لم يُنهِ إعلان وقف العمليات العدائية حالة النزوح التي يعيشها الكثيرون ممّن تركوا بيوتهم بفعل الغارات الإسرائيلية. ففي حين سارعت آلاف العائلات إلى العودة إلى منازلها في البقاعوالجنوبوالضاحيّة الجنوبيّة، لم تتمكن عائلات أخرى من العودة. من هذه العائلات من عليها انتظار انسحاب الجيش الإسرائيلي من قراها الحدوديّة والتأكّد من أنّ العودة إليها آمنة في ظلّ تكرار خروقات إعلان وقف النار من قبل جيش العدو الإسرائيلي. وكان من بين هذه الخروقات، استهداف المدنيين أثناء مشاركتهم في تشييع شهداء في بلدة الخيام وتكرار إطلاق النار على المواطنين في بنت جبيل ومصوّرين صحافيين في الخيام أيضًا. ومنهم من ينتظر إعادة إعمار منزله أو ترميمه أو حتّى إصلاح الكهرباء والمياه كما حال مئات العائلات في الضاحية الجنوبيّة لبيروت.
أزمة النزوح مستمرة
مع إعلان وقف إطلاق النار، باشرت عائلات إخلاء المدارس أو هي تتهيّأ لإخلائها ليس بهدف العودة، ولكن للانتقال إلى مراكز إيواء جديدة. فخلال جولتنا على عدد من هذه المدارس والمراكز في بيروت وبئر حسن وجدنا أنّ معظمها فرغ كليًّا إذ عاد من عاد من النازحين ونُقل من بقي إلى مراكز إيواء أخرى. وبقيت عائلات قليلة في بعض المراكز مثل مبنى العازارية حيث لا يزال هناك 16 عائلة لا تعرف مصيرها، وكذلك معهد بئر حسن حيث بقيت 60 عائلة سيُصار إلى جمعها مؤقّتًا في طابق واحد حتّى يتسنّى للمعهد بدء العام الدراسي. وكان لافتًا تكرار من التقينا بهم من نازحين لم يتمكّنوا من العودة الحديث عن توقّف المساعدات وإقفال المطابخ التي كانت تقدّم لهم وجبات الطعام في اليوم التالي لإعلان وقف إطلاق النار. “سكّروا المطبخ وفلّوا، ومقطوعين من المَي، وكأنّ أزمة النزوح انتهت” تقول نازحة من الضاحية في مبنى العازاريّة.
حسب الأرقام الرسميّة الصادرة عن لجنة الطوارئ الحكوميّة، لا يزال هناك حوالي 23% من النازحين إلى مراكز الإيواء في جميع الأراضي اللبنانية، موجودين فيها أي ما يقارب 34 ألف شخص من أصل 200 ألف، النسبة الأكبر منهم في محافظة بيروت. وفي حين لم يُعلن حتّى اللحظة عن خطّة للتعامل مع هؤلاء النازحين، أعلنت غرفة إدارة الكوارث والأزمات في محافظة بيروت عن تخصيص مركزيْ إيواء للعائلات هما مركز “بنين” في المدينة الرياضيّة وبيت الضيافة “فلورا” في منطقة الكرنتينا والذي تديره جمعيّة فرح العطاء. إلا أن هذين المركزين لن يحلّا الأزمة، إذ إنّ عدد النازحين الذين لم يُغادروا مراكز الإيواء في بيروت وحدها بلغ 8 آلاف شخص حسب محافظ بيروت مروان عبّود، في حين أنّ القدرة الاستيعابيّة القصوى لهذين المركزين لا تصل إلى ألفي شخص. وأعلن عبّود أنّه قد يتمّ توسعة مركز “بنين” في حال احتاج الأمر لأنّه من المتوقّع أن يعود عدد من العائلات التي تركت مراكز الإيواء بعد أن تجد بيوتها غير قابلة للسكن.
وقد بلغ مركز المدينة الرياضيّة الذي افتتح يوم السبت الماضي قدرته الاستيعابيّة القصوى حسب ما يُخبرنا متطوّع من جمعيّة “بنين” التي تديره، فالغرف التي فرغت مع إعلان وقف إطلاق النار عادت وامتلأت سريعًا من نازحين طُلب منهم إخلاء المدارس.
