضة. تقول: “أتت عمّة زوجي إلى منزلنا واختارتني زوجة لابن أخيها وهكذا تزوّجت، ولاحقاً تزوّجت أختي من رجل من العريضة أيضاً”. تسكن ندوة في غرفة يتيمة وسط دار صغير مسيّج بحائط إسمنتي، وخلفها تسكن أختها في بيت من غرفة واحدة أيضاً. تُشير ندوة إلى الدار، حيث تجمع العائلة شباك الصيد في الخارج، وتتناوب مع زوجها وأولادها لفرط الشباك، لتقول: “هذا منزلي، ننام صيفاً في الدار وفي الشتاء ننتقل إلى داخل الغرفة”. الغرفة التي أدخلتنا إليها ندوة عبارة عن مترين فيها كنبتان مهترئتان وتلفاز لا تستخدمه العائلة إلّا نادراً حين تأتي الكهرباء. وفي مساحة صغيرة في الغرفة المفصولة بحائط يوجد مطبخ ضيّق فيه مجلى والقليل من أدوات الطبخ، صحون عدّة وطنجرتان. تشرح ندوة أنّه قبل عام صعد زوجها في مركب الصيد وتوجّه إلى البحر ولكن “لسوء حظّه تخطّى الحدود المسموح بها فأطلقت القوّات السورية النار عليه فأصيب في قدمه وقبع في المنزل لنحو عام، وهو اليوم لا يستطيع أن يبذل مجهوداً كبيراً في العمل بسبب الإصابة التي لا يزال يعاني من أوجاعها”. تضيف، “حين أُصيب زوجي كنت حاملاً في الشهر الأول، منذ ذلك الحين بدأ ابني يذهب كلّ يوم إلى الحدود ويساعد عابري الحدود في حمل الشنط ويتلقّى إكراميّات”. تحمل ندوة بين يديها ورقتين من العملة السورية بقيمة ألفي ليرة “هذا المال جلبه ابني هذا الصباح وقال لي يا إمي ما بكفّو نجيب أكل، قلتلّو الله يرزقك يا إبني”. ابن ندوة ذو التسع سنوات بات معيل عائلته، فيما دفعته أزمة كورونا والتعئبة العامة وتحوّل التعليم إلى تعليم عن بعد إلى ترك الدراسة، “ليس لدينا هواتف ولا كمبيوترات، كيف سيدرس أولادي أونلاين؟”.
تأمل ندوة أن يتيح وجود صحافة في منزلها لها إيصال ندائها إلى آذان المسؤولين أو أي جمعية معنيّة بحقوق الإنسان لمساعدتها وعائلتها. تؤكّد أنّه “غالباً ما ينام أولادي بلا طعام، كنت أستند على إعاشة توزّعها منظمة الرؤية العالمية في البلدة لكنّ المساعدات توقفت منذ فترة”. وتُضيف، “كنت أجد الأرز والعدس وغيرها من الحبوب لأطبخ لأولادي، أمّا الآن فأنا أستدين المال أو أقتسم الطعام بيني وبين شقيقتي التي هي أيضاً تعاني من وضع مشابه”. “منذ يومين طبخت شقيقتها الكشك “وأرسلت حصة لأولادي، لم يكن لديها كمية كافية من الكشك فكانت الطبخة رخوة، فأكلها أولادي بالملعقة من دون الخبز”.
خلال مراقبة هذه الغرفة الضيّقة التي يعيش فيها ثمانية أفراد، ننتبه إلى عدم وجود حمّام لنتفاجئنا ندوة بإزاحة بعض الفرش الإسفنجية المسندة إلى الجدار لتكشف عن باب صغير لا يتجاوز المتر عرضاً ويرتفع نحو نصف متر عن الأرض لتقول “هيدا حمّامنا”. تروي ندوة أنّه بسبب ضيق مساحة الغرفة تسند الفرش على باب الحمام “وحين نريد استخدامه أزيح الفرش وأنحني لأدخل الحمام من الباب الصغير”. وتلفت إلى أنّ إحدى الجمعيات قامت بمساعدتها بترميم الحمام وتركيب شباك له”.
فاطمة شقيقة ندوة، وزوجة صياد آخر من العريضة، تعيش في غرفة أخرى خلف غرفة شقيقتها ولديها ثمانية أولاد أكبرهم ستّة عشرة سنة، وبينهم أربعة فقط مسجّلين في المدرسة. يملك زوجها عدداً قليلاً من الشباك وتعتاش العائلة من الصيد لتأمين بعض الحاجيات والطعام. منزل فاطمة عبارة عن مطبخ متواجد في مدخل البيت، برّاد لا يعمل بسبب انقطاع الكهرباء، ومجلى عليه بقايا من وجبة سمك اصطادها زوجها صباحاً ليأكل الأبناء. تشير إلى أنّ “الأربعة رسبوا في الدراسة العام الفائت، لأنّ الدروس كانت تعطى أونلاين ونحن لا نملك الكمبيوترات ولا الهواتف ليتلقوا دروسهم”. وتضيف، “هذا العام سأسجلّهم في المدرسة الرسمية وهي المدرسة الوحيدة في العريضة وموجودة على ضفة النهر، لكن لا أدري بعد من أين سأجلب ثمن الكتب والقرطاسية”.
تشرح فاطمة أنّ العامين الأخيرين كانا أسوأ مراحل حياتها، “كل شيء أصبح سعره غال، وأرباح الصيد لا تؤمن المصاريف”. تتابع، “يذهب أولادي الصبيان ويجولون الشوارع بحثاً عن الحديد إذا لاقوا شي حديدة ببيعها وبجيب مصاري وساعتها بطبخ”. فاطمة تؤكد أنّ غلاء الأسعار منع زوجها من إمكانية شراء شباك جديدة”.
تخرج فاطمة من مطبخها، لتأخذنا إلى خارج البيت حيث أنشأت موقداً لتطبخ الطعام عليه في مساحة صغيرة أمام الباب الرئيسي للمنزل. وتلفت إلى أنّها “منذ أشهر ومع غلاء أسعار الغاز بدأت أطبخ في الخارج وما عدت أستخدم الغاز، وقريباً سيبدأ المطر بالهطول ولا أدري أين سأنقل الموقد”. وبسبب ضيق مكان تركّز الموقد الذي تستخدمه فاطمة “تعرّضت للإغماء منذ أيّام من شدّة الاختناق والحمدالله لم أكن وحدي في المنزل”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.