يتّسع هذا المركز إلى ما بين 600 و800 شخص حسب عدد الأفراد في الغرفة والذي قد يصل إلى 9 كأقصى حدّ. وقد تم تجهيزه بالاحتياجات الأساسيّة من فرش وحرامات ومياه ساخنة إلّا أنّ التدفئة لا تزال غائبة. “تقريبًا في كل شي بالمركز وهناك مطبخ يتكفّل بالوجبات، ولكنّنا نحتاج إلى تدفئة” يقول متطوّع في “بنين”.
أمّا بيت الضيافة في الكارنتينا، فتقول المسؤولة عنه المتطوّعة من جمعية فرح العطاء المحاميّة ماري ضو إنّه كان يستوعب بحدود 800 شخص ترك نصفهم تقريبًا المركز فور إعلان وقف إطلاق النار. وحاليًا يتمّ التنسيق معها من قبل هيئة الكوارث والمحافظ لنقل بعض العائلات تحديدًا من المدارس تسهيلًا لبدء العام الدراسي. وتلفت ضو إلى أنّ ما يحصل حاليًا هو بداية أزمة نزوح جديدة مع ما تشمله من حاجة إلى مراكز إيواء وتأمين احتياجات النازحين، فمن ترك من النازحين أخذ معه فرشه والحرامات وكلّ الاحتياجات الأساسيّة وهذا طبيعي برأيها لأنّ معظمهم سيعود إلى بيوت متضرّرة أو للسكن مع عائلات أخرى فهو بحاجة إلى هذه الأمور.
وتسأل ضو عن الجهات التي ستتكفّل بهذه الاحتياجات قائلة إنّه مع بداية النزوح تأمّن للمركز وعبر محافظة بيروت الفرش، واليوم على الحكومة والجهات المعنيّة أن تعي أنّ أزمة النزوح لم تنتهِ وأنّ عليها وضع خطّة للتعامل معها، ولاسيّما أنّ عددًا من العائلات التي تركت المركز عادت إليه ما يعني أنّ قدرته الإستيعابيّة لن تكون كبيرة.
وعند سؤالنا عن الأسباب التي دفعت العائلات إلى العودة إلى المركز بعد تركه، تذكر ضو أنّ بعضهم من القرى الحدوديّة فبالتالي لم تكن عودتهم آمنة وبعضهم مستأجرون في الضاحية الجنوبيّة رفض أصحاب الملك تجديد عقود الإيجار لهم ولاسيّما أنّهم لم يدفعوا إيجار شهريْ النزوح، وبعضهم وجد أنّ منزله غير قابل للسكن أو لا يمكن العودة إليه قبل تأمين الكهرباء والمياه.
عودة أهل القرى الحدوديّة مؤجّلة
لم يتمكّن أهالي القرى الحدوديّة من العودة إلى منازلهم. فهؤلاء الذين بدأوا رحلة نزوحهم قبل عام تقريبًا من توسّع العدوان، عليهم الانتظار، ولاسيّما أنّ جيش العدو لا يزال يصدر تحذيرات إلى سكّان عدد من هذه القرى ويطلب منهم عدم العودة ويقوم باستهداف المواطنين فيها.
كانت أمّ محمد تتمنّى أن تخرج من مدرسة أنطلياس حيث انتقلت قبل شهرين، وأن يكون وقف إطلاق النار إعلانًا لانتهاء رحلة نزوحها المستمرّة منذ أكثر من عامّ، ولكنّها من ميس الجبل أي من القرى التي لا يزال ثمة صعوبات للعودة إليها كما تقول لـ “المفكرة”. وتضيف أنّه وبعد إعلان وقف إطلاق النار ومع مغادرة جميع من كان في المدرسة اضطرّت إلى الانتقال إلى المدينة الرياضيّة لتكون محطّة نزوحها الثالثة، إذ كانت تركت ميس الجبل بعد السابع من 8 أكتوبر وانتقلت إلى منزل أختها في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وبعد توسّع العدوان في 23 من أيلول الماضي انتقلت من الضاحية إلى مدرسة أنطلياس.
لا تعرف أم محمد إن كان منزلها لا يزال صالحًا للسكن ولكنّها تعرف أنّها ستعود إلى قريتها في اللحظة التي يُسمح لها بذلك “تعبنا، سنة صرلنا نازحين، ما في متل البيت” تقول.
كما ميس الجبل لا تزال حولا غير آمنة كما تعبّر أم قاسم “عاد أولادي إلى منازلهم في تول النبطيّة، ولكنّي من حولا ومنزلي هناك” تقول لـ “المفكرة” . تخبرنا أم قاسم أنّ بيتها تدمّر وبقي بيت ابنتها وأنّها ستعود إلى قريتها ما أن يصبح ذلك ممكنًا ولكن “إلى حينها، الله يعيننا على النزوح” .
وكانت قيادة الجيش دعت المواطنين العائدين إلى القرى والبلدات الحدودية في الجنوب، بخاصة في أقضية صور وبنت جبيل ومرجعيون إلى التجاوب مع توجيهات الوحدات العسكرية وعدم الاقتراب من المناطق التي توجد فيها قوات العدو الإسرائيلي، حفاظًا على سلامتهم، لا سيّما وأنهم قد يتعرضون لإطلاق نار من القوات المعادية.
وكانت بلدية ميس الجبل دعت الأهالي إلى عدم التوجه الى البلدة لأنّ بعض المنازل لا تزال مفخخة فضلًا عن استهداف القرية بقصف مدفعي، مشيرة إلى أنّها تُتابع مع الجيش الإجراءات كافة لتسهيل العودة.
في انتظار الترميم وإعادة الإعمار
ومن النازحين الذين لم يتمكّنوا من العودة قسم من أهالي الضاحية الجنوبيّة الذين دمّرت منازلهم أو تضرّرت بشكل جعلها غير قابلة للسكن. “باقون هنا حاليًا، لا نملك مكانًا نذهب إليه، ولا أعرف إن كان من الممكن أن نبقى هنا طويلًا، لم يطلب منّا حتىّ اللحظة أحد إخلاء المبنى” تقول رشا وهي النازحة من أوتستراد هادي نصرالله إلى حيّ السلّم قبل توسّع العدوان ومع بدء استهدافات الضاحية، ومن ثمّ من حيّ السلم إلى العازاريّة بعد توسّع العدوان. منزل عائلة رشا على الأوتوستراد تهدّم. أمّا المنزل في حي السلّم والذي كانت تتشاركه مع بيت عمّها فمتضرّر بشكل كبير وغير قابل للسكن، كما أنّ رشا لا تعرف إن كان صاحب المنزل سيُجدّد لها عقد الإيجار أو إن كان سيرفع البدل: “بيت صاحب الإيجار تهدّم أيضًا، فلا أعرف إن كان سيطلب مني إخلاء هذا المنزل ليسكن فيه” تقول. لا تملك رشا وعائلتها أيّ مكان تتوجّه إليه حاليًا، فحتّى بيت أهلها في قريتها في بليدا تهدّم، وهي حتّى اللحظة لا تعرف مصيرها ولكنّها تحتاج إلى مركز إيواء في انتظار تدبّر أمورها.
كما رشا تُخبرنا سمر أنّ منزلها ومنزل أبيها كلاهما متضرّران بشكل كبير. “نصف المبنى على الأرض، وطبعًا سيتمّ هدم المبنى وإعادة بنائه” تقول. حين نزحت سمر قبل أكثر من شهرين من منزلها في الشيّاح اضطرّت للنوم ليلتين في الشارع “نمنا جنب البيال قبل أن نأتي إلى هنا” تقول وهي تخاف حاليًا أن تواجه المصير نفسه وهي حامل في الشهر السابع “نحن 15 فردًا مع أهلي وأخي، وكلّنا بلا بيوت لا نعرف أين سنذهب، في حال إخلائنا” تُضيف.
بعض من التقيناهم اعتبروا أنّ نزوحهم سينتهي قريبًا إذ إنّ عودتهم مرتبطة بإعادة البنى التحتيّة تحديدًا المياه والكهرباء وليس بإعادة إعمار منازلهم، كما أم إبراهيم التي انتقلت مع وقف إطلاق النار من مدرسة رأس النبع إلى المدينة الرياضيّة. تُخبر أم إبراهيم أنّ بيتها متضرّر ولكنّه صالح للسكن في حارة حريك إلّا أنّ غياب الكهرباء والمياه يمنعها من العودة حاليًّا. “ما أن تعود الكهرباء والمياه حتّى نعود لن يطول نزوحنا” تقول.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